هيئات الصلح

ولقد نوّهتُ بكلِّ هذا حتى ألفتَ انتباهَكم إلى أهمّية إصلاح ذات البين، لكنني أكرر مرة أخرى أن عِظَمَ وأهمّية هذه المسألة يُحتّم علينا ألا نُضيِّق إطارها، وأن نشكل فريقًا يُعوّل عليه بالقيام بهذا الأمر، يتكون هذا الفريق من شخصيات تتمتع بخبرات في هذا المجال، لها دراية بنفسية الإنسان بما يساعدها على حسن استقراء ماهية مخاطبيها، تتميز بقوة المنطق، وسلامة الحُجة، وفصاحة البيان؛ حتى يمكنها مساعدة هؤلاء الذين وقعوا في براثن الاستياء والامتعاض.. فمهما سيطر الجهل على المجتمع وظهر الخواء فيه من حيث الدين والتديّن فإن إنساننا مرتبطٌ بربه سبحانه وتعالى ونبيه صلى الله عليه وسلم ويحترم دينه؛ ولذا فبالإمكان تلافي هذا الاستياء الواقع وتدارك الأخطاء والتوفيق بين المتخاصمين من خلال استغلال المقومات والمبادئ العالمية التي أرساها ديننا وخاطب بها الجميع.


كما يمكننا أن نوسِّعَ من دائرة هذه المهمة التي نسميها الوساطة بين المتخاصمين لتتعدى مستوى المحلية؛ بمعنى أن بمقدورنا تفعيل هذا الأمر على مستوى أوسع؛ وكما يمكن تفعيلها في الحي والقرية والمدينة كذلك يمكن أداؤها على مستوى الدولة، بل لنا أن نذهب بالمسألة إلى أبعد من ذلك، ونستغلّها في ترميم العلاقات بين الدول، وهاكم الثواب والأجر الذي وعد به النبي صلى الله عليه وسلم كلّ مَن يسهم في هذا الأمر، يقول سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصِّيَامِ وَالصَّلَاةِ وَالصَّدَقَةِ؟” قَالُوا: بَلَى، يَا رَسُولَ الله قَالَ: “إِصْلَاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ، وَفَسَادُ ذَاتِ الْبَيْنِ الْحَالِقَةُ”.


وقد تندرج الأنشطة الحوارية في أيامنا على مستوى العالم ضمن هذه القائمة. أجل، إن الحوار والانفتاح على كل أرجاء العالم، والإصلاح بين الشعوب، وإعداد إستراتيجية دائمة في هذا الموضوع، وتطوير الأساليب التكتيكية لها بالغ الأهمية في إزالة الخلافات والحروب والاضطرابات الحاصلة، أما الطريق الأمثل في مكافحة الخلاف والفرقة في عصرنا فهو الأنشطة التعليمية؛ بمعنى أن عليكم إنشاء أفرادٍ كاملين من حيث القيم العالمية والفضائل الإنسانية مثل السلم والسماحة والحوار، ليتخصّص هؤلاء في فروع العلم المختلفة، ولكن لا بد أن يكونوا متشبعين أيضًا بالقيم والفضائل الإنسانية، ومفعَمين بمثالية الإحياء، ولْيُجرِ هؤلاء دراساتِ الدكتوراه وما بعدها حتى ينفعوا الإنسانية حيث كانوا، وحينذاك سيُشار إليهم بالبنان، ويصبحون عناصر فاعلة كابحة لزمام الفتن والاضطرابات؛ وبذلك يؤدون مهمة عظيمة في هذا الموضوع؛ وهذا ما نعنيه بالإصلاح على المستوى العالمي، ومن ثم يجب أن تنتقل هذه المسألة من إطارها المحلي المصغر إلى المستوى العالمي الأكبر.
ويمكن لكبار رجال الدولة أن يتحرّكوا من منطلق الاتفاق بين الحضارات؛ فيجتمعوا ويتفقوا معًا على أمورٍ معينة؛ حتى لا تتسبب الخلافات في وقوع أي نزاعٍ أو خلاف.. ولا جرم أن مثل هذا الأمر مهمٌّ جدًّا بالنسبة للإنسانية، بل إنه عمليةٌ لا بدّ من إكبارها والتصفيق لها.. ولكن إن لم تتشبّع الأوعيةُ الدموية للمجتمعات بهذا الأمر؛ بمعنى إن لم تتقبل قاعدةُ المجتمع هذا الأمر، ولم تستوعبْه، أو تجعله جزءًا من فطرتها فستذهب كلُّ المساعي والجهود أدراجَ الرياح، ولذا ينبغي البحث عن سبلٍ حتى يستوعب الشعبُ هذه المسألة، وإن شئتم فاجعلوا من عملية استيعاب الناس لهذه المسألة عونًا لرجال الدولة على أداء مهمتهم، إذ إن هذا الأمر مَنوطٌ بذاك.
إبان الحرب الباردة حدث نزاعٌ وانقسامٌ بين المعسكر الشيوعي والمعسكر الرأسمالي، فدخل بعض من الدول الصغيرة في أحد الحلفين، بينما انضم الآخرون إلى الحلف الآخر، وبسبب هذا التفسُّخ والتحزّب عاشت كلٌّ من هذه الدول مشاكلَ وأزمات كبيرة.. ولكن ما يخطر ببال الإنسان الآن هو: أما كان هناك مُفكِّرون ومثقفون يسعون لحلِّ هذه المسألة دون خلافٍ أو نزاع؟ أما كانت لديهم رغبةٌ في الإصلاح؟ يُخيل إليّ أنه لم يكن! بل أخذ هؤلاء يحرضون دولهم ضد الدول الأخرى حتى يلتهموها ويستأصلوا شأفتها؛ حتى تحول الأمر إلى سباق مسلّح، واستولى كلُّ حلفٍ على منطقةٍ بالعالم واستوطنها.. ولذا فإنني أقول إن معالجة هذه المسألة على المستوى العالمي والبحث عن أساليب للإصلاح بين الشعوب في هذا العهد الذي تيسرت فيه وسائل المواصلات والاتصالات وازدادت فيه الأسلحة الفتاكة يُعدّ من الطاعات التي تصل إلى مستوى العبادات.

