إحياء الأوقاف الطبية والصيدلانية

للأوقاف شأن كبير في حياة المسلمين. ولقد سارع الصحابة الكرام رضي الله عنهم إلى أعمال الوقف بعد توجيه النبي صلي الله عليه وسلم لهم. ثم تسابقت الأمة إلى هذا الخير عبر العصور. فتنوع الوقف وتعددت إشكاله وشمل كل الجوانب الهامة للمجتمعات المسلمة. ومن ذلك الريادة في إنشاء الأوقاف الطبية التي قدمت للناس خدمات جليلة. لكن مع انحسار اهتمام الجهود الوقفية بالأوقاف الطبية قل وجودها، واضمحل أثرها، وجهل كثيرون أنواعها ومنافعها وخدماتها. كما تلاشى إدراك ما يمكن أن تقدمه في عصرنا الراهن لتسد ثغرات في المنظومات الطبية الحالية. وهذه السطور التالية محاولة لإحيائها من جديد لما لها من آثار مجتمعية وآفاق تنموية عديدة.

الوقف: “تحبيس الأصل، وتسبيل المنفعة”، ويقصد به: “حبس العين عن الاستهلاك، أو عن تمليكها لأحد من العباد، والتصدق بالمنفعة على الفقراء، أو على وجه من وجوه البر”. وهناك من اشترط ألا تقتصر هذه المنفعة أو ريع الوقف على أفراد بعينهم (كالواقف وذريته وأقربائه أو الفقراء فحسب). وإنما يمكن أن تشمل جهات خيرية تعود بالنفع على جموع المسلمين. فهو “صدقة جارية ما بقي رأس مالها، سواء أكان البقاء طبيعيًا بعمر المال الموقوف أم إراديا بنص الواقف ورغبته”.

والبيمارستان (دور/ مكان المرضى)، من أبرز الأعمال الوقفية الجليلة التي تميزت بها الحضارة العربية الإسلامية. لقد عنيت بعلاج المرضى دون أجر، مع كفالة ظروفهم المعيشية الخاصة حتى يتم شفاؤهم ويعودون إلى ممارسة حياتهم الطبيعية. وقد بلغت العناية بالمرضى، علاجًا وكفالةً وترفيهًا ومؤانسة موسيقية، حدودًا راقية، إلى درجة “جَعْل مرتب للمرضى تقوم به ضرورياتهم، وجَعْل مرتب لمن يبرّ بهم ولمن يعالجهم ويؤانسهم”. كما تكرست البيمارستانات باعتبارها صيدليات علاجية، ومكتبات طبية، ومدارس تعليمية طبية وإجازات للأطباء.

نماذج رائدة

ازدهرت البيمارستانات وانتشرت في شتى البقاع، في بلاد الشام وبغداد والحجاز ومصر إلى المغرب والأندلس غربًا. ففي منتصف القرن الثاني عشر الميلادي حظيت بغداد بأكثر من ستين بيمارستانًا، وكان في قرطبة أكثر من خمسين بيمارستانًا. ومنها ما كان متنقلًا، من مكان لآخر بحسب الظروف وكانت تجهز في الحالات الآتية: في حالة الحروب، وعند تفشي الأمراض والأوبئة، وفي معالجة من في السجون. ومنها ما كانت تقام لحالات طارئة، أو لمناسبات محدودة مؤقتة. وكانت تُحمَل على مجموعة من الجِمال (قد تصل إلى أربعين)، وذلك في عهد السلطان محمود السلجوقي، (حكم ما بين 511هـ – 525هـ)، وكانت هذه القوافل مُزوَّدة بالآلات العلاجية والأدوية، ويرافقها عدد من الأطباء، وكان بمقدورها الوصول إلى كل رقعة في الأمة الإسلامية. كما أمر السلطان “أحمد بن طولون” بعمل بيمارستان صغير مؤقت قرب الجامع المسمى باسمه، يتضمن خزانة شراب فيها جميع الأدوية والمشروبات، وعليها خدم وفيها طبيب، وذلك ليوم الجمعة فقط، للقيام بالإسعاف اللازم لحادث قد يحدث للحاضرين للصلاة.

أما أول بيمارستان ثابت في العالم الإسلامي قد أقيم في دمشق عام 88هـ/707م، دشنه الخليفة الأموي “الوليد بن عبد الملك”. وقد وظف هذا الخليفة فيه الأطباء وأجرى عليهم الأرزاق. كما أمر بحبس المجذومين فيه لئلا يخرجوا، وأجرى عليهم وعلى العميان والمقعدين الأرزاق. وفي الشام وجد: بيمارستان أنطاكية، والبيمارستان الصغير بدمشق، وبيمارستان باب البريد، وبيمارستان حماة، وبيمارستان القدس، وبيمارستان عكا، وبيمارستان الجبل، وبيمارستان الكرك، وبيمارستان حصن الأكراد، والبيمارستان الدقاني، وبيمارستان نابلس، والبيمارستان القميري، والبيمارستان النوري، وبيمارستان غزة.

