هل شاهدتم أفعال ذابح الدجاجات في متجر الدجاجات؟ فأولاً يلقي يديه في الأقفاص بعد حد شفرته. فترون هلع الدجاجات واضطرابها واقشعراراها وتطير شعاعًا. فهي تقشعر عندما ترى أذرع المنية التي تمتد إليها. فتجري شرقًا وغربًا وتلهث أشتاتًا وتختلف زاوية وزاوية وتهيج الطبيعة بضوضاء الخوف واللهف خشية على فقدان قبلها وقالبها وجفاف ماء حياتها. ولكن أين المفر؟ وأين الملاذ؟ وتقع تدريجيًّا في أيدي الذابح بشكل أو بشكل آخر لا محالة. وبعد ذبح حلقومها يقوم صاحبها بكشح جلدها عن ذاتها وجعلها عارية من الريشات. ثم يقوم بقطعها وقصها وقلمها وتجزئتها إربًا إربًا. والدجاجات الباقية في الأقفاص تشاهد هذه المناظر الهائلة بخوف وإزعاج. ولكن ذلك الخوف والرهب يضمحل إثر الدقائق التالية، ويغرب في النسيان والخمول، وتعود إلى حالتها الأولى من أكل وشرب وحلم وقعود. ولو كان ذلك اليوم رابحًا لصاحبها أمست الأقفال خالية هادئة مطمئنة.
فالدجاجات تحمل صفتين تابعتين لها كل حين وحين، الأولى: المخافة على الذبح والثانية: النسيان كل النسيان. فتفر فرار الخوف والقلق عند الذبح وتلتقط وتأكل كل الحبوب وتشبع أقصاها عند النسيان. وهلا فكرتم أنه لا تخلو حياتنا أيضًا عن هاتين الصفتين القبيحتين. وكيف؟
ينبغي لنا أن نقضي المدد المؤقتة والآجال المحددة في هذا القفص الدنيوي المادي. ولا يظفر أي فرد بالفرار من هذا القفص. ونقضي الأيام والليالي على المآكل والمشارب والمطارب والملذات. وكل نفس إذا جاء أجلها ينزعها ملك الموت من العالم الوجودي إلى عالم آخر ويسرقها من مقر جسماني إلى مقر روحاني. فلا يفلح المتمرد أي فلاح ولا ينجح المعادي أي نجاح من قبضة الملك المهيب. فإذا قبضت نفس أصبحت النفوس الأخرى حيارى، وأخذتها المخافة والفجعة بأسرها. ولكن ينمحي ذلك الخوف اضمحلالاً. وسنعود إلى سيرتنا الأولى، وطبيعتنا العادية سرعان ما غادر قابض الأرواح.
أما الأقفاص فهي كبيرة في خيال الدجاجات حيث هي تصبح مرعاها، وتمسي مأواها. ولكنها صغيرة الحجم، تافهة الشكل بالنسبة إلينا. فكذلك العالم العظيم الفصيح عندنا يصير عند الخالق تعالى حقيرًا. ونقول إن الدجاجات تأكل وتشرب وتنهمك فيما لا طائل فيه لأنها لا يسع لها الأجل للتمتع والتلذذ. إما أن تصبح ضحية المدية وإما أن تمسي ضحيتها غدًا. فلا تختلف ولا تتغاير حالتنا عن حالتها أصلاً. يعني ليس الوقت من صالحنا للمرح والفرح والإسراف والتبذير. ولا نتعايش كلما أشرقت الشمس والأقمار ولكن نكمل برهة من الزمان ونغادر متن الأرض إلى قدمها.
ونحن جهلة عن آجالنا وقبض أرواحنا كما تجهل الدجاجات متى يدمي حلقومها، وتسلخ ريشًا وجناحًا، وتكشح جلدًا ولحمًا. عادة ما تذبح الدجاجات في ظاهرة النهار. ولها مهلة الاطمئنان وسكون القلب والاستقرار عند ما يأوي إلى فراشه في قاتمة اليل. ولكننا لا نحظى بتلك المهلة أيضًا، لأن صاحب دكاننا-أي الرب العزيز- لا يغلق دكانه ولا يأوي إلى فراشه. فربما نقبض بالسحر القر ونصبح ميتين، وربما نسقط كضحايا القبض في الغفلة والذهول. ولا يباين صاحب الدكان بين الدجاجات، فتارة يأخذ الكبرى ويترك الصغرى، وبالعكس، ولكنه يمسك التي تظل رغبة العملاء والمشترين. فكذلك المنية ليست مقصورة على الكواهل فقط، لأنها تهاجم أي فرد وتفاجئ أي نفس. فيفارق الولد قبل الوالد، والحكيم قبل العليل الذي عالجه، والقوي قبل الضعيف، والغني قبل الفقير، والشبعان قبل الجائع.
فالمنية ليس لها ميلان إلى أي عمر خاص، حيث إن الأعمار كلها سوية عندها. فالدواء الوحيد، والحل الفريد هو ألا نولد لكيلا نموت. ولكن تلك الكلمات من سقط المتاع، لأننا وُلدنا وكُتب على عاتقنا أن نؤدي عوامل الحياة وحق علينا ذوق المنية من غير بد.
وتطير الدجاجات الأخرى شعاعًا عندما تؤخذ واحدة من زمرتها للذبح. وتبرد فينة من الزمان ويجف ماء عيونها وتبرح الأكل والشرب في ذلك الوقت. وتظل في غاية الانتباه وقمة النشاط والوعي الأصيل. ولكن تندر تلك الخصلة الرائعة أيضًا في حياة الإنسان. وليس فينا -معاشر العقلاء الحقراء الناطقين- ثقافة الدجاجة المرموقة. وكيف ذلك؟ لأن البعض يحتفل بفراق البعض ويكون موت البعض للبعض عيدًا وسرورًا، ويعود للبعض مهرجانًا وفطورًا. ويتمثل البعض قاتلاً وفاتكًا، والبعض غادرًا وخائنًا. ولكن لا تجرؤ أية دجاجة على دفع أختها إلى المنية، ولا تجسر عمدًا على إلقاء أختها إلى التهلكة! ولكن هذا الإنسان المثقف العاقل الحقير الغدار الفاجر يقترف بجل هذه القذائر ويرتكب كل هذه الجرائم.
ربما تدمع أفئدة الدجاجة عند ما ترى أختها تُذبح وعندما تشم الدم. ولكن تلك الدموع والعبرات تكونت من حزنها وخشيتها في حق نفسها وحق روحها. فعندما نسمع نعي إنسي أو نتفق بموت قريب وشيك لا يليق بنا أن نذرف الدموع تأملاً على حالة الميت القريب. ولكن لا بد لنا أن نصرف أفكارنا وخيالنا إلى التفكر على أرواحنا والتأمل على أنفسنا مع قلب جبان وفؤاد يراع.
وتلك الفكرة عن المنية تملأ أفئدتنا بالمحاسن والمكارم وتلجم أيدينا إلجام المعارف والحسنات وتقودنا إلى دار الرفاهيات والملذات. ومع مرور الأيام يفرغ عدد الدجاجات ويبقى الذابح وحيدًا بسكينه حتى الموعد الآخر فكذلك كل شيء فان إلا وجه الله سبحانه وتعالى.