الارتحال إلى الآخرة بقلبٍ سليم

إن إقامة وساطة للصلح بين المتخاصمين يعني في الوقت ذاته التخلّق بأخلاق الله؛ لأنه قد ورد في بعض الأحاديث الشريفة أن هذه العملية التي نسميها الوساطة للتوفيق بين عباد الله المتخاصمين إنما هي -إن جاز التعبير- إجراءٌ من الإجراءات الإلهية.. فمثلاً لنفترض أن إنسانًا أكل حقَّ أخيه في الدنيا، ثم انتقل إلى الآخرة حاملاً هذا الذنب على عاتقه، ولكن لأن هذا العبد الآكل لِحَقِّ أخيه له قدرٌ عند ربه يقول الله تعالى لصاحب الحق: “ارْفَعْ بَصَرَكَ فَانْظُرْ فِي الْجِنانِ فَرَفَعَ رَأْسَهُ، فَقَالَ: يَا رَبِّ أَرَى مَدَائِنَ مِنْ ذَهَبٍ وَقُصُورًا مِنْ ذَهَب مُكَلَّلَة بِاللُّؤْلُؤِ لِأَيِّ نَبِيٍّ هَذَا أَوْ لِأَيِّ صِدِّيقٍ هَذَا أَوْ لِأَيِّ شَهِيدٍ هَذَا؟”.
قَالَ: هَذَا لِمَنْ أَعْطَى الثَّمَنَ.
قَالَ: يَا رَبِّ وَمَنْ يَمْلِكُ ذَلِكَ؟
قَالَ: أَنْتَ تَمْلِكُهُ.
قَالَ: بِمَاذَا؟
قَالَ: بِعَفْوِكَ عَنْ أَخِيكَ.
قَالَ: يَا رَبِّ فَإِنِّي قَدْ عَفَوْتُ عَنْهُ.
قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: فَخُذ بِيَدِ أَخِيكَ فَأَدْخِلْهُ الْجَنَّةَ” .
وهكذا نعلم أن تطبيق هذا الأسلوب على الحياة الفردية والأسرية والاجتماعية هو تخلّقٌ بأخلاقِ الله سبحانه وتعالى، فمعاملة الله للناس في الآخرة على هذه الشاكلة بمثابة مرجع قوي بالنسبة لنا، وإنني أرى أنه من الواجب علينا استثمارُ هذا الخلق الإلهي في طريقِ السعيِ الدائم للإصلاح بين الناس.
ولا أتذكر أنني استأتُ لنفسي من أحدٍ يومًا ما؛ ومنذ أربعين أو خمسين عامًا وبعض كُتاب أعمدة الصحف يكتبون ضدي المقالات، فإن ضحكتُ ينتقدون وإن بكيتُ ينتقدون كذلك، حتى وإن كنت في منزلة بين الحالتين لوجدوا وسيلةً قطعًا وكتبوا ضدي أيضًا.. لكنني لم أكن أستاء منهم ولن أستاء، بل على العكس إنني أُشفق على حالهم؛ لأن هذا يعني أن هؤلاء يعانون في العثور على موضوع آخر يكتبون فيه.. ورغم ذلك ما دعوت على أحد منهم قط بدخول جهنم لأن هذا ليس في فطرتي وطبيعتي، بل إنني تعرضت للظلم والغَبن يومًا على يد أحدِ المقرّبين لي، وخطر ببالي في لحظات لو أن الله عاقبه بعذابه الأليم في الآخرة على صنيعه معي؛ لأن هذا الشخص كان عزيزًا عليَّ، ولذا أثّر صنيعه فيّ أيما تأثير، ولكن رغم هذا دخلتُ غرفتي، وقلت لنفسي: “بأي حقّ تقول هذا وتدعو عليه؟”.. ويعلم الله أنني أجهشت بالبكاء في ذلك اليوم وذرفت دموعي، لأن الدعاء على أحدٍ بدخول النار ليس بالأمر اليسير..

ثم هل يستدعي الظلمُ الذي لحقك من قبل أخيك أن تحكمَ عليه بدخول جهنم؟ وحتى إن دعا هو عليك بهذا فليس لك أن تعامله بالمثل وتفعل الشيء نفسه، ولذا ففي رأيي أنه لا معنى ولا فائدة من الامتعاض والاستياء وإضمار الشر لأحدٍ، لأنه من الواجب علينا أن نأتي ربَّنا بقلبٍ سليمٍ
لا يحمل ضغينةً ولا غِلاً لأحد.. علينا أن نأتي ربنا سبحانه بقلب سليم؛ استجابةً لدعوته لنا؛ كما يُهرع الحبيب إلى حبيبه، وما أعذب ما قال الشاعر الصوفي فضولي البغدادي:
لو طلب الحبيب روحي فهذا شرف لي ما هذه الروح حتى أضن بالتضحية بها لحبيبي!؟
فعلينا أن نَرِدَ على ربِّنا سبحانه وتعالى يوم القيامة أصفياء أطهارًا؛ ملبّين دعوتَه القائلة: ﴿ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً﴾ (سورة الفَجْرِ: 89/28).
اللهم أنعم علينا جميعًا بهذا الأفق وذلك الفهم ونحن راحلون إلى الآخرة! آمين!

المصدر: فتح الله كولن، جهود التجديد، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة.