الجرّاح الآلي والطبيب البشري

هل يمكن تخيل أن هناك جرّاحًا بأربعة أذرع وأربعة عيون تقترب وتبعد، ومخ يعالج المعلومات بشكل مستمر دون الحاجة إلى فترة راحة؟! لعلنا نقول إن ذلك ضربًا من ضروب الخيال العلمي، الذي دائمًا ما يجنح إلى الإيهام ويصور المستحيل على أنه حقيقة. ولكننا هنا لسنا أمام قصة أو فيلم من أفلام الخيال العلمي، بل أمام شيء حقيقي، حيث تم بالفعل إجراء جراحات لمرضى عن بعد بواسطة الروبوت عبر تقنيات الاتصالات الفضائية، وبتوجهات من الكمبيوتر ونظم المعلومات والتكنولوجيا بينت أن لهذا النوع من الجراحات مزايا عدة، مثل الدقة وصغر حجم الشقوق في الجراحة وانخفاض كميات الدم المفقودة، وقلة الألم وسرعة الشفاء، الأمر الذي جعلها تمثل ثورة جديدة في عالم الطب والجراحة.

تاريخ جراحة الرجل الآلي

تؤكد الأبحاث العلمية أن فكرة استعمال الرجل الآلي في مجال الجراحة، بدأت قبل 25 عامًا، وقد استمدت من استعمال رجل التأهيل الآلي في مساعدة المرضى والمعاقين، كالذين فقدوا أطرافهم العليا لسبب من الأسباب، فهو يساعدهم على الأكل والشرب والكتابة وغيرها من الأمور.. كما كان لوزارة الدفاع الأمريكية دور كبير في تطوير رجل الجراحة الآلي؛ لغرض القيام بعمليات جراحية معقدة عن بعد خارج الولايات المتحدة للمصابين من الجنود الأمريكيين في ساحات القتال، وكذلك لرجال الفضاء إذا ألم عارض مرضي يستدعي تدخلاً جراحيًّا أثناء رحلاتهم الفضائية بعيدًا عن كوكب الأرض. ثم نمت تجربة إمكانية استخدام الرجل الآلي في إجراء جراحات على الحيوانات أولاً، ثم تعدى استعمالها بعد تحديد سلامتها على البشر. وقد استُعمل الروبوت لأول مرة في عالم الجراحة على البشر في جراحة البطن عام 1997م، ثم في جراحة القلب وخاصة جراحة الشرايين التاجية في أوربا عام 1998م. وفي يوم السابع من سبتمبر من عام 2001م تمكن الجراح الفرنسي “جاك مراسكو” من غرفة في إحدى ناطحات سحاب بمدينة نيويورك الأمريكية، بإجراء عملية استصال المرارة بالمنظار الجراحي لمريضة ترقد في مستشفى بمدينة سترازبورغ الفرنسية، مستخدمًا تقنية الرجل الآلي لأول مرة في عالم الجراحة. وتناقلت وكالات الأنباء العالمية هذا السبق الجراحي الكبير، الذي حقق دهشة عارمة وسط الأوساط الطبية العالمية. وفي عام 2003م تمكن فريق من الأطباء من استخدام الجراح الآلي في مجال استخراج حصاة الكلى. وفي عام 2009م وبالتحديد في شهر يناير، أجرى الدكتور “جيفتر” أول عملية زرع كلى باستخدام الروبوت بمدينة نيوجرسي الأمريكية.

الجرّاح الآلي وجراحات ناجحة

ومنذ دخول الجراح الآلي عالم الجراحة، أجرى العديد من الجراحات الناجحة التي مثلت وثبة جديدة في عالم الطب والجراحة، وأهم هذه الجراحات:

