يمثل الاهتمام بثقافة الطفل أحد أهم مقومات رعاية وتنمية الطفولة، وخاصة في ظل التطورات المعاصرة، التي تفرض العديد من التحديات فيما يتعلق بثقافة الطفل، في ظل ما أطلق عليه “العولمة الثقافية”، والتي تتزايد المخاوف من مخاطرها على الهوية الثقافية للطفل. ومع التطور المتسارع في تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، والتطور الكبير في أنواع وإمكانات وسائط تثقيف الطفل، صارت الثقافة بلا حدود، في عالم بلا حدود، ونشأ التحدي الهائل والذي يتمثل في كيفية الاستفادة القصوى من تلك التطورات في مجال تثقيف الطفل، مع الحد من مخاطرها على هويته الثقافية، والتصدي لظاهرة الغزو الثقافي.

تتمثل ثقافة الطفل في مجموعة العلوم والفنون والآداب والمهارات، والقيم السلوكية، والعقائدية التي يستطيع الطفل استيعابها وتمثُّلها في كل مرحلة من مراحل عمره، ويتمكّن بواسطتها من توجيه سلوكه داخل المجتمع توجيهًا سليمًا. ويقوم بنقل هذه المعارف والقيم صفوةٌ مبدعةٌ من المجتمع، مسترشدين بالمبادئ الروحية والدينية، والإنجازات الفكرية والفنية للمجتمع، مستعينين أيضًا بالعلم فيما يتعلق بخصائص الطفولة ومراحل نموّها واحتياجاتها. وثقافة الطفل هي إحدى الثقافات الفرعية في المجتمع وتنفرد بمجموعة من الخصائص والسمات العامة وتشترك في مجموعات أخرى منها كما أن ثقافة الطفل ليست مجرد تبسيط أو تصغير للثقافة العامة في المجتمع، بل هي ذات خصوصية في كل عناصرها ولهم أساليبهم الخاصة في التعبير عن أنفسهم وفي اشباع حاجاتهم.

إن “الخصوصية” في ثقافة الطفل، وآلياتها يمكن وصفها بـ “الهوية” الخاصة لثقافة الطفل والتي تميزها عن ثقافة المجتمع وعن سائر ثقافات الأطفال في المجتمعات المختلفة، والخصوصية الثقافية هي هوية أية شخصية تنفرد في جوانب ثقافية، تميزها عن غيرها من الشخصيات الأخرى القائمة في المجتمع، واختراق خصوصية هذه “الهوية” يُعد اختراقًا وغزوًا لثقافتها.

وتتعرض “ثقافة الطفل العربي” في وقتنا الحاضر، إلى جملة من “الاختراقات”، التي تحاول السيطرة على خطابها الثقافي، وتحريف الرؤى والقيم والأفكار، التي تحملها خصوصية هذا الخطاب، وهُوَيَّته الموضوعية، عن مسارها الصحيح، إلى مسار آخر، تهيمن عليه، وتتحكم به قوى “ثقافية” تحمل “هويات” أخرى مغايرة لما تختص به الهوية العربية لثقافة الأطفال.

وللاختراق الثقافي مفاهيم عديدة، تتصل بأغراض، وأهداف متعددة، تؤدي بطبيعتها إلى العمل على خرق أواصر الثقافة المستهدفة، وخصوصيتها، بأشكال وطرق كثيرة، وقد تطورت مفاهيم الاختراق وأساليبه، لتشمل الجوانب المهمة من حياة الإنسان “المستهدف” وخصوصية “هويته” القومية، إضافة إلى الجانب الثقافي، شملت الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وعبر ذلك تتوضح صورة الاختراق، ومظاهره المتبعة للإخضاع والتبعية.. ومن عوامل الاختراق الثقافي:

1- العامل الداخلي: ويحصل بطريقتين:

الطريقة الأولى “غير المقصودة”: نتيجة لعدم الفهم الصحيح لآليات ثقافة الأطفال، وخصوصيتها المحددة بخصائصها المتعددة، فيعمل بعض الآباء والمربين على استلاب شخصية الطفل، وتحديد قدراته، واستقلاليته، والسيطرة عليه وجعله “تابعًا” له، ويسيِّر شخصيته وفق ما يريده الأب، لا وفق مميزات ثقافته الخاصة وحاجاتها، وانطلاقتها. فينشأ هذا الطفل “مقلدًا” لثقافة الأب، وبهذا ينشأ الطفل نشأة “مقيدة”، وتقليدية، تقتل في مخيلته مكامن الموهبة والخيال، والتفكير وروح الابتكار وضعف الوعي والمُدرَكات الأخرى مما يقضي على شخصية الطفل، ويفتت “هويته” الثقافية، وبالتالي يشكل اختراقًا واضحًا لثقافة الأطفال وخصوصية “الطفولة” في شخصيته.

