من سمات العمل الفني البديع أن كل جزء منه يُظهر انسجامًا متناغمًا مع بقيَّة أجزائه، وتناسقًا فريدًا يفرض نفسه. فإذا ما تناولنا أي نقطة في النظام البيئي بالدراسة والتدقيق، نواجه علاقات كثيرة بين الأرض والنبات والحيوان تعجز عقولنا استيعابها، ولا سيما تجليات الرحمة التي تظهر في صورة تعاون وتشارك فيما بينها. فيثير هذا لدى العلماء الذين ينظرون إلى الأمر بشيء من الإنصاف، شعورَ البحث عن صانع هذا الإبداع؛ لأن مثل هذا النظام الفريد يشير إلى صانع عظيم ومبدع عليم خبير.
ثمة اكتشاف مذهل لن يخطر أبدًا على بال بشرٍ بشأن النحل والزهور، وهو خير مثال على ما سبق ذكره. فقد ورد في سورة النحل وصفًا دقيقًا لصناعة العسل وكيف أُوحي ذلك للنحل بقوله: ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً(النحل:69). فيمكن تفسير هذه الآية على نطاق واسع يشمل الحادثة المذكورة أدناه.
أجريت أبحاث منذ زمن بعيد حول أن النباتات تسمع الأصوات وتلاحظ التغيرات في بيئتها وتمتلك بعض الحواس. كما اكتُشف أن النباتات تعرف من يحبها أو من يقترب منها لإيذائها، فتدرك الخطر القادم إليها من الحشرات -مثلاً- وتتخذ الاحتياطات اللازمة أمام ذلك. تمكن “سيمون كيرليان” وهو عالم روسي أرمني الأصل، من خلال تقنية التصوير الفوتوغرافي كيرليان، تجسيد الهالة المنبعثة من الأجسام الحية على لوحة فوتوغرافية في المجال الكهرومغناطيسي، مما أثار اهتمامًا بالغًا حول امتلاك النباتات بعض الحواس. غير أن العلماء الماديين لم يلتفتوا إلى هذا الأمر.
كما أظهرت الأبحاث الحديثة أن النباتات لا تقتصر على السمع فحسب، بل إنها تأخذ وضعية الاستعداد أيضًا من خلال الاستجابة السريعة للأصوات ذات ترددات معينة. ففي إحدى التجارب، وجد أنه عندما تم تشغيل تسجيل صوتي لطنين نحلة بالقرب من زهرة الربيع المسائية (Oenothera drummondii)، بدأت الزهرة في إنتاج الرحيق وبنسب أكبر من السكر؛ حيث بعد ثلاث دقائق فقط من التعرض للصوت الأول (الوقت الذي اضطر فيه الباحثون إلى الانتظار لتشغيل معدات القياس الخاصة بهم وجمع الرحيق المركب حديثًا) زاد متوسط تركيز السكر في الرحيق بنحو 20٪. فعندما يصل صوت أجنحة النحل إلى الزهرة، تهتز بتلات الزهرة ويتسارع إنتاج الرحيق. ومن المثير للاهتمام أنه قد ثبت أيضًا، أن الأزهار صماء -إذا جاز التعبير- للأصوات التي تأتي بتردد آخر، ولا تستجيب إلا لطنين النحل.
إن امتلاك النبات آلية استشعار لطنين النحل، وامتلاك النحلة آلية خاصة للتعرف على الزهور التي تنتج الرحيق، وامتلاكها الأجهزة الخاصة لإنتاج العسل من الرحيق.. كل هذا التعاون في هذه دقة والتوازن التام، ليس نتاج صدفة أو حظ.
النحل مزود بأجهزة استشعار حساسة تمكِّنها من اكتشاف تركيز السكر حتى ولو كان بنسبة 1-3٪؛ ويرجع السبب الأهم لاستغراق الزهور ثلاث دقائق في إنتاج رحيق أكبر تركيز عندما تحس بطنين النحلة، هو استضافة النحل لفترة أطول، ومن ثم تزداد فرص التلقيح بالزهور الأخرى. فإنه عند بقاء النحلة لفترة طويلة على الزهرة أثناء مص الرحيق، تلتصق حبوب اللقاح اللازمة لتكاثر الزهرة بسيقان وأرجل وأجزاء أخرى من جسم النحلة، مما يزيد من فرص التلقيح المتبادل مع الزهور الأخرى. إن حبوب لقاح بعض الزهور تقع في الجزء العلوي من هيكل الزهرة، ومن ثم تتسلل الرياح بسهولة بين البتلات وتحمل حبوب اللقاح إلى زهور أخرى. بيد أن هناك بعض الزهور تكون الأعضاء التناسلية فيها عميقة جدًّا، بحيث لا تستطيع الريح الوصول إليها. لذلك خصص الخالق أنواعًا من الحشرات مثل النحل، لتلقيح مثل هذه الزهور.
