إن سعادة الإنسان -أي إنسان- تعتمد اعتمادًا كليًّا على مدى إيمانه واعتقاده بوجود خالق لهذا الكون، ومدى استشعاره بقربه منه واعتماده عليه.
فحياة الإنسان الممتدة منذ ميلاده إلى مماته ثم حياته الأخرى الباقية، معتمدة كل الاعتماد على الإيمان بالله ، وعلى قضية الاعتقاد التي حيرت الفلاسفة والعلماء عبر الأزمنة، إلى أن يمد الله الأرض بنبي يصحح للإنسان وجهته ويهديه إلى فطرته التي خلقه عليها حتى آخر نبي مرسل وهو نبينا محمد .
والإنسان فقير ضعيف شقي لولا رحمة الله به وإغاثته بالأنبياء والدين والعبادات.. وقديمًا قال المؤرخ الإغريقي “بلوتارك”: “لقد وجدت مدنًا كثيرة بلا حصون، لكنني أبدًا لم أجد مدنًا بلا معابد”. فهي فطرة الإنسان التي خلقه الله عليها، تتجلى في قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ(الأعراف:172). ودليل الفطرة يعتمد على أن الإنسان لو تُرك لذاته بدون معلم أو مربي، فإنه يشعر في أعماق نفسه وبما أودعه الله في خلقته، بأن لهذا الكون خالقًا خلقه ومكونًا كوّنه ومبدعًا أبدعه ومدبرًا دبّره.. هذا الشعور نابع من فطرته وذاته وليس مما تعلمه من والديه وأهله، شعور يولد معه وينمو معه ويبقى معه.. لا يتغير بتغير الظروف ولا يمكن انتزاعه من نفسه، لأنه جزء لا يتجزأ منها. فكما أن غرائز الإنسان ذاتية لا يمكن فصلها عنه ولا تحتاج إلى تعليم معلم، وكما أن عواطف الإنسان وأحاسيسه جزء من خلقته وكيانه البشري، فإن شعوره الفطري الذاتي يدفعه دائمًا إلى الإيمان بأن لهذا الكون خالقًا ومدبرًا ورَبًّا. فقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي هريرة ، وهذا لفظ البخاري قال: قال رسول الله : ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهوِّدانه أو ينصِّرانه أو يمجِّسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء”، ثم يقول أبو هريرة فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم”.
ومن رحمة الله بهذا الإنسان أن علمه -عن طريق أنبيائه ورسله- أنه موجود، ودلّل على ذلك ببراهين تناسب كل عصر، وتناسب -كذلك- كل عقل، كما نطق به لسان الفطرة عند الأعرابي عندما سُئل عن دليل وجود الله فقال: “البعرة تدل على البعير، والأثر يدل على المسير، فسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج ألا تدل على العليم الخبير؟”. كذلك توصل إلى وجوده سبحانه أعظم العلماء عن طريق البحث العلمي والتفكير المنطقي، وصفحة الكون تنطق بعظمة الخالق، والكون المقروء القرآن المقروء. فإن كان القرآن كلام الله يعرف الإنسان به، فالكون هو صنع الله يدله عليه سبحانه كذلك.
إن معظم العذابات الإنسانية، متعلقة بالخوف والشعور بالوحدة في الكون، والشعور بأن إدارة الكون متروكة للصدفة يتلاعب بها الأقوياء من البشر. والإيمان وحده هو الذي يطمئن الإنسان، ويتغلب على تلك المشاعر التي تسلبه حياته.
لقد توصل العالم الألماني “يوهانس كيبلر” عالم الرياضيات والفلك والفيزياء، ليس لوجود الخالق فقط وإنما لوحدانيته في الوقت الذي كان معاصروه من العلماء، يعتقدون أن القوانين التي تتحكم بكوكب الأرض تختلف عن القوانين التي تتحكم بالكون، أما “كيبلر” فكان يعتقد أنه لما كان الخالق الذي خلق الكون هو واحد -وهو الله- وهو المانح للقوانين، فكل الكون له نفس القوانين. وبذلك اكتشف الحركة الأهليلجية (البيضاوية) للأرض وللكواكب التي تثبت اعتقاده بوحدة القوانين المنظمة لحركة الكون، ومن ثم وحدانية مصدر الصنع أو وحدانية الخالق سبحانه.
فهذا “روبرت بويل” الذي حقق عددًا من الاكتشافات العلمية الثورية، منها اكتشافه للقانون الذي يحدد العلاقة بين تغير الضغط الجوي وتغير حجم الغاز الذي عُرف بـ”قانون بويل للغازات”، كان له عدة اختراعات هامة مثل اختراعه الثلاجة البدائية، كما اكتشف بأن الماء يتمدد عندما يبرد، كما وضع نظرية تتعلق بالذرات. كان يعتقد أنه يوجد تصميم ذكي في الطبيعة، وأن الذي صنعها هو بمنتهى القوة.
كما أشار “بويل” من خلال محاضراته، إلى أن العلم والإيمان بالله يجب أن يقفا جنبًا إلى جنب، وكان يدعو إلى تمجيد الله الواحد بقوله: “يجب علينا أن نذكر الله الواحد الذي أنشأ الحياة، وهذا الإيمان سيكون مفيدًا للبشرية”.