الطريقة الثانية “المقصودة”:  تنشأ نتيجة لفهم البعض وتعاليهم على ثقافتهم الخاصة ورفضهم لبعض قيَم هذه الثقافة، خاصة ممن تأثر تأثرًا كبيرًا بثقافات المجتمعات الأخرى الغريبة عن مجتمعه، ويعد ثقافات الأطفال في المجتمعات الأخرى أكثر أهمية وفائدة لطفله من “ثقافة أطفال” مجتمعه الأصلي، فيعمل على نشر مفاهيم، وقيم، وأفكار، وتقاليد “الثقافات الغريبة والمستوردة” التي تأثر بها، إلى طفله، فيجد هؤلاء الأطفال صعوبة التعايش في حياتهم الجديدة مع مجتمعهم الأصلي، ومع ثقافة أقرانهم من الأطفال في هذا المجتمع؛ لوصولهم إلى درجة التطبع الكامل بثقافة المجتمع الغربي الذي نشأت فيه أسرهم؛ وتنشأ ظاهرة  الاغتراب الثقافي للفرد عن مجتمعه.

2- العامل الخارجي:

هذا العامل يتضمن آليات مختلفة تبث مجموعة “ثقافات” بأفكار و”سياسات” متعددة، من “مجتمعات” متعددة، بعضها مدروس، ومُوَجَّه، ومخطط له، لغرض “الاختراق” وآخر غير مقصود، إلا أنه يؤدي بطبيعته نفس الغرض الذي يؤدي إلى الاختراق، لكن بدرجات أخف، وبخطر أقل تأثيرًا..

لقد صارت البيئة العربية في ضوء الأوضاع الحالية مهيئة أكثر من ذي قبل، أمام ظاهرة الاختراق والغزو الثقافي” لتجد لها مكانًا واسعًا، تنشط من خلاله للوصول إلى ثقافة الأطفال العرب، وتحقيق أهدافها “المباشرة وغير المباشرة”، “الآنية والمستقبلية”، للسيطرة على عقل الطفل العربي، وتنميط ثقافته، عبر آلياتها الخاصة، وإمكاناتها المتطورة، التي توافرت لها، بعد التطورات التكنولوجية السريعة في مناحي الحياة العامة، وما حصل جرَّاء ذلك من اختراعات، وتكنولوجيات، وفضائيات، متعددة الأغراض والوجوه، وسريعة التأثير في “ثورتها المعلوماتية”، التي سيطرت على حركة الحياة ومعطياتها على مدار الساعة.

ويُعد “الغزو الثقافي” من أهم مظاهر “الاختراق” وأكثرها شيوعًا، حيث يستهدف الغزو الثقافي بمفهومه العام احتلال العقل، وخلخلة الثقة بالذات، وبالهوية الثقافية وبالإرث القيمي، والحضاري، والإنساني لهذه الهوية. وهو يمثل اختراق خارجي عبر وسائل الاتصال المتقدمة، التي تنقل صورة الذات “المتخلفة” وصورة “الغازي” المتقدمة لتجعله بذلك في حالات من الضعف المتواصل الذي يحيله إلى التآكل في الشخصية وفي الهوية، ومن ثَمَّ يفقد الفرد الثقة بـ”ثقافته” وقدراته، لينساق إلى تقليد ثقافة الآخر، والتفكير وفق أفكارها وأنماطها، فعملية “التقليد” هي غاية ما يسعى إليه “الغزو الثقافي” في مشروعه العام، وهي المرحلة البارزة في آليات “الاختراق” ليس في الجانب الثقافي وحسب، إنما في الأفعال، والسلوك، والمَلْبس، والعادات، وأحيانًا في اللغة أيضًا.

لقد أثار “الغزو الثقافي” منذ زمن طويل – ولا زال – في الأوساط الثقافية والفكرية والاجتماعية جدلاً كبيرًا وتباينت وجهات النظر حوله بين فئات المجتمع الواحد؛ ففئة تراه خطرًا على خصوصية “الهوية” وتدعو إلى تشخيصه ومقاومته.. وإفشال آلياته في واقعنا الثقافي، وفئة أخرى لا تراه “غزوًا”، فتختار تسميات أخرى، وتهوِّن فئة أخرى من شأنه على أن الحديث عنه وعن مخاطره ألعوبة أو وَهْم، بل إن فئة أخرى تدعو له سبيلاً للمثاقفة، ويعدون المثاقفة تلاقحًا معرفيًّا وحضاريًّا يعزز التواصل بين “تراثيات” الإنسانية ويغنيها، ويوردون حُججًا لا نهاية لها عن العلاقات الثقافية بين الشعوب واستكمال شروط النهضة أو التقدم”.