ومن بيمارستانات العراق: بيمارستان الرشيد، وبيمارستان البرامكة، وبيمارستان أبي الحسن بن عيسى، وبيمارستان بدر غلام المعتضد، وبيمارستان السيدة، والبيمارستان المقتدري، وبيمارستان ابن الفرات، وبيمارستان الأمير أبي الحسن يحكم، وبيمارستان معز الدولة بن بويه، والبيمارستان العضدي، وبيمارستان محمد بن علي بن خلف ببغداد، وبيمارستان واسط، والبيمارستان الفارقي بميّافارقين، وبيمارستان باب مُحَوَّل، وبيمارستان الموصل، وبيمارستان حرّان، وبيمارستان الرّقّة، وبيمارستان نصيبين. ومن أشهر بيمارستانات مكة المكرمة، ما عرف بالبيمارستان المستنصري العباسي، وكذلك بيمارستان المدينة.

وكان في مصر العديد من البيمارستانات الشهيرة، منها: بيمارستان زقاق القناديل، وبيمارستانات المعافر، والبيمارستان العتيق (أنشأه أحمد بن طولون داخل بعض الأبنية)، البيمارستان العتيق الذي أنشأه الناصر صلاح الدين وأمر بإعادة فتح بيمارستان الفسطاط القديم، وفي أثناء زيارته للإسكندرية أمر بإقامة مدرسة وألحق بها بيمارستانًا وتولي الإنفاق على هذه البيمارستانات ديوان الأحباس (الأوقاف) على اعتبار أن الرعاية الصحية في ذلك العهد كانت من أعمال البر والخير، أكثر منها من مهام الدولة الحاكمة. كما تم إنشاء البيمارستان المنصوري الكبير بالقاهرة. ومن بيمارستانات الأندلس المشهورة: بيمارستان غرناطة، وفي المغرب الأقصى كان يوجد بيمارستان مراكش (بناه المنصور أبو يوسف)، وفي تونس بيمارستان تونس. بل وجدنا أوقافًا مخصصة حتى لعلاج بعض الطيور، ففي أوقاف بيمارستان سيدي فرج بفاس أوقاف خصصت “لعلاج اللقالق إذا انكسرت أو أصيبت بأذى، وتصرف منها جراية لمن يضمدها ويداويها ويطعمها”.

أقسام البيمارستان، وعمارتها

كان للبيمارستانات الثابتة نظام وطابع معماري مميز يقوم على مجموعة من الشروط الضرورية: اختيار الموقع المناسب، ومصدر المياه المتاح، وتأثيث البيمارستان. كما لكل بيمارستان مخطط يحتوي على: أقسام خاصة بالرجال، وأخري خاصة بالنساء منفصلة عن الأولى. وفي كل قسم من هذين القسمين عدة قاعات لمختلف الأمراض: فقاعة للأمراض الباطنة، وقاعة للكحالة، وقاعة للجراحة، وقاعة للتجبير. وكانت قاعة الأمراض الباطنة منقسمة إلى أقسام أخرى: قسم للمحمومين وهم المصابون بالحمى، وقسم للممرورين وهو لمن بهم المرض المسمى مانيا وهو الجنون السبعي، وقسم للمبرودين أي المتخومين، ولمن به إسهال إلخ. وتوجد عنابر خاصة للناقهين من المرض إلى أن يتم شفاؤهم، يُحكى لهم فيها الحكايات المسلية.

فمن روائع الأوقاف الطبية: وقف (مُؤنس المَرضَى) حيث يخصص ريعه لتوظيف أناس يقفون قريبًا من المريض، بحيث يسمعهم ولا يراهم، فيقول أحدهم: “ماذا قال الطبيب عن هذا المريض؟ فيردُّ عليه الآخر: إن الطبيب يقول: إنه على خير، فهو مرجو البُرء، ولا يوجد في عِلَّته ما يُقلق أو يزعج”. وهذا مما يساعد المريض على النهوض من فراشه للأثر النفسي الذي تتركه تلك الكلمات التي سمعها. ومن أساليب العلاج المتقدمة التي كانت موجودة في بيمارستان قلاوون، العلاج بالموسيقى، كانت توجد فرقة من الموسيقيين المحترفين بعزف مقطوعات موسيقية تهدئ الأعصاب. وكانت مستشفى “سيدي فرج” بالمغرب لها وقف ينفق منه على الموسيقيين الذين يزورون المستشفى مرة أو مرتين أسبوعيًا. ويقدمون موسيقى تتلاءم مع أحوال المرضى. وكان من أوقاف البيمارستان المنصوري ما ينفق منه على بعض الأجواق التي تأتي يوميا لتسلية المرضى بالغناء أو بالعزف على الآلات الموسيقية. ولتخفيف الملل وألم الانتظار وطول الوقت على المرضى كان المؤذنون يؤذنون في السحر وقبل الفجر بساعتين حتى يخفف قلق المرضى الذين أضجرهم السهر.

