تكنولوجيا التواصل الحديثة والتغيير المجتمعي

منذ أزيد من عقدين وثورة المعلومات تُحدث تغيرات جذرية تطال جوانب الحياة المعرفية والقيمية والاجتماعية للإنسان. هذه التغيرات تؤدي إلى زعزعة المواقف بسبب تجددها المستمر، وإلى تأسيس بنى مُعدلة جديدة تنال القبول ويُفسح لها المجال للانتشار شرقًا وغربًا قبل أن تتغير هي الأخرى بعد مدة. وأما المعلومات المسؤولة عن هذه التغيرات، فهي تستمد جل قوتها التأثيرية من طريقة تقديمها وليس من ذاتها، وهذا ما تشير إليه نظرية الخطاب.

يقدم “بيل آشكروفت” مفهوم الخطاب عند “ميشيل فوكو”، على أنه نظام من العبارات الذي يمكن من خلاله معرفة وتشكيل العالم، أي أن العالم يدخل حيز الوجود المعنوي عبر الخطاب نفسه، ولا وجود معنوي له بدونه. ولعل ما يميز “الخطاب” عند “فوكو” هو قدرته على بناء الموضوع وليس فقط الحديث عنه، فبالنسبة له، يحمل الخطاب في ثناياه أكثر مما توفره الفكرة التقليدية للمصطلح، أي أنه أكثر من مجرد كلمات بسيطة تقدمها اللغة. فهو يستخدم هذه الأخيرة كأداة لتشكيل صورة لموضوع ما، هذه الصورة تمثل انعكاسًا لتصوُّر معين قد لا يتفق أبدًا مع حقيقة الموضوع.

في العالم الحديث، تصنف وتعرف الدول والأعراق والأديان، وفق صور نمطية جاهزة -أساسها خطاب معين- فيها القليل من الحقيقة والكثير من الخيال، تعد من طرف الأقوى، تنشر عبر مؤسسات مختصة، تتداول بمساعدة تكنولوجيا التواصل.. ثم يتبناها الجميع -بمن فيهم معظم المعنيين بها- فتتشكل هويتهم وفق تفاصيل الصورة حتى تختفي الحقيقة بعد أجيال لتحل محلها الصورة بالمطلق. ومن هذا، رُبِط الإسلام بالعنف والإرهاب حتى بات جل جيل الألفية الثانية من المسلمين يربط بدوره الإرهاب باللحية والثوب الطويل.

في الواقع، لا تعدو تكنولوجيا الاتصالات الحديثة أن تكون مجالًا لعرض الخطابات إذا جاز التعبير. غير أنه في حين ظل الإعلام الرسمي مهيمنًا على الساحة لعقود، محتكرًا حق التأثير على مستخدميه وبناء أنماط فكرية وسلوكية أحادية التوجه، خدمة للمخططات الرسمية، مرتكزًا على قوة الخطاب البنائية.. أسفر تطور تكنولوجيا الاتصال في العقدين الأخيرين، عن خلق إعلام مواز للإعلام الرسمي، من خصائصه التفلّت من آليات الرقابة التي تفرضها الحكومات على ما يصدر عن إعلامها المحلي. هذا الإعلام الموازي -على بساطته من الناحية التقنية- كان عينًا، يرى من خلالها العالم حقائق على الأرض اعتادت أن تكون محجوبة، وكان صوتًا لمن أسماه “أنطونيو غرامشي”؛ “التابع” الذي كان مجردًا قبلها من ميكانيزمات القوة، فلم يكن له صوت يوصل به رأيه إلى أن جاءت هذه الثورة فجعلت صوته مسموعًا.

خصائص كثيرة تتبادر إلى الذهن بمجرد التفكير في هذه النوافذ التفاعلية الجديدة.. خصائص ذات حدين؛ حد مشرق، ولعل أكثر ما يشرق فيه السرعة والحرية في الوصول، أي الوصول إلى والتفاعل مع المعلومة، أما على الحد الآخر، فهذه الخصائص نفسها تصير وبالاً. فلإنْ كانت قوتها في البداية ظهرت في زيادة الوعي بما يجري على الأرض في كل البقاع، ومن ثم تحريك الغضب داخل النفوس تجاه العنف والتهميش والظلم مثلاً، أو اتجاه كل ما يستفز إنسانيتهم عمومًا، فإن ما وصلت إليه اليوم هو قتل الإنسانية في دواخلهم ليحلّ مكانها التعايش والتطبيع مع الألم والمعاناة ومع الدم. إن إمكانية ولوج جميع الفئات العمرية إلى كل معلومة مهما كانت درجة خطورتها، من شأنه أن يخلق نوعًا من الفوضى الاجتماعية التي قد لا يتمتع فيها الراشد بذلك الدور التقليدي في تحديد ما هو إيجابي أو سلبي، ويصير كل قادر على الولوج للإنترنت، مطلعًا على ما يقدمه ومستوعبًا لكل الأفكار والمعلومات مهما كانت، وهذا لا بد منعكس بالسلب على المجتمع. ناهيك عن مصيبة المعلومات المفبركة أو المضخمة التي تستهدف النيل من وحدة الأوطان بإذكاء النعرات بين أبناء المجتمع نفسه وبين أبناء الدين الواحد، فما بالك بما يفعله بين أبناء الثقافات المختلفة وما يبثه في نفوسهم من احتقان ومن رغبة في الانتقام!

