تجعل التصورات الدهرانية علاقة الإله بالإنسان مبنية على التسلط من الخارج وقهر إرادة الإنسان، مما جعل أهل العقل المجرد من الدهرانيين ينكرون الآمرية الإلهية حتى يتحرروا من كل سلطة تقهر إرادتهم، فضلا عن مبادرتهم إلى إنكار الشاهدية الإلهية، واستبدال شاهدية الإله بشاهدية الإنسان، وهو ما يوجب إبراز الرؤية الائتمانية للآمرية الإلهية والشاهدية الإلهية.
ويهدف التصور الائتماني، إلى نقل الآمرية الإلهية من التصور الجلالي الذي يقيمها على مبدأ القهر الإلهي لإرادة الإنسان كما في الفقه الائتماري -أو الفقه المُلكي- وكما ساد بذلك الاعتقاد عند الفلاسفة الدهرانيين، إلى تصور آخر.. وهو التصور الجمالي الذي يقيمها على مبدأ الرحمة ويجعلها تابعة للشاهدية، وهذا ما يتقصده الفقه الائتماني أو الفقه الملكوتي.
وهذا التصور الجمالي، يجعل الأوامر الإلهية تأتي في سياقين اثنين: سياق الاقتران بالرحمة الإلهية، وسياق الاقتران بالأسماء الحسنى، باعتبار أن كل حكم شرعي، موصول باسم أو أكثر من الأسماء الحسنى، وحامل لقيمة أو أكثر من القيم التي تنطوي في هذا الاسم أو هذه الأسماء الإلهية.
فإذا كان الدهرانيون ينظرون إلى الألوهية -وبالأخص الآمرية الإلهية- على أساس أنها تسلط قهري لإرادة الإنسان، مما جعلهم يستبدلونها بآمرية الإنسان، فإن المنظور الائتماني يرى أن الفقه الائتماري رسَّخ في الأذهان أن الألوهية تقوم على قهر الإرادة قهرًا كليًّا، إلا أن بين المجالين التداوليين تمايزًا في الائتمار بها، حيث إن المجال التداولي الغربي استبدلها بآمرية أدنى منها، بينما في المجال التداولي الإسلامي تم إقرارها والاقتناع بها. إلا أن الفقه الائتماري ظل يصطبغ بصبغتين أساسيتين؛ هما الصبغة السمعية التي حددت مسار إنتاجيته، والصبغة الإيجابية التي حددت مصير إقناعيته، حيث تُشعر الأولى بأن البُعد هو الصفة المميزة لعلاقة الآمر بالمأمور، أي طرفي الأمر الفقهي، إذ الآمر يستغني بقوله عن مثوله ولا قُرب مع تعذر المثول، والمأمور يستغني بسمعه عن إبصاره ولا قرب مع تعذر الإبصار، مما جعل هذه العلاقة الفقهية علاقة ذات طابع ائتماري بين بعيدين.
ويظهر أن الفقه الائتماري ينظر إلى الآمرية الإلهية من جانبين اثنين؛ أحدهما جانب السمع، والثاني جانب الإيجاب، في حين يعيد الفقه الائتماني الاعتبار إلى البصر حتى لا يبقى الفقه مبنيًّا على السمع وحده، ويعيد الاعتبار إلى الاختيار فيه حتى لا يبقى مبنيًّا على الإيجاب وحده. ومن ثم فإن ازدواج السمع بالبصر والإيجاب بالتخيير، يمكن الفقه من الظفر بأسباب ملكوتية ليتوسل بها في إقامة بنائه الملكي.
إن الشاهدية تجمع بين الآمرية والراحمية، ومن ثم تُخرج الآمرية من التصور الجلالي القائم على الضيق والتشدد، إلى تصور جمالي قائم على السعة واللين، ومن ثم يجعل الأوامر الإلهية تتأسس على الرحمة وليس على القهر.
وذلك لأن الفقه الائتماري اهتم بصفة واحدة من صفات الله التي هي الآمرية التي تجمع بين الإلقاء والإيجاب، بيد أن هذا الفقه وقع في آفة الاستقلال بهذه الصفة، فاصلاً لها عن باقي الصفات الإلهية، فرتب أحكامه على التسليم بأن الإلقاء والإيجاب الإلهيين يوجبان أن يكون الآمر والمأمور بعيدين بعدًا مطلقًا لاستحالة المناسبة بينهما، مما جعل التصور الائتماني يترك هذه المسلمة وأخذ بمسلمة تضادها، تقتضي أن الإلقاء الإلهي كما الإيجاب الإلهي يقع عن قرب. والمقصود بهذا القرب هنا القرب الملكوتي، لأنه سبحانه تنزه عن القرب الملكي تنزهًا مطلقًا، فلا هو بجسم يحلُّ في حيِّز، ولا الحيز بروح يحلّ فيه. ولا يتأتى هذا القرب إلا بالرجوع إلى الأسماء الحسنى، وأدل هذه الأسماء على هذا القرب، الاسمان اللذان جعلهما فاتحة كل شيء، وهما “الرحمن الرحيم”، وهكذا يكون هذا القرب الإلهي هو قرب رحمة. فالراحمية إذن، هي الصفة الملكوتية التي يتحدد بها القرب الإلهي.
ويترتب على هذه الرحمة الإلهية صفتان ملكوتيتان؛ أولهما السامعية التي هي من آثار تجلي الحق سبحانه باسمه السميع، فيكون سمع العباد ليس سمعًا مستقلاًّ أو قائمًا بنفسه، بل هو سمع تابع للرحمة الإلهية، وهذا يعني أنه لا سمع بغير إسماع الله لهم، ولو شاء لجعل في آذانهم وقرًا.. فيتضح أن السامعية صفة ملكوتية رحموتية يتجلى بها الإلقاء الإلهي في رحمته. وثانيها الباصرية التي هي من آثار تجلي الحق سبحانه باسمه البصير، فكما أنه سبحانه أسمع عباده أوامره فقد أشهدهم، وكما أنها لا إشهاد بغير شهادة على الشيء فإنه لا شهادة على الشيء بغير مشاهدته، إذ الشاهد لا يخبر إلا بما أبصر، وهذا يعني أنه لا إبصار بغير إبصار الله لهم، ولو شاء الله لجعل على أبصارهم غشاوة أو على قلوبهم أكنة. فيتضح أن الباصرية صفة ملكوتية رحموتية يتجلى بها الإلقاء الإلهي، مثَلها في ذلك مَثَل السامعية. ومن هنا تقرر في التصور الائتماني أن الأمر الإلهي هو في الآن نفسه، إسماع وإبصار، فيكون الأمر الإلهي عبارة عن أمر مسموع ومُبصر، لا على أساس أن الحق سبحانه يحضر ما ألقى به إلى الأبصار، وإنما إلى البصائر، كما لا يلقيه على الآذان وإنما على الألباب، مصداقًا لقوله : إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ(ق:37).
