العفاريت النانوية وتلوثات البيئة

غالبًا ما توصف النانو تكنولوجي بأنها محرك الثورة الصناعية القادمة التي ستحل كمبيوترات بحجم الموليكولات (الخلايا) مكان رقيقات السيليكون. وستؤدي “نانوبوتات” (روبوتات مجهرية) وظائف تؤديها معامل تتكلف مليارات الدولارات، لذا تهتم الحكومات والهيئات العلمية المختصة في أمريكا وبريطانيا وغيرهما، بإجراء الدراسات والبحوث حول “المحاذيـر البيئية”، وإرشادات “السلامة المهنية” المرتبطة بـ”تقنية النانـو”.

الدرس الذي تعلمته البشرية من مشكلات تغير المناخ المتمثل في “الاحتباس الحراري” و”ثقب الأوزون” و”تلوث الماء والهواء والتربة” وغيرها من المشكلات البيئية، هو ضرورة الحذر والحيطة، وإجراء الدراسات المسبقة للتطبيقات التقنية والصناعية المختلفة.

عندما اقتحم “عفريت ماكسويل” (Maxwell`s demon) التاريخ العلمي، أجرى الفيزيائي الأسكوتلندي الشهير “جيمس كلارك ماكسويل” تجربة ذهنية في عام ١٨٦٧م تخيل فيها “مخلوقًا ذريًّا” يقف حارسًا على “بوابة ذرية” تقع بين وعاءين يحتويان على غاز فيمنع ذرات الغاز النشطة من اجتياز البوابة، ويسمح لتلك الأقل نشاطًا بعبورها لينتهي الأمر بتنظيم جزيئات الغاز، بحيث تجتمع الذرات النشطة في وعاء، وتبقى الذرات الأقل نشاطًا في الوعاء الآخر.

يعتبر الفيزيائي “جيمس ماكسويل” أحد أهم الفيزيائيين في التاريخ البشري، أن هذه التجربة الذهنية كانت مجرد محاولة لإثبات إمكانية انتهاك “القانون الثاني للديناميكا الحرارية”، ولم تفلح التجربة في إثبات ذلك لأن الشروط الفيزيائية المحيطة بالتجربة -في نهاية المطاف- كانت تعمل لصالح هذا القانون الذي يبقى إلى يومنا هذا مبدأ راسخًا من المبادئ الأساسية في الفيزياء.

وما تركته تلك “التجربة الذهنية” التي ولدت من أثر دفين وهاجس مقيم في تفاعلات دنيا الفيزياء، وهو تلك الرغبة الجامحة في التحكم في الذرات والجزيئات وترتيبها على النحو الذي يرغب فيه العلماء؛ فالذرة، -كما هو معلوم- هي البنية الأساسية في المواد، والجزيء هو ناتج عن اتحاد مجموعة من الذرات لتكوين مادة جديدة. وبالتالي فإن الذرات والجزيئات هي التي تحدد سلوك المواد وتفاعلاتها وظواهرها، مما يعني أن التحكم في كل ذرة أو جزيء على انفراد، يفتح آفاقًا علمية وتقنية لا تخطر على بال.

لذا لم يكن غريبًا أن يطرح أحد أبرز فيزيائيي القرن العشرين البروفسور “ريتشارد فينمان” في عام ١٩٦٥م تصورًا علميًّا في محاضرة شهيرة بعنوان “هناك متسع كبير في القاع”، حيث تساءل عما يمكن للإنسان أن يفعله في حال السيطرة على الذرة المنفردة، وتحريكها بحرية وسهولة لصناعة مواد وآلات ستكون لها خصائص فريدة، لأن المواد على هذا المستوى الذري تتمتع بخصائص فيزيائية وكيميائية تختلف عن خصائص الأجسام الكبيرة من المادة نفسها، كما أن خصائص الأشياء الصغيرة تتغير مع تغير أحجامها وفقًا لما يعرف بـ”قوانين القياس”، مما سيتيح أمام المهندسين فرصًا غير مسبوقة في تصميم مواد متطورة، لها خصائص متنوعة ومتغيرة مع تغيير حجم المكونات فقط.