ثم “إسحق نيوتن” صاحب اكتشاف قانون الجاذبية الأرضية؛ حيث أضاف مفهوم الكتلة إلى العلاقة بين القوة والتسارع، واكتشف قانون الفعل ورد الفعل، وطرح النظرية التي تقول بأن “الجسم المتحرك سيستمر بالتحرك باتجاه مستقيم وبسرعة ثابتة ما لم تصرفه قوة ثانية”.
بقيت قوانين حركة “نيوتن” قابلة للتطبيق لأربعة قرون، حيث استعملت في أبسط الحسابات الهندسية إلى أكبر المشاريع التقنية المعقدة. إضافة إلى اكتشافاته الرائدة التي تدحض الإلحاد ودعم فكرة أن الخلق هو التفسير العلمي والوحيد لوجود العالم.
وكان وراء اكتشافات “نيوتن” التي غيّرتْ وجه العالم، هي رغبته للتعرف أكثر على الله تعالى، ليعبر عن تلك الفكرة قائلاً: “هو (الله) العالم بكل شيء صاحب القدرة اللانهائية الذي يتمتع بالخلود، وهو موجود منذ الأزل إلى الأبد، وهو الذي يتحكم بكل شيء، وهو عليم بكل شيء وكيف تعمل.. أبدي ولانهائي؛ موجود في كل زمان وكل مكان وإلى الأبد، ممكن أن تعرفه من خلال إبداعه وتصميمه الحكيم الرائع للمخلوقات. وهو عزيز ويعشقه عباده”.
وأما “ألبرت آينشتاين” فقد كان معروفًا بإيمانه العميق بالله تعالى، كان لا يتردد في الدفاع عن فكرة تلازم العلم والدين، حيث يقول: “أنا لا أستطيع أن أتخيل عالمًا حقيقيًّا بدون ذلك الإيمانِ العميقِ بالله، العلم بدون دين يبدو كالأعرج”.
فكرة الإيمان -إذن- لازمت العلماء والمفكرين، وبقدر الإيمان وسموه وارتباطه من السماء تكتسب الحضارات قيم السعادة أو الألم للإنسان، وكلما كانت الفكرة سامية كانت سعادة الإنسان حقيقة ملموسة، وكان بقاء الحضارة أطول وأعمق.
صُنع الكون من أجلك
إن معظم العذابات الإنسانية، متعلقة بالخوف والشعور بالوحدة في الكون، والشعور بأن إدارة الكون متروكة للصدفة، يتلاعب بها الأقوياء من البشر. والإيمان وحده هو الذي يطمئن الإنسان، ويتغلب على تلك المشاعر التي تسلبه حياته، فيزهد في الحياة ويتركها للآخر، أو يتوحش فيها ليأخذ منها ما يستطيع، على أمل ألا يحاسبه أحد يومًا بعد الموت.. فقوانين الدنيا ليست رادعة لهؤلاء الذين لا يؤمنون بوجود إله يحاسب ويكافئ.
والله سبحانه ترفَّق بالإنسان ورحمه حين أرسل له ما يؤكد أنه ليس في هذا الكون وحده، وأن تلك العظمة التي تحيط به ليست هباء أو مجرد مصادفة: وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ(الذاريات:47-49). فالبناء الرباني ليس لمجرد البناء، والأرض الممهدة لتيسير حياة الإنسان عليها والعطاء والمنع لغاية يعلمها الله، وذلك ليطمئن الإنسان أنها لحكمة هي في صالحه على أية حال.
فما قيمة كل هذا للإنسان؟ وما علاقته بتمهيد الأرض؟ عليك أنت أيها الإنسان، أن تجيب على تلك الدقة وذلك النظام المعجز، ثم تقرر هل أنت في الكون وحدك أم معك إله مدبر يهتم لأمرك.
إن الحديث عن بدائع صنع الله لا يكفيها مجلدات، ولا يحيط به مقال، إنما هي إشارة وبوصلة لمن يريد أن يهتدي ويسعد ويصل للرشد الإنساني بعد تاريخ طويل للبشر على كوكب الأرض في صراع مع ربه ومع مخلوقات ربه، وعليه وحده أن يصل باستخدام تلك العلامات والإرشادات الربانية، ليصل إلى السعادة التي طالما بحث عنها ولم يصل إليها إلا أولئك الذين أرادوا الوصول فيسر الله لهم السبيل.
أنت أيها الإنسان لست وحدك في هذا الكون، فلك رب كريم رحيم قادر عفو غفار لمن تاب.. فاطمئن، أنت لست وحدك في هذا الكون، يا أيها المكلومون فلتطب أنفسكم فلستم وحدكم ، فاللطيف الرحيم الرؤوف الودود معكم في كل لمحة وفي كل خلجة، معكم بالحب والرعاية والحفظ والقرب وهو سبحانه أشفق بكم من أمهاتكم وآبائكم بل ومن أنفسكم وهو أقرب إليكم من حبل الوريد.