لا يخرج الشعر الصوفي عن سياق الشعر العربي عمومًا من حيث ارتباطه بالحياة الاجتماعية للإنسان العربي وتعبيره عن الجانب الوجداني والروحي للإنسان؛ غير أن الشعر الصوفي يمتاز باستغراقه في الجانب العرفاني للإنسان والذي يجعل الشاعر بالضرورة يتجه إلى الخيال للتعبير عن الإشارات الصوفية التي لا يدركها إلا من ذاق التصوف ممارسةً وإيمانًا؛ فقد صاغ الشاعر الصوفي هذه الإشارات في الشعر الذي يعتبر أكثر استجابة للخيال والتعبير الإشاري، ما يجعل معظم أقطاب الصوفية شعراء عبروا عن ارتباطهم الروحي وعن عشقهم الإلهي شعرًا معتمدين على الخيال وعلى لغة تشتغل على الاستعارة والرمز وتقوم أسلوبيًّا على الانزياح.
وقد لجأ الشاعر في تصوير لواعج هذا العشق الإلهي إلى عالم الطبيعة والواقع مجالاً لرسم صوره الشعرية من استعارات ورموز تشير إلى ذلك الجانب الوجداني والروحي لدى الشاعر، وتصور ذلك التعلق بالله عز وجل، في أسمى عبارات التمجيد والمحبة، ومن ثمَّة، فقد كان الرمز الوسيلة الأساس للتعبير عن هذا الوجدان الصوفي الذي لا يمكن أن يسعه قالب آخر غير الشعر.
موضوعة الحب في الشعر الصوفي
تعتبر موضوعة الحب من بين أهم الموضوعات التي اشتغل عليها الشعراء الصوفيون في قصائدهم، هذا الحب أو العشق الإلهي الذي يصل درجات عليا لا يسعها التعبير المباشر واللغة اليومية، وإنما يسعها التعبير الإشاري والمجازي واللغة الإيحائية والانزياح الأسلوبي والإغراق في الرمزية التي تفتح المجال للمتصوف للتعبير عن تلك الصلة التي تربطه بالمحبوب، وتستحضر المعاني الخفية التي يصعب على الوشاة ومن ليس لديهم ذوق صوفي فهم المقصود.
ولعل من بين أهم الشعراء والشواعر الذين خلدهم الشعر الصوفي رابعة العدوية (100 هــ- 180 ه)، والتي لم تستطع كتمان بوحها بما يعتصر قلبها من حب ومن عشق إلهي كما في قولها:
عـرفت الهـوى مذ عرفت هـواك | وأغـلـقـت قلـبـي عـمـن سـواك |
وكــنت أناجيـــك يـــا من تــرى | خـفـايـا الـقـلـوب ولسـنـا نـراك |
أحبـــك حـبـيــن حـب الهـــــوى | وحــبـــًّـا لأنـــك أهـــل لـــذاك |
فــأما الــذي هــو حب الهــــوى | فشـغلـي بـذكـرك عـمـن سـواك |
وأمـــا الـــذي أنــت أهــل لــــه | فكـشـفـك للـحـجـب حـتـى أراك |
فـلا الحـمد فـي ذا ولا ذاك لـــي | ولـكـن لك الـحـمـد فـي ذا وذاك |
إن حب الشاعرة هنا يفسر تلك العلاقة الوجدانية التي جعلتها تنشغل بذكر الله تعالى عن كل شيء وتنخرط في التعلق بالجمال الإلهي الذي لا نظير له في عالم الإنسان، ولا في حياة العاشقين.
ومن بين الشعراء الذين أفناهم العشق الإلهي عن التعلق بالدنيا وأخذ منهم كل مأخذ الشاعر الأندلسي أبو الحسن الششتري الذي يقول:
الْحُــبُ أفْــنــانِــي وكُــنْــتُ حَــيّ | مُــذْ نَــظَــرْت عَـيْـنـي جَهْـرًا إِليّ |
أنَـا قَـد فَـشَـا سِـرِّي بِـلاَ مَـقـالْ | وقـد ظَهَـرْ عـيْـنـي بِـذَا الْمَثال |
ويقول الششتري وقد بلغ من العشق منتهاه، حتى جعله في أعين الناس كالمجنون:
رَضِيَ المتيم في الهوَى بجنُونِه | خلُّوه يفني عُمرَه بفُنونِهْ |
لا تعْذِلوهُ فليْس ينْفعُ عذْلُكم | ليْس السُّلوُّ عن الهوَى من دينِهْ |
قسَمًا بمن ذُكرَ العقيقُ من أجلِه | قَسَم المحِبِّ بحبِّه ويمينِهْ |
مالي سواكم غير أنِّي تائبٌ | عن فاترات الحبِّ أو تلوينِهْ |
المرأة كاستعارة للعشق الإلهي
تحضر المرأة في الشعر الصوفي بشكل لافت، بحيث إنها من الخصوصيات المشتركة عند جل شعراء الصوفية، إذ إن المرأة تبقى رمزًا واستعارة للحب الإلهي، بحيث لم يجد الشاعر من وسيلة للتعبير عن جمال ما يجده ويراه من مكاشفات صوفية ووجدانية وما يتعلق به قلبه من عشق إلهي سوى المرأة كرمزية واستعارة.