وكانت قاعات البيمارستان فسيحة، حسنة البناء وكان الماء فيها جاريًا. ويتوافر مطبخ لطبخ الأغذية الصحية، حيث كان الغذاء أحد طرق العلاج الرئيسية، وكذلك لتجهيز الأشربة وغيرها من المواد العلاجية، ومخازن، وقاعة لتغسيل الموتى، ومسجد، ومراحيض، وحمامات. وللبيمارستان رئيس “ساعور البيمارستان”، ولكل قسم من أقسامه رئيس. فكان فيه رئيس للأمراض الباطنة، ورئيس للجرائحية والمجبرين، ورئيس للكحالين. وللبيمارستان فراشون من الرجال والنساء ومشرفون وقوام بالخدمة. وكان لكل طبيب نوبة معروفة ومواعيد محددة، وهناك غرف للأطباء للكشف على المرضى غير المنومين “عيادات خارجية بلغة العصر”. ولكل بيمارستان صيدلية تسمى (شراب خانه)، ولها رئيس يسمى شيخ صيدليي البيمارستان. وكانت (شراب خانه)، مزودة بالمواد اللازمة للأقربازين. ويصرف الدواء للجميع، أما التكاليف فيتم تغطيتها من الوقف المخصص. وكان نظام العلاج ينقسم لنوعين، الأول خارجي، أي يجيء المريض ويكشف عليه الطبيب، ثم يتسلم دواءه وينصرف عائدًا إلى بيته. أما إذا كانت حالته متقدمة فيتم حجزه في القسم الداخلي حيث يقيم إقامة كاملة.

البيمارستانات: مدارس لتعليم الطب، وإجازات الأطباء

لم تكن مهمة هذه البيمارستانات قاصرة على مداواة المرضى، بل كانت في نفس الوقت معاهد علمية ومدارس لتعليم الطب، نظريًا وعمليًا. يتخرج منها المطببون، والجرائحيون (الجراحون)، والكحالون إلخ. ويجري التدريس النظري غالبًا في القاعة المخصصة لذلك وكانت تضم خزائن الكتب الطبية والدوائية. وفيها يلقي رئيس الأطباء دروسه ويجتمع فيها مع تلاميذه. أما التدريس العملي فيكون بمرافقة الطلاب لأطباء البيمارستان في جولاتهم الدورية على المرضى. وبعد التعليم الكافي تعطى إجازات (شهادات لمزاولة الطبابة) من الرؤساء. كما تقوم على الأطباء والصيادلة أمر “الحسبة” (المراقبة والمتابعة لأعمالهم).

وكان هذا التعلم الطبي ومعاناة التطبيب مكفولين لأي كان ذكرًا أو أنثى، مبصرًا أو مكفوفًا. ومن نماذج الأطباء المكفوفين: كان “أبو الحسن علي بن إبراهيم بن بكس” طبيبًا فاضلا عاملا بصناعة الطب متقنا لها. وكان يدرس الطب في البيمارستان العضدي ويفيد الطالبين. كما قاد “أبو الحسن بن مكين البغدادي” الحكمة بزمامها وكان مكفوفًا يقوده تلميذه إلى ديار المرضى. أما “أبو عبد الله محمد بن سليمان بن الحناط” المكفوف الشاعر الضرير القرطبي فكان أوسع الناس علما بعلوم الجاهلية والإسلام. وبصيرًا بالآثار العلوية، وحاذقًا بالطب والفلسفة، وماهرًا في العربية والآداب الإسلامية. ولد أعشى ضعيف البصر متوقد الخاطر، فقرأ كثيرًا في حال عشاه ثم طفئ نور عينه بالكلية فازداد براعة، ونظر في الطب بعد ذلك فأنجح علاجا. وكان ابنه يصف له مياه الناس المستفتين عنده فيهتدي منها إلى ما يهتدي إليه البصير ولا يخطئ الصواب في فتواه لسرعة الاستنباط، وتطبب عنده الأعيان والملوك فاعترفوا له بمنافع جسيمة.