إن مفهوم الغزو الثقافي واسع وشائك، ومتعدد الاتجاهات، والوسائل ومتداخل مع مفاهيم أخرى متصلة بعضها مع البعض الآخر، إلا أن أبرز أهدافه تتمثل السيطرة على “العقول” والتأثير فيها لإحكام الهيمنة والتبعية الثقافية والإعلامية، وخطره الكبير في “التنميط الثقافي” الذي يعني إنتاج نمط ثقافي واحد وفق إرادة المنتج المهيمن، ويكون ذلك عبر وسائل السيطرة المختلفة كالتقنية والمعلوماتية والاتصالات. فالتليفزيون وسيلة اتصالية جذابة تعني في توجهاتها بوضع الطفل تحت سيطرتها، والاستسلام لقنواتها الفضائية حيث تأتي برامجها أكثر إثارةً وتشويقًا للطفل، وأكثر توافقًا مع نوازعه الغرائزية كالعنف والعدوانية، وينتج عنها استجابة نفسية تشكل نواة المخيلة الجمعية لدى الأطفال، أي النواة التربوية الأولى لثقافتهم العامة؛ فتصبح هناك أُلفة موضوعية بين الطفل ومشاهد العنف في تلك البرامج.. وينعكس ذلك على وعي الطفل وسلوكه فيتطبع بها، وهذا التطبيع يتحول إلى محاكاة لما هو سائد في هذه البرامج وتقليدها.

ولا شك أن أخطر مظاهر التنميط وسيلةً هو شيوع ثقافة الصورة بديلاً عن ثقافة الكلمة. وانتشار الكتاب الإلكتروني بديلاً للكتاب المطبوع، مما يضع جمهور الأطفال والناشئة أمام الاستبداد التقني، الذي يقلل الخيال والإبداع بعد ذلك ناهيك عن إضاعة الوقت، وهدر الطاقة الجسمية، والمشاعر والأفكار، ووضع الجمهور في حالة عطالة ذهنية وثقافية أمام منتجات التنميط الثقافي وقوتها الهائلة.

وبذلك تكمن أهمية مواجهة “الاختراق الثقافي” وأساليبه الحديثة التي بدأت بالغزو الثقافي وأشكاله وأساليبه، ليتطور إلى شكل آخر أكثر خطورةً وَسَعَةً، ألا وهو “العولمة” التي تعمل –باختصار شديد– على محو الخصوصيات الثقافية للشعوب، واستبدال ثقافة “القطب الواحد” بها؛ لتتمكن من إحكام السيطرة الكاملة على العالم، واختراق ثقافاته وجعله تابعًا لها، مسيرًا بأوامرها، بعد أن هيأت لها التطورات التكنولوجية والوسائل الاتصالية الفضائية، وغيرها المجال من أوسع جهاته للاختراق وتحقيق أهدافها.

وإزاء ذلك، لا بد من التوجه نحو وضع “استراتيجية ثقافية، عربية، علمية، متطورة، تعمل بوسائل وتقنيات تواكب التطورات الحديثة، وتستثمر تكنولوجيا العلم الحديث لتحصين “الهوية الثقافية” وتقف بمواجهة الاختراق وأساليبه القديمة والحديثة، لكيلا يتمادى في تأثيراته وأخطاره، وعلى أقل تقدير، تُحجِّمه في مكامنه. ولا يحصل هذا الأمر، دون الانتباه إلى أهمية الخصوصية، ودورها الفاعل في “ثقافة الأطفال” والاهتمام بأساليب الكتابة للطفل، ومفاهيم الخطاب الثقافي الموجه للطفل، وجعله مؤثرًا وفاعلاً، ولا يقل أهمية عن غيره من “الخطابات” الأجنبية. وخلق قاعدة علمية عربية لثقافة الأطفال، تلبي حاجات الطفل، وتُشْبع نوازعه الغرائزية، وتنمي مُدْركاته وخياله، وتجعله ميَّالاً لثقافته الخاصة أكثر من ميله للثقافات الأخرى ووسائلها وقنواتها المغرية.

 

المراجع

·   رندا عبد العليم المنير (2016): ثقافة الطفل في ضوء الاتجاهات المعاصرة، دار المسيرة، القاهرة.

  • الهيتي، هادي نعمان (2001): الهوية الثقافية للأطفال العرب إزاء ثقافة العولمة، مجلة الطفولة والتنمية، العدد 2، المجلس العربي للطفولة والتنمية، القاهرة.
  • الغريب، عبد الرحمن (2001): إشكالية الهوية بين الإعلام التلفازي والتنشئة الأسرية للطفل العربي، مجلة الطفولة والتنمية، العدد 2، المجلس العربي للطفولة والتنمية، القاهرة.
  • أبو هيف، عبد الله (2001): الغزو الثقافي ومخاطره على الهوية القومية في أدب الأطفال، بحث مقدم إلى المؤتمر العام الحادي والعشرين للاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب، بغداد 22-28/1/2001.
  • منصور عيد (2001): ثقافة الطفل العربي أمام تحديات تكنولوجيا السمعيات والبصريات، بحث مقدم إلى المؤتمر العام الحادي والعشرين للاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب، بغداد 22-28/1/2001.
  • فاطمة الشيدي (2014): ثقافة الطفل العربي هي الحل، صحيفة القدس في 18/10/2014.