وعلى شاكلة شعراء الغزل كجميل بن معمر أو قيس بن الملوح اتخذ الصوفية لهم أسماء يُكنُّون بها عن العشق الصوفي وعن معشوقهم، فمن الشعراء من اتخذ اسم ليلى رمزية لهذا العشق الروحي على شاكلة الششتري الذي يقول:
سَلَبتْ لَيْلى مِّني العَقْلا | قلتُ يا ليلى ارحمي القتلى |
حُبُّها مكنونْ | في الحشى مخزونْ |
أيها المفتونْ | هِمْ بها ذلا |
إِنني هائمْ | ولها خادمْ |
فليلى، هنا، رمز للتعبير عن العشق الإلهي اللامحدود الذي يأخذ عقل الإنسان ووجوده أيضًا، وهي رمز للروح بحيث يعتبرها أهل العرفان قد جمعت كل المعاني وكل صفات الجمال. ومن ذلك قول ابن الفارض الذي يلقب ب “سلطان العاشقين”:
هل نارُ ليلى بدَتْ ليَلًا بذي سَلَمِ | أمْ بارقٌ لاح في الزوراء فالعَلَمِ |
أرْواحَ نَعمانَ هَلَّا نَسمةٌ سَحَرًا | وماءَ وَجرةَ هَلَّا نهْلة بفَمِ |
يا سائق الظعنِ يَطوي البيدَ مُعتسِفًا | طَيَّ السّجلّ بذاتِ الشّيح من إضَم |
عُجْ بالحِمى يا رَعاكَ اللهُ مُعْتَمِدًا | خميلةَ الضّالِ ذاتَ الرّندِ والخُزُم |
ومن الشعراء من اتخذ اسم “سلمى” رمزية لهذا العشق ومن أبرزهم شيخ الصوفية محيي الدين بن عربي الذي يقول في إحدى قصائده:
سَلامٌ عَلى سَلمى وَمَن حَلَّ بِالحِمى | وَحُقَّ لِمِثلي رِقَّةً أَن يُسَلِّما |
وَماذا عَلَيها أَن تَرُدُّ تَحِيَّةً | عَلَينا وَلكِن لا اِحتِكامَ عَلى الدُمى |
سَروا وَظَلامُ اللَيلِ أَرخى سُدولَهُ | فَقُلتُ لَها صَبًّا غَريبًا مُتَيَّما |
ومنهم ابن الفارض الذي نجده في إحدى القصائد يمزج بين سلمى وليلى، على اعتبار أن تلك الأسماء مجرد إشارات للعشق الصوفي الذي لا حدود له، يقول:
أبــرقٌ بـدا مـن جـانِـبِ الغَـور لامـعُ | أمِ ارتـفَـعَـتْ عـن وجهِ ليلى البراقع |
أَنَارُ الغضا ضاءتْ وسلمى بذي الغضا | أمِ ابـتَـسَـمـتْ عـمّـا حـكـتـهُ المـدامع |
أنشــرُ خُـزامـى فـاح أم عَـرْفُ حـاجـرٍ | بــأُمّ القُــرَى أم عِــطْــرُ عَــزَّةَ ضــائع |
ألا ليـتَ شِـعـري هـل سُـلَيْـمَـى مـقيمة | بِـوادي الحِـمـى حـيـثُ المُـتَـيَّمـُ والع |
وأخيرًا: فقد كان الشعر الصوفي، في جملته، ذو ارتباط بالخيال والرمز، ولهذا لا يمكن محاكمة الشعر الصوفي خارج مجال الاستعارة الرحب، ويبقى التراث الشعري الصوفي تراثًا عربيًّا مهمًّا، يفيض بالجمال اللغوي والجمال الأسلوبي وجمال المعاني الذي يعكس ذلك الجمال العرفاني الذي يعبر عن سمو روح الشاعر وهي ترتع من بحر العشق الإلهي ومن معين روحاني وعرفاني لا متناه.