لقد سجل القرآن الكريم نماذجَ لبراعة إبراهيم -عليه السلام- في محاورة قومه ومناقشته إياهم إبانَ دعوته لهم، وذلك أحد الأسباب التي جعلت دعوة إبراهيم -عليه السلام- محطَّ اهتمام عدد من الدعاة والمصلحين، فراموا منهجه، وقصدوا حوضه ليرتووا مما حَباه الله به من التوفيق والتسديد، وكيف لا وهو الذي وَسَم الله تعالى كل من حادَ عن ملته ومنهجه بالسفَه.
قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إبراهيم إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾ (البقرة:130).
وما ذلك إلا لأن الله قد أثبت لنبيه إبراهيم -عليه السلام- رجَاحة العقل وآتاهُ الرشدَ والحكمة ورفعَه مكانًا عَلِيًّا، فكل مُتبع له يكون قد بعُد عن السفَه ودَنى من الرشدِ، قال سبحانه: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ﴾ (الأنبياء: 51).
غيرَ أن كثيرًا ممن اختار رسالة الخليلِ إبراهيم ومنهجَه في الدعوة إلى الله مَرتَعًا للدراسة يغفلُ عن تلك الثوابت والمعالم الكبرى التي بَنى عليها إبراهيم دعوتَه، والأسُس التي اختارها لتبليغ رسالته، فلم يكن الأمر اعتباطِيًّا عشوائيًّا غيرَ قائم على قواعد تؤسس لدعوته.
إن الثوابت والأسُس التي بها انتظمت دعوة إبراهيم -عليه السلام- وعليها قامت رسالته يمكن حصرها في ثلاث ثوابت كبرى تقبل أن يُفرع عليها غيرها، غير أن تلك الثلاث أصول لما يلحقها من الفروع:
– فرأس تلك القواعد حرصه -عليه السلام- على تطهير العقول وتحريرها وتنظيف الأماكن واجتثات كل ما فيها مما يعبد من دون الله.
فكان -عليه السلام- يعمل على تحرير تلك العقول من خلال تبيان الحقائق وضرب الأمثال واستفزاز الألباب والنهى، والبلوغ بقومه إلى حافة الحق واليقين من خلال ملامسة عقولهم والتشويش على أفكارهم والباطلِ من معتقداتهم، قال: “بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون”.
ولقد بين الله تعالى ذلك التطهير للأصنام فقال سبحانه: ﴿وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ﴾ (البقرة:125).
قال ابن الفرس: “طهراه: أي من عبادة الأوثان. وقيل: طهراه من الشرك”.
وقال سبحانه: ﴿وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لاَ تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ﴾ (الحج:26).
فالأصل الذي عمل عليه إبراهيم -عليه السلام- وجعله القاعدة الأولى للإصلاح هو تطهير المكان من كل ما هو معبود من دون الله: ﴿وَتَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا …﴾ (الأنبياء:57/58).
– أما الأساس الثاني فتجلى في الحرص على استمرار ذلك الإصلاح الذي ابتدأه، وامتداد التطهير الذي بدأه، وترسيخ التوحيد وعبادة الله وحده والتمسك بالإسلام والموت عليه والدعوة الى تسلسله عبر عقبه وتوريثه للأجيال من بعده، وعدم إقباره بمجرد وفاته وذهاب كل ما ابتدأه من الاصلاح أدراج الرياح، وتلك صفة كل مشروع ناجح، فإن صاحبه يسعى لإحيائه وإبقائه من بعده ببسط السبل لذلك.
ولقد صور الله تعالى ذلك التوريث والحفاظ على الاستمرار والسعي في الإبقاء فقال سبحانه وتعالى: ﴿وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ…﴾ (البقرة: 130/132).
قال الامام الطبري رحمة الله عليه: “ووصى بهذه الكلمة -أعنى بالكلمة قوله: أسلمت لرب العالمين- وهي الإسلام الذي أمر الله به نبيه -صلى الله عليه وسلم- وهي إخلاصُ العبادة والتوحيد لله، وخضوعُ القلب والجوارح له”.
وقال تعالى: ﴿رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ﴾(البقرة:128)
فكان حريصا عليه السلام على أن يخُرج الله من صلبه من يقيم هذا الدين، ويسهم في استمرار التدين والتوحيد، واتخذ ذلك مظهرين اثنين: الإيصاء والدعاء.
فلقد أوصى إبراهيم بنيه بالاستمساك بالإسلام والموت عليه، كما دعا ربه أن يخرج من صلبه ويجعل من ذريته أمة مسلمة.
– أما الأساس الثالث والأخير فكان مرده التوكل على الله تعالى، وسؤاله دوام الإصلاح، وتيسير سبل الإصلاح والإمداد بأسباب ذلك، فلجأ إلى الله متضرعًا داعيًا راجيًا أن يبعث في الناس من يُتم أمرَ ذلك الدين تعليمًا للأشخاص وتزكية للأنفُس، فكان نبينا محمدٌ -صلى الله عليه وسلم- ذلك المبعوث الذي تم الأمر على يده، قال تعالى حاكيًا عن إبراهيم رجاءَه وذاكرًا دعاءه: ﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾(البقرة:129).
قال الامام أبو جعفر الطبري رحمة الله عليه عند قوله في تأويل هاته الآية: “وهذه دعوة إبراهيم وإسماعيل صوات الله عليهما لنبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- خاصة وهي الدعوة التي كان نبينا -صلى الله عليه وسلم- يقول: “أنا دعوة أبي إبراهيم وبشرى عيسى”.
إنّ سيرة إبراهيم عليه السلام كانت ولا تزال تعتبر مرجعًا رائدًا في الإصلاح، باعتبارها أنموذجًا حيًّا يَحتذيه المصلحون والدعاة، ويرِدُه الواردون، ويقصده المريدون فيستشفون معالمه، ويكتشفون قواعدَه ومناهجَه، ويقتبسون من نوره وضيائه، ويتأسون بسيرته، فيتخذون معالمه وقواعده في الإصلاح خريطةَ عمل ومنهجَ حياة، منها المنطلقُ وإليها المنتهى والمرجع، أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده.