الفطرة ومنهج التلقي عند فريد الأنصاري

ركز فريد الأنصاري رحمه الله على إعادة تأسيس المفاهيم، وتصحيح التصورات المؤسسة للحياة العمرانية على الأرض في شتى مجالات الحياة. ومن الطبيعي أن هذا الأمر لن يستطيع شخص القيام به ولا جماعة محدودة، بل هو مشروع بعثة تجديدية شاملة ينهض به العلماء العاملون والحكماء الربانيون، بعدما انحرف المعنى الأصلي للفطرة الإنسانية في عالم الروح، فانحرف بانحرافه السلوك الإنساني.

وإذا أرادت الأمة أن تخرج من هذا الوحل في غمار الأزمة الفطرية، فلا بد من العودة إلى المنهج الفطري التجديدي، وإلى الأصل الذي كان عليه النبي ، والجيل الذي تربى في أحضانه؛ حيث نهلوا من كتاب ربهم واعتصموا به، وتمسكوا بسنَّة نبيهم  وجعلوها منهج حياة.

مفهوم الفطرة

يقول فريد الأنصاري: “الفطرة هي ذلك السر الكامن في قلب الروح، إنها الجوهر المكنون للخلق الإنساني، والسر المصون للوجود البشري، فهي أم اللطائف، ومرجع الأسرار في المعنى الوجودي لحقيقة الإنسان، بكمالها يكمل مفهوم الإنسان، وبنقصها ينقص معناه، وبانخرامها الكلي يخرج عن طبعه وحده إلى درك المعنى البهيمي لجنس الحيوان”(1).

كما يعرفها بأنها “الصورة النفسانية الأولى التي خلق الله عليها الإنسان، بما سواها عليه من توازن وكمال، أي قبل تدخل يد البشر العابثة فيها بالخرم والخدش”.

حفظ الفطرة وصيانتها

إن أي تغيير أو تبديل بشري يطرأ على الفطرة الإنسانية، يعود عليها بالخسران المبين، ويحكم عليها بالضياع والتيه؛ لأنه تدخل إنساني في الشؤون الإلهية التي لا يحق للإنسان أن يتدخل فيها، فإذا تدخل فيها واتبع هواه أفسد الفطرة. وهذا ما أخبر به النبي  حين قال: “ما مِن مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهوِّدانه أو ينصِّرانه أو يمجِّسانه كما تُنتج البهيمةُ بهيمةً جمعاء، هل تُحِسُّون فيها من جَدْعاءَ” (رواه البخاري).

وحفظ الفطرة وصيانتها يكون من جانبين، أولهما من جانب الوجود، وثانيهما من جانب العدم. أما الأول فيكون بحفظ أركانها وثوابتها القائمة على الانضباط للأحكام التكليفية الشرعية ظاهرًا وباطنًا، وأما الثاني فيكون بتشذيبها وتهذيبها من كل ما يهددها بالضياع ويحكم عليها بالخسران. ولا شيء في هذا أهم من إبعاد تدخل النوازع البشرية والأهواء الإنسانية فيها. ومن ثمة فإن الدين وحده هو المؤهل لتحديد معنى الفطرة وصيانتها، “ومن هنا كان خطاب الوحي -بما هو خطاب الفطرة حقًّا- هو وحده المؤهل لإصلاح العطب الحاصل في محركات العمل الإسلامي المعاصر، والقادر على ترشيد السير وتصويب الاتجاه، وضبط بوصلة المقاصد والغايات، وإعادة ترتيب سلم الأولويات، كما هو وحده المؤهل لإعادة تسوية ملامح الصورة الفطرية في النفس الإنسانية على العموم”(2).

من الفطرة إلى الفطرية كمنهج تجديدي إصلاحي

الفطرية منهج إصلاحي تجديدي، يهدف إلى إصلاح ما فسد من فطرة الإنسان، وما طرأ عليها من تغييرات سلبية، وتشوهات سلوكية، وانحرافات أخلاقية.. أما منهج الفطرية فهو ما سماه فريد الأنصاري بـ”منهج التلقي”، أي “تلقي رسالات القرآن من خلال تلقي آياته كلمة كلمة، ومكابدة حقائقه الإيمانية منـزلة منـزلة”(3). وهو “ذلك المنهاج القرآني الذي سلكه النبي  طيلة مدة بعثته الشاملة، بما استقرت عليه من كل وظائف النبوة تلاوة وتزكية وتعليمًا”؛ لذلك لما عدد الله  وظائف الدعوة والبلاغ النبوي الثلاث، ذكر في مطلعها “وظيفة التلاوة” فقال: ﴿لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ﴾(آل عمران:164).

إذا‭ ‬استيقظ‭ ‬القلب‭ ‬من‭ ‬الغفلة‭ ‬وبُعثت‭ ‬فيه‭ ‬الحياة،‭ ‬انعكس‭ ‬ذلك‭ ‬على‭ ‬السلوك،‭ ‬فتخلق‭ ‬بأخلاق‭ ‬القرآن‭ ‬وتحقق‭ ‬بها،‭ ‬وخرج‭ ‬به‭ ‬صاحبه‭ ‬إلى‭ ‬الناس‭ ‬يحمل‭ ‬رسالة‭ ‬القرآن،‭ ‬وترقى‭ ‬إلى‭ ‬منازل‭ ‬الإيمان،‭ ‬وانتقل‭ ‬من‭ ‬الصلاح‭ ‬إلى‭ ‬الإصلاح‭.‬

فقد كان النبي  يتلقى آيات القرآن الكريم ويستقبلها بقلبه الدائم الحيوية والحياة، قال تعالى: ﴿وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ﴾(النمل:6). لذلك أبصر  حقائق الآيات وهي تتنزل على قلبه روحًا من عند الله، فتحقق وتخلق بأخلاق القرآن الكريم؛ لذلك لما سُئلت أم المؤمنين عائشة  عن خلُق النبي ، فقالت: “كان خُلُقه القرآن” (رواه أحمد).

وفرق كبير بين سماع آيات القرآن الكريم أو تلاوته وبين تلقيها، إذ ما أكثر الذين يتلون القرآن الكريم ويسمعون آياته، لكن ما أقل من يتلقاه منهم. فتلاوته قد تكون بدون استحضار القلب، أي أنها سطحية ظاهرة، وأما تلقيه فيكون باستقبال القلب للوحي وشهوده، كأنما يشهد تنزله غضًّا طريًّا، فيتدبره ويتأمله آية آية، فتنبعث فيه الحياة من جديد.

فإذا استيقظ القلب من الغفلة وبعثت فيه الحياة، انعكس ذلك على السلوك فتخلق بأخلاق القرآن وتحقق بها، وخرج به صاحبه إلى الناس يحمل رسالة القرآن، وترقى إلى منازل الإيمان، وانتقل من الصلاح إلى الإصلاح، وتحولت المعاناة إلى لذة والمكابدة إلى حلاوة.. وذلك هو الأثر الذي يتركه القرآن في النفس والمجتمع في كل زمان، لكل من تلاه حق تلاوته.

أركان الفطرية

وأركان الفطرية كما حددها فريد الأنصاري ستة -هي مصطلحاتها المفتاحية- وسألخصها فيما يلي:

1- الإخلاص مجاهدةً: وهذا الركن هو أصل الفطرية وعليه مدارها، “فهو فَصُّ الفطرية، ومُخّها الذي تنطوي عليه، بما هي محاولة لإعادة بناء النفس على ما بُنيت عليه أول ما خُلقت، وقد كان أول بنائها على الفطرة”(4).

والإخلاص أصل أخلاقي عظيم يحتاج إلى مصابرة ومثابرة، ومخالفة للنفس والهوى، “فمن أراد الإخلاص حقيقة، وجب أن يتحقق بطريقة التخلق بمقامه، ومعراج الرقي إلى منـزله، وإلا كان ممن يتمنى على الله الأماني. وليس لذلك دون مكابدة القرآن ومجاهدة النفس به من سبيل، وإنما الموفق من وفقه الله”(5).

2- الآخرة غايةً: وذلك بأن يجعل المسلم الآخرة هي بوصلته التي يضبط بها أعماله، وأن تكون حاضرة في وجدانه بشكل مستمر؛ لأن “الحضور الأخروي الدائم في وجدان المؤمن يجعله آمنا من فتن الشهوات ومن بريق الإغراءات، التي تفسد الدعوات وتدمر الحركات”(6).

وهذا الركن خصيصة متميزة من خصائص الفطرية التي تضع أمور الدين ومراتبه في المكان الذي وضعها الدين لها، وتعطيها حجمها وقدرها الذي أعطاها لها الدين، فتعطي للحقائق الإيمانية قدرها وحجمها كما في الدين، لا كما تشتهي الأهواء والفطر المنحرفة التي تؤخر المقدم وتقدم المؤخر.

وقد قيد فريد الأنصاري هذا الركن (الآخرة) بالغاية؛ “حتى لا يبقى هذا المعنى حبيس التصورات النظرية في الجدل الكلامي، بل ليصبح هدفًا محددًا واضحًا، لكل عمل إسلامي يُرْجَى به نيلُ رضى الله، والفوز بالنعيم المقيم في جنات الخلد، والنجاة من عذاب الجحيم”.

3- القرآن مدرسةً: فلكي تصلح الفطرة الإنسانية، لا بد لها من مدرسة متخصصة في الميدان، وتلك المدرسة هي القرآن الكريم الذي أنزل لإصلاح الإنسان. فـ”هو كتاب إصلاح الفطرة الإنسانية وصيانتها، ومن هنا كانت الفطرية مدرسة قرآنية بالدرجة الأولى”(7).

4- الربانية برنامجًا: والربانية منزلة عظيمة أمر الله بها في قوله تعالى: ﴿وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ﴾(آل عمران:79).

والرباني كما ذكر شيخ المقاصد أبو إسحاق الشاطبي: هو الذي “يربي بصغار العلم قبل كباره، ويوفي كل أحد حقه حسبما يليق به، وقد تحقق بالعلم وصار له كالوصف المجبول عليه، وفهم عن الله مراده”(8).

ويهدف برنامج الربانية إلى “تخريج طبقة الدعاة المربين، وهم طائفة الربانيين الحاملين لرسالة القرآن، المشتغلين بدعوته في الناس أجمعين، بما يقتضيه مفهوم الربانية من مقام إيماني عظيم وفقه دعوي متين”.

5- العلم طريقةً: إذ لا سبيل إلى تحقيق منهج الفطرية دون علم، فهو أساس النهضة وعمود الإصلاح. “فلا مكان في الفطرية للخرافية ولا للأهوائية الشخصانية. ومن هنا وجب أن تحمل رسالات الفطرية لكل المسلمين، الحد الأدنى من العلم الشرعي الذي لا يُعبد الله إلا به، عقيدةً وشريعةً. وذلك هو المسمى عند العلماء بـ”المعلوم من الدين بالضرورة”.

6- الحكمة صبغةً: والحكمة في منهج الفطرية هي: “اتخاذ الإجراء المناسب، في الوقت المناسب، بالقَدْرِ المناسب”. فهي إذن راجعة -في النهاية- إلى كلمة واحدة جامعة هي حُسْنُ التَّقْدِيرِ والتدبير”(9).

وهذا الركن يجمع بين مقامي الفقه في الدين، والتخلق بأخلاقه، وبوجوده يضمن منهج الفطرية سيره وسيرورته، وبفقدانه أو انحرافه يندثر ويهلك.

الخاتمة

من خلال ما سبق، يمكن التوصل إلى النتائج الآتية: إن الأمة الإسلامية اليوم في أشد الحاجة إلى العودة إلى الفطرة التي خلقها الله عليها، حتى تنبعث من جديد وتخرج إلى النور، وحتى تخرج من الأزمات الخانقة التي تتكالب عليهم من كل جهة.

إن مفهوم الفطرة من بين المفاهيم التي حورت وفهمت بأفهام خاصة، لذلك دعا فريد الأنصاري رحمه الله إلى إعادة تأسيسه، حتى لا يؤدي فهمه الخاطئ إلى سلوكات خاطئة؛ إن أي تدخل بشري سلبي في الفطرة هو في حقيقته تدخل في الشؤون الإلهية، يعود على الفطرة الإنسانية بالخسران المبين.

إن الفطرية تقوم على منهج إصلاحي تجديدي، يهدف إلى إصلاح ما فسد من فطرة الإنسان، وهو “منهج التلقي”؛ إن الفطرية تقوم على ستة أركان رئيسة، هي الإخلاصُ مجاهدةً، الآخِرةُ غايةً، القرآنُ مدرسةً، الربانيةُ برنامجًا، العلمُ طريقةً، الحكمةُ صبغةً. 

الهوامش

(1) الفطرية بعثة التجديد المقبلة من الحركة الإسلامية إلى دعوة الإسلام، فريد الأنصاري، ص:95.

(2)المصدر السابق: ص:103.

(3) مدخل إلى الفطرية من الحركة الإسلامية إلى دعوة الإسلام، فريد الأنصاري، ص:2.

(4) الفطرية بعثة التجديد المقبلة من الحركة الإسلامية إلى دعوة الإسلام، فريد الأنصاري، ص:110.

(5) المصدر السابق، ص:111.

(6) المصدر السابق، ص: 112.

(7) المصدر السابق، ص:113.

(8) الموافقات (5/ 233).

(9) الفطرية بعثة التجديد المقبلة من الحركة الإسلامية إلى دعوة الإسلام، فريد الأنصاري، ص:114.