  • إغراءات نانوية

لا تعتمد شركة Nanosys Inc حديثة التأسيس في سيليكون فالي، التي تتزايد قوتها بسرعة في هذا المجال الصناعي الهاجع في الوقت الحاضر، على مثل هذه الرؤى لكي تحول نفسها إلى حقيقة في القريب العاجل. إنها تبني فقط نشاطًا تجاريًّا على الإمكانات قريبة الأمد؛ بأمل تحقيق بعض الأرباح وترسيخ الأساسات لمستقبل ما. غير أن ذلك يعني أن نظرة الشركة ضيقة؛ فالشركة تنشط في مجال تطبيقات متعددة ومتفاوتة من الخلايا الشمسية إلى المجسات والألياف والإلكترونيات المهندسة بالنانو، وهي منصرفة في الوقت نفسه إلى التطور والترخيص لتكنولوجيات نأمل أن تدعمها وتقوي عضلاتها التجارية.

يقول “ستيفن أمبيدوكلس” الشريك ومدير قسم التطوير التجاري في الشركة: “إننا نركز على أشياء بسيطة جدًّا اليوم، أشياء نستطيع أن نعملها خلال السنتين المقبلتين لكي ننزلها إلى السوق حتى تتوفر تقنية النانو للناس بلمح بصر”.

والواقع أن هذه المقاربة البراجماتية، قد لا تكون دراماتيكية على غرار ما يجري في الخيال العلمي، ولكنها تجتذب الكثير من الانتباه والاستثمار.

لقد وقع الرئيس الأمريكي على مشروع قانون لإنفاق حوالي ٣.٧ مليار دولار على العمل في ميدان تقنية النانو. كما أن المختبرات التابعة للشركات تستثمر أموالاً كثيرة في هذا المجال في وقت أنشأت الجامعات ما يزيد عن ١٠٠ معهد أبحاث في مختلف أنحاء البلاد.

إن جزئيات من حجم النانو، لها مزايا فريدة تجعلها مغرية بصورة خاصة. فتقنية النانو تستطيع أن تصنع المواد بصورة أسرع وأفضل وأرخص ببناء المواد ذرة فذرة، عن طريق تفاعلات كيميائية في أوان وقوارير لا تزيد قيمتها عن عشر دولارات، بدلاً من المعامل والمصانع التي تكلف مليارات الدولارات، والتي تستخدم فيها صناعة المواد شبه الموصلة.

وهدف شركة نانوسيس، أن تصبح مورِّدة لأجهزة تقنية النانو الأساس تستطيع الشركات التجارية الأخرى تسويقها دونما حاجة إلى معرفة التفاصيل -بنفس الطريقة التي تقوم بها شركات صنع الكومبيوتر بإدماج الميكرو رقيقات التي تصنعها شركة Intel Corp في منتجاتها. لذا أسس ثلاثة رجال أعمال هم “لاري بوك” و”كاليفين تشو” و”أمبيدوكلس” شركة نانوسيس، وقاموا بتوظيف ١٢ من كبار الباحثين ليكونوا مستشاريها العلميين الخاصين، وتستعمل الشركة استثماراتها لترخيص الملكية الفكرية وتطوير ملكية خاصة بها. وحتى الآن تملك حوالي ١٥٠ براءة اختراع تم الحصول على ثلثها بالترخيص من مراكز تقنية النانو في مختلف أنحاء العالم، والباقي طورته بنفسها.

يقول “جون أم أ. روي” خبير السياسة التقنية في شركة ميريل لينتش: “إن تقنية النانو، شركة تساعد نانوسيس على البروز، فالكل يتكلمون عن الملكية الفكرية، ولكن قليلين يركزون فعلاً عليها كعنصر محوري أساسي”. ويحرص “أمبيدوكلس” على عدم المبالغة في الحديث عما يمكن عمله في المستقبل القريب، إذ يقول: “فقد تكون الكمبيوترات الخلوية ممكنة الصنع في المستقبل البعيد، ولكن نانوسيس لا تسعى إلى الإحلال مكان إنتل كروب غدًا. إن نظرتنا مختلفة؛ إنها في الأساس تبحث عن فرص الثمار الواطئة على جانبي الدرب”. وفي مختبرات نانو سيس، يعمل الباحثون على مواد من حجم النانو تطرد الماء بكفاءة عالية، إلى درجة أن قطرات السائل تنعكس من السطح. وتسجل الشركة أيضًا تقدمًا في مجال الإلكترونيات التي تحتاج إلى فراغات سوبر مسخنة، وغرف نظيفة على غرار ما تحتاج إليه تكنولوجية شبه الموصلات.

والطريقة الفوتوفولتية -أي تقنية تحويل أشعة الشمس إلى كهرباء- تختلف عن الخلايا الشمسية السيليكونية البلورية غالية التكاليف المستعملة حاليًّا. ويؤمل أن تصبح الطريقة قابلة للطلي على الأسطح أو مزجها مع مواد بناء، عن طريق هندسة النانو.

إن نانوسيس ليست بصدد محاولة إعادة اختراع العجلة بجوانب مثيرة وغير ثابتة الجدوى مثل الأنابيب الكربونية النانونية التي يروج لها آخرون، وهي تقنية واعدة ستوفر مواد أقوى من الفولاذ وخواص كهربائية ممتازة، إلا أنها غير جاهزة بعدُ للحديث عنها. إلا أن مشكلة الأنابيب الكربونية النانونية، هي أنه لا يمكن صنعها بطريقة متحكم بها، حيث إن كل عمليات تصنيع الأنابيب الكربونية النانونية تنتج كل أنواع الأنابيب النانونية دفعة واحدة.

لكن رغم وجود فريق الباحثين المرموقين، وامتلاكها لبراءات الاختراع والتطبيقات القابلة للتحقيق في المدى القريب، فإن شركات تقنية النانو بصورة عامة، يتوجب عليها أن تقدم شيئًا يرضي توقعات المستثمرين، وإلا فإنها ستجازف “بتنفيس فقاعة الاهتمام” حسب ستان وليامز، مدير قسم أبحاث العلوم الكمية في شركة هيوليت باكرد، الذى يضيف: “إن شركة نانوسيس تملك المواهب ولديها المال.. لكن العبرة الآن في التنفيذ”.

  • انطلاقات وتخوفات

من تلك المنطلقات الواعدة، يتوقع المراقبون أن تشعل “تقنية النانو” سلسلة من الثورات الصناعية والاكتشاف العلمية خلال العقدين القادمين، ولذا بدأ السباق المحموم في أبحاث وتطبيقات “النانو” على المستوى العالمي. ويُتوقع أن تكون البحوث والتقنيات “النانوية”، أكبر المشروعات العلمية التي ستتولى الولايات المتحدة الأمريكية تمويلها منذ سباق الفضاء في الستينات من القرن الماضى.

إن “تقنية النانو” تمثل “الجيل الخامس” بالنسبة لعالم الإلكترونيات، وهو الجيل الذي يفتح الآفاق أمام أدوات وأجهزة تصنع على مقياس “النانومتر”، لتحدث انقلابًا جذريًّا في الأجهزة والتطبيقات؛ فللحجم اعتباره المهم في عالم الحاسب الآلي والإلكترونيات، ولذا من المتوقع أن يصبح الحاسب الخارق الموجود في مراكز الأبحاث والتطوير أو في الجامعات الكبيرة، مجرد ساعة يد نتزين بها في المستقبل القريب.

وأما المباني والآلات فإنها ستستطيع إرسال إشارات لاسلكية عندما تحتاج إلى صيانة، أو قد تستطيع إصلاح نفسها.. وسنرتدي “ملابس ذكية” تأخذ بيانات عن صحتنا وتنبهنا لعوامل بيئية مضرة، كما أنها ستنظف نفسها من الأوساخ والروائح دون أية مساعدة، وستقوم بتدفئة أو تبريد الجسم حسب درجة الحرارة الخارجية.

في الوقت الذي تفتح فيه “تقنية النانو” آفاقًا جديدة واعدة أمام مستقبل البشرية، فإنها -بطبيعة الحال- تحمل محاذيرها وأخطارها؛ فنجد أن البعض يتخوف من تطبيقات مستقبلية لتقنية النانو في مجال “التجسس” مما يثير هواجس بشأن “الحريات المدنية” للمواطنين.. وهناك مخاوف أخرى في مجال التطبيقات العسكرية.. وتطرح على الساحة أيضًا أسئلة حول “أخلاقيات التطبيق” في مختلف المجالات، مما يضع على المحك هواجس أخرى حول طبيعة المجالات التي ينبغي فيها استخدام “تقنية النانو”.

أما أبرز التخوفات، فهي “الاعتبارات البيئية” لتقنية النانو، وآثارها على العاملين في صناعاتها، مما يضيف إلى قائمة متنامية من أنواع التلوث نوعًا جديدًا هو “التلوث النانوي”؛ فالتخوف كبير من انتقال الجسيمات والتركيبات “النانوية” إلى الجسم البشري، حيث إن هناك مؤشرات على أن أحجامها المتناهية الصغر، ستقود إلى تأثيرات ضارة على خلايا الجسم، كما أن بإمكانها اختراق خلايا النبات والحيوان مؤدية إلى آثار غير معروفة.

______________________________________________________________________________________________________________

المراجع

(١) نشرات صادرة عن شركة Intel Corp بتواريخ متعددة

 نشرات صادرة عن Nanosys Inc بتواريخ متعددة.

(٣) مجلة Small Time Media أعداد مختلفة.