1- استئصال البروستاتا: استئصال البروستاتا التي كانت تمثل خطورة كبيرة على المريض، فيقول الدكتور “تان أنج شون” من مركز الدكتور “أي سي تان” الطبي لأمراض الجهاز البولي، وأحد مستخدمي الجراح الآلي في مجال جراحة البروستاتا: “لقد أصبحت جراحات البروستاتا أقل خطورة، فقد أصبح بإمكاننا الآن تكبير المنطقة التي تشتمل على ذلك الكم الكبير من الأعصاب والأنسجة، مع زيادة وضوح وتفاصيل منطقة التشريح الحرجة، بحيث أصبح من الممكن تجنب بعض المخاطر التي تتضمنها الجراحات التقليدية، مثل السلس والعجز الجنسي”. وقد تم إجراء أول حالة من حالات جراحة استئصال البروستاتا بواسطة الإنسان الآلي في ألمانيا عام 2000م، ومنذ ذلك التاريخ أجريت العشرات من هذه الجراحات باستخدام الروبوت في جميع أنحاء العالم. وبحلول عام 2005م، كان قد تم إجراء حوالي 30 بالمئة من جراحات استئصال البروستاتا الحرجة، باستخدام ومساعدة الروبوت.

2- جراحة القلب والشرايين: تم استخدام الجراح الآلي في جراحات القلب بنجاح كبير، حيث تمكن جرحوا القلب في معهد لندن للصحة، ومعهد العلوم في أونتاريو، من إجراء جراحة على قلب مريض عن بعد مئات الأميال باستخدام الجراح الآلي. وقد فاق نجاح هذه الجراحة، الجراحات التقليدية المنتشرة. وقد علق الفريق الذي قام بإجراء هذه الجراحة بقولهم: “إن العلميات التي تجرى اليوم، ما هي إلا خطوة صغيرة في رحلة الجراحة خلال المستقبل، ومما يميز الجراحة باستخدام الجراح الآلي عن الجراحة البشرية، أن الألم بعد إجراء العملية يكون أخف، كما أن المريض يستعيد نشاطه في زمن قليل، كما يندر تعرض المريض للالتهابات الجرثومية في الجرح، إضافة إلى أن فتحات الصدر تكون تجميلية وصغيرة، وكمية قليلة من الدم هي التي تفقد مقارنة بالجراحة التقليدية، هذا إلى جانب تقليل عدد أفراد الطاقم الطبي.

3- الجراحات العديدة: كما استخدام الجراح الآلي في العديد من الجراحات الناجحة، منها إزالة المرارة، وإصلاح قناة فالوب لدى السيدات، وفي عمليات زرع الكلى، وتوسيع حالب الكلية، والقيام بعمليات معقدة مثل جراحة شبكة العين؛ ففي الملتقى السنوي لجمعية أبحاث الرؤية وطب العيون لعام 2017م في مدينة بالتيمور في ولاية ماريلاند في الولايات المتحدة الأميركية، عرض الجراحون بحثًا يوضح نجاحهم في إجراء أول عملية للعين البشرية باستخدام منظار روبوتي يدار عن بعد. ولا زال المستقبل يحمل الكثير في استخدام الجراح الآلي في جراحات جديدة.

فوائد جمة للطبيب والمريض

ويؤكد الأطباء من مستخدمي الجراح الآلي، أن الجراح الآلي يتيح مزايا عديدة، سواء للجراح التقليدي أو للمريض على حد سواء، فبالنسبة لطبيب الجراحة.

أ- استخدام الجراح الآلي يجعل من تشريح العضو الذي يرغب الجراح في استصاله أمرًا هينًا، خاصة في بعض المواضع الصعبة التي يواجهها الجراح دومًا أثناء العملية بالمنظار.

بـ- استخدام الجراح الآلي يساعد على تعلم هذا النوع من الجراحات، والتدريب عليه سريع جدًّا من قبل الجراحين المبتدئين.

جـ- تمكين الجراح من الجلوس على جهاز التحكم، دون الشعور بالتعب والإرهاق والقيام بحركات جراحية دقيقة خالية من أي رعشة وهزة مهما كانت خفيفة، وهذه الميزة ذات أهمية كبيرة عند إجراء العمليات الدقيقة جدًّا.

د- قيام جراح يقبع خلف جهاز التحكم، بإجراء عملية جراحية لمريض في مستشفى يبعد مئات الآلاف من الأميال، مما يمكن المريض من الاستفادة من خبرة هذا الجراح، وكذلك استفادة الجراحين القابعين في المستشفيات النائية والبعيدة، وتدربيهم على إجراء أنواع من العمليات، بإشراف هذا الخبير الذي يقبع وراء جهاز التحكم، دون الحاجة إلى سفره لتلك المستشفى.