كيف تسمع الزهرة طنين النحلة؟
يتساءل الباحثون كيف تسمع الزهرة طنين النحلة وتتفاعل بناءً عليه!؟ فقد سجلوا الاهتزازات الحاصلة في الزهرة والناتجة عن الصوت المنبعث من حركات جناح النحل، ثم اكتشفوا أن الاهتزازات في الزهرة انخفضت أيضًا عندما استؤصلت معظم بتلات الزهرة. إن ذلك يدل على أن الزهرة، وخاصة البتلات، تلعب دورًا رئيسيًّا في استقبال صوت النحل مباشرة أو على الأقل زيادة الاستشعار به، فيمكن القول إن البتلات بمثابة “الأذن” في زهرة.
لا شك في أن هناك حكمًا من هذه الاستضافة والإنتاج المخطط لهما.. وبحسب اكتشافات الباحثين، فإنه ترتفع التكلفة بالنسبة للنبات لإنتاج رحيق بجودة عالية في كل وقت، لأنه يتطلب استخدام معظم العناصر الغذائية. بالإضافة إلى ذلك، فإن الرحيق الغني بالسكر المنتج في وقت غير مناسب، سيؤدي إلى تكاثر الميكروبات وفساد السكر، لذلك تحتفظ النباتات برحيقها الذي يعتبر ذا قيمة عالية للنحل لاستخدامه في وقت التلقيح عند قدوم النحل، فعندما تسمع الزهرة طنين النحل، تنتج على وجه السرعة سكر الفركتوز والجلوكوز المركزين. يتحقق في هذه العملية قانون التعاون أو “تبادل المنفعة”؛ فبينما تجد النحلة سكرًا عالي الجودة لصنع العسل، تحمِّل الزهرة النحل بالخلايا التناسلية الضرورية لاستمرار نسلها، وتتيح عملية التخصيب مع مثيلاتها من الزهور.
إن امتلاك النبات آلية استشعار لطنين النحل، وامتلاك النحلة آلية خاصة للتعرف على الزهور التي تنتج الرحيق، وامتلاكها الأجهزة الخاصة لإنتاج العسل من الرحيق.. كل هذه الأمور اللازمة من أجل تحقيق هذا التعاون في دقة وتوازن تام، ليست نتاج الصدفة أو الحظ.
من كان يخطر بباله أن بتلة الزهرة يمكن أن تكون بمثابة أذن؟ فعندما تُذكر الأذن، يتبادر إلى الذهن العضوان الموجودان على جانبي رؤوسنا، اللذان يتشكلان من آلاف الخلايا العصبية والعظام، والخلايا الغضروفية والظهارية، من قبل مبدع عظيم أحاط علمه بكل شيء! تتمتع الحيوانات بمختلف أنواعها وفئاتها بأعضاء سمعية مختلفة جدًّا، لكن أداء بتلات الزهرة مثل هذه الوظيفة، أمر مذهل للغاية ولم يُحلّ لغزه بعدُ.
ففي التجارب التي أجريت على 650 عينة من زهرة الربيع المسائية، تم تقدير تردد الرنين للبتلات بعدة مئات من الهرتز بناءً على أنماط الاهتزازات المطورة لكائنات ذات نسيج وشكل متشابهين، وهو قريب من التردد الناتج عن رفرفة أجنحة النحل وفراشات العث. ونظرًا لأن الزهرة تستجيب في إفراز السكر للاهتزازت ذات التردد المنخفض فقط، فإنها تقوم بفلترة اهتزازات الرياح ذات الترددات الأكثر انخفاضًا للحيلولة دون الخلط.
وفي أثناء التجارب المخبرية، قام باحثون بتعريض النباتات لخمسة أجواء مختلفة (الصمت، والأصوات منخفضة التردد، ومتوسطة التردد، وعالية التردد، وصوت طنين نحلة من مسافة 15سم)، فلم يلاحظ أي زيادة مهمة في تركيز السكر في رحيق النباتات الموضوعة في أوعية زجاجية خاصة تمنع دخول الاهتزازات على أنه وسط صامت. وبالمثل، لم تزد نسبة السكر في زهور النباتات المعرضة للترددات العالية (158-160 كيلوهرتز)، والأصوات ذات التردد المتوسط (34-35 كيلوهرتز). ومع ذلك فإن النباتات المعرضة لأصوات جناح النحل (0.2-0.5 كيلوهرتز) والأصوات منخفضة التردد المماثلة (0.05-1 كيلو هرتز)، زاد تركيز السكر فيها بنسبة 12-20٪ في غضون ثلاث دقائق. ومن ثم تزداد إمكانية التلقيح المتبادل للنبات من خلال جذب المزيد من النحل للزهور.
ومع تطور العلم، فمن يدري ما الأسرار الأخرى التي ستفك شفرتها لهذا الأثر الفني الرائع الذي نسميه الطبيعة. كل اكتشاف جديد، سوف يهمس بمعاني جديدة عن الإبداعات والإجراءات الحكيمة للمبدع الذي وسعت قدرته كل شيء، لأولئك الذين يعرفون كيف ينظرون ويقرؤون ويفهمون ويشعرون.
الترجمة عن التركية: خالد جمال عبد الناصر زغلول.