الوقف على المكتبات الطبية والدوائية

وضمت كثير من البيمارستانات مكتبات طبية ومن أمثلتها رفَد المستشفى العضدي ببغداد كل ما يحتاج إليه الطبيب والمريض والدارس من مكتبة علمية وصيدلانية. كما أوقف “نور الدين محمود” جملة من الكتب الطبية مساعدة للمشتغلين بالطب حتى يبرعوا فيه. وكان في بيمارستان “أحمد بن طولون” خزانة بها آلاف الكتب في سائر العلوم. وفي سنة 622هـ 1225م أوقف “مهذب الدين عبد الرحيم بن علي بن حامد” المعروف بـ “الدخوار” شيخ الأطباء داره بدمشق كمدرسة ومكتبة طبية: “المدرسة الدخوارية”، ووقف لها ضياعا وأماكن عدة. فكان إذا فرغ من البيمارستان وافتقد المرضى من أعيان الدولة وأكابرها وغيرهم، يأتي إلى داره ثم يشرع في القراءة والدرس والمطالعة، ولا بد له مع ذلك من نسخ، فإذا فرغ من ذلك أيضا أذن للجماعة فيدخلون عليه ويأتي قوم بعد قوم من الأطباء والمشتغلين وكان يقرئ كل واحد منهم درسه ويبحث معه فيه، ويفهمه إياه بقدر طاقته. ويبحث في ذلك مع المتميزين منهم إن كان الموضع يحتاج إلى فضل بحث أو فيه إشكال يحتاج إلى تحرير. وكان إلى جانبه ما يحتاج إليه من الكتب الطبية ومن كتب اللغة، فكان إذا جاءت في الدرس كلمة لغة يحتاج إلى كشفها وتحقيقها نظر في تلك الكتب.

إحياء الأوقاف الطبية

ينبغي إعادة إحياء الأوقاف الطبية لما ستسده في عصرنا الراهن من ثغرات في المنظومات الطبية الحالية. وسيكون لها آثار مجتمعية وآفاق تنموية عديدة إذا تنوعت وتوسعت على النحو التالي:

– إنشاء المستشفيات العامة والمستشفيات التعليمية.

– إنشاء مشافٍ خاصة للأمراض (وبخاصة المستعصية والنفسية والعصبية) ومشافٍ طارئة أثناء الأوبئة الجائحة.

– وقف للأجهزة الطبية والتعويضية التي تحتاجها المستشفيات.

– وقف يخصص للإسهام في علاج الأمراض المستعصية وعمليات نقل وزراعة الأعضاء.

– إنشاء الصيدليات وإمدادها بالأدوية اللازمة وبخاصة أدوية الأمراض المزمنة.

– إنشاء مصانع للأدوية ترفد الصيدليات بما تحتاجه.

– إنشاء مختبرات لتطوير البحث العلمي الطبي والدوائي.

– وقف لتمويل المؤلفات الطبية والدوائية لإثراء المكتبة الطبية وتطويرها المستمر.

– وقف لتمويل البحوث الطبية والدوائية للحد من الأمراض الفتاكة والأوبئة المستجدة.

– إنشاء مراكز للإسعاف على الطرق ووقف سيارات لها.

– وقف للمنح الدراسية الطبية للنابهين من الطلاب والممرضين.

الأوقاف الطبية تعتبر مساهما كبيرا في عملية تأمين الرعاية الصحية الشاملة التي قد ينوء بتحمل تكاليفها كثير من الدول. كما تسهم في عملية الأمن الصحي والمجتمعي مما يسهم في زيادة الاستقرار المجتمعي.

وخلاصة القول: المتتبع لتاريخ المؤسسة الوقفية الإسلامية العظيمة، وأعمالها وآثارها وأبعادها الاجتماعية والحضارية الجليلة، يقف وقفة إجلال وإعجاب أمام فضلها الكبير في تشييد مختلف جوانب صرح الحضارة الإسلامية، ومنها الأوقاف الطبية. نحن، اليوم، في حاجة ماسة إلى إحياء دور الأوقاف الطبية والصيدلانية المتكاملة والشاملة، وتشجيع ذلك من خلال منظومة العمل الخيري والأهلي وإزالة كل المعوقات التي تعترض سبيلها، باعتبار ذلك كما كان شأن البيمارستانات سابقاـ نظامًا حضاريًا له منافعه الكثيرة على المجتمع. المتراحم، والمتكافل، المستقر، والناهض في آن معًا.