هـ- يمكن للجراح الآلي الاحتفاظ بقاعدة بيانات تتسع لنحو 100 ألف عملية، بكافة تفاصليها وإجراءاتها. وتمثل قاعدة البيانات هذه كنزًا لا يقدر بثمن للجراح، يتعرف من خلاله على الأخطاء المتكررة، والمفأجات غير المتوقعة التي يمكن أن تعترض طريقه. أما بالنسبة للمريض فهناك فوائد تعود عليه، تتمثل في أن الجراح الآلي يساهم بشكل كبير في تقليص مساحة الجروح والقطوع في جسم المريض، وبالتالي فإن قوة وتأثير العلمية على المريض تكون أخف بكثير، وهذه النقطة تكتسب أهمية خاصة في حالة الأطفال، وكبار السن، وأصحاب الحالات الخاصة الحرجة. وهذا يعني أن المريض سيتعافى في وقت أسرع. هذا إلى جانب تقليل فقدان الدم، وبالتالي عدم الحاجة إلى نقل الدم، وتقليص احتمالات الإصابة بالعدوى والتلوث خلال عملية النقل.

وتؤكد الدراسات التي أجريت على نتائج العمليات الجراحية الآلية، أن مدة بقاء المريض في المستشفى بعد إجراء الجراحة الآلية، تقل في المتوسط بما يتراوح بين 5 إلى 8 أيام بالمقارنة مع الفترة التي يحتاج المريض لقضائها في المستشفى بعد إجراء الجراحة التقليدية اليدوية. وهذه النقطة تكتسب أهمية شديدة بالنسبة لاقتصاديات تشغيل المستشفيات، التي تعاني من نقص حاد في عدد الأسرة المتوفرة، خاصة في حالات الطوارئ والحروب التي يكون فيها الضغط على المستشفيات هائلاً، حيث إن الفترة التي يحتاج إليها مريض الجراحات الآلية لقضائها قبل عودته للعمل، وممارسة حياته بصورة طبيعية، تقل بنسبة 59% في المتوسط عن المدة التي يحتاجها المريض لو أجريت الجراحة بالطريقة اليدوية التقليدية، وهذه الميزة تعني توفيرًا كبيرًا للعديد من الشركات التي تتكبد تكاليف هائلة بسبب الفاتورة العلاجية للموظفين، بسبب انقطاعهم عن العمل لفترات طويلة للتعافي.

أخيرًا

وفي النهاية يقفز هذا التساؤل: هل مع استخدام هذه التقنية العلمية الجديدة ودخولها عالم الجراحة، سيأتي اليوم الذي يحل فيه الكمبيوتر محل الطبيب، حيث يرى فريق من الباحثين والخبراء من أنصار استخدام الجراح الآلي في الطب، أن على بعض الأطباء أن يساورهم القلق؛ فقد يجد بعضهم مع مرور الزمان أن وظائفهم قد تم إلغاؤها. إلا أن الكثير من الأخصائيين في الطب، لا تقلقهم هذه الفكرة ولا يخشون فقدان وظائفهم، ويرون ذلك ضربًا من ضروب الخيال.. وقد عللوا عدم قلقهم بأن الرجل الآلي الذي يستعمل حاليًّا، يعتمد على تلقي الأوامر من جراح متحكم، وما الرجل الآلي إلا خادم مطيع لما يمليه عليه سيده الجراح البشري. وإلى أن يحين ذلك الوقت، سيبقي الجراح الإنسان ذو العواطف، هو سيد الموقف وصاحب الكلمة، ومن دون حضوره لن يستطيع الجراح الآلي أن يقوم بأسهل المهمات. 

الهوامش

(1) حضارة الحاسوب والإنترنت، كتاب العربي، مجموعة كتاب.

(2) مجلة القافلة السعودية، عدد مارس-إبريل، عام 2010م.

(3) جريدة عكاظ السعودية، العدد 3646، الصادر بتاريخ 11 يونيو عام 2011م.

(4) الروبوت الجراح، جورج فهيم، مجلة تراث، العدد 163، مايو عام 2013م.

(5) الطبيب الروبوت يتفوق على البشر المختصين، جريدة العرب، بتاريخ 21/8/2017.