فيما يتعلق بالقيم الثقافية، نقلت هذه التكنولوجيا العالمَ من عالمِ الجماعية إلى عالمٍ تسيطر عليه الفردية، وهو ما أدى إلى انحصار طموح الفرد في ما يحقق مصالحه الخاصة غير عابئ بمصلحة الجماعة -الوطن أو الأمة- فتغيرت مع هذا التحول مفاهيمُ قيم أخرى كقيمتي الصواب والخطأ. ولعل هذا التحول، هو التحول الأخطر على الإطلاق لكون القيمتين أصبحتا نسبيتين إلى درجه تكاد تجعلهما يحتملان الشيء وضده، وهو ما يجعلهما تسيران نحو اللامعنى. كما أن إشارات التقييم (الإعجاب والسخرية) التي تسمح لكل مستخدمِ إنترنت أن يدلي برأيه حول موضوع أو فيديو أو صورة، تعطي صفة قبول المجتمع أو رفضه للمعطى؛ فتتشكل في ذهن البقية معاني جديدة للصواب مبنية على رأي المجتمع الممثل في تلك التقييمات، ويُحمل المتلقي على أن يسير مع التيار أو أن يتهم نفسه إنْ وجد نفسه بعيدًا عن الموافقة، في حين قد حصل المنشور على كثير من الإعجاب أو العكس.

يبدو الأمر هنا معقدًا جدًّا، لأن عدد التقييمات الإيجابية أو السلبية في فضاءات التواصل الافتراضي، مرتبط بعوامل عدة، نادرًا ما تكون جودة وقيمة الشيء المقيم جزءًا منها. فهناك من يتخذ التقييم عادة ويعبر دون الاطلاع على تفاصيل الموضوع، وهناك من يقيم على اعتبار علاقته بصاحب الموضوع، وهناك من هو غير قادر على استيعاب المحتوى إن لعمره أو لمستواه العلمي أو الفكري.. وقد يعطي كل ذلك انطباعًا معينًا قد لا يكون حقيقة رأي المجتمع، ولكنه يُتخذ اليوم كاستبيان مجتمعي تعاد من خلاله صياغة الأحكام والمفاهيم، والتدخل في المنظومة القيمية للمجتمع.

من الناحية الاجتماعية، حلت العلاقات الافتراضية القائمة بين “صور” ينشؤها أصحابها لتسويق أنفسهم، محل العلاقات الحقيقية. في البداية، كانت هذه العلاقات تؤثر سلبًا على العلاقات الأسرية والعائلية وعلاقات الصداقة، بانسحاب المرء والتوقف عن الوفاء بالتزاماته نحو هذه الأخيرة لاندماجه الروحي الكامل في علاقاته الافتراضية. غير أن ما نلحظه الآن أخطر؛ حيث بدأ الإنسان يستقدم خصائص العلاقات الافتراضية وما تقوم عليه من مظاهر، وما يطبعها من العمر القصير والمزاجية وعدم المسؤولية وغياب الالتزام، ويجعلها تحكم علاقاته الحقيقية التي يفترض أن الأصل فيها الديمومة والاهتمام بالجوهر، وأن تبنى على التقارب والصبر وبذل الجهد لأجل إسعاد الآخر، وليس هذا مستغرب في عالم أصبحت هشاشة الروابط الإنسانية سمة مميزة له، بل والسمة المميزة لحياة وصفها “باومان” بـ”السائلة”.

باعتبارها فضاء لإنتاج واستقبال الخطاب، تملك تقنيات التواصل الحديثة قوة تأثيرية عظمى تعيد هيكلة مجتمعاتنا وبناء تمثلاتنا حول ذواتنا وحول الآخر، كما تعيد تشكيل منظوماتنا القيمية والأخلاقية، وتحكم علاقاتنا الاجتماعية، غير أننا -إلى الآن- عاجزين عن التنبؤ بمنحى التغير الذي تحدثه على المدى البعيد. هو الآن يبدو فوضى أكثر من شيء محدد المعالم، غير أن الأمل باق في أن تكون أجيال ما بعد صدمة ثورة التكنولوجيا أكثر وعيًا وأقل انبهارًا واستيلابًا فتطوعها لتوجيه التأثير نحو المنحى الإيجابي. 

(*) كاتبة وباحثة / المغرب.

المراجع

(١) Gareth Griffiths, and Helen Tiffin Bill Ashcroft. 2013. POSTCOLONIAL STUDIES, The Key Concepts. Third edition . New York : Routledge، 2013.

(٢) Michel Foucault. 1972. The Archaeology of Knowledge and The Discourse on Language.Tr. A. M. Sheridan Smith. New York : Pantheon Books، 1972.

(١) الخوف السائل، زيجمونت باومان، المترجم: حجاج أبو جبر، بيروت، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، ٢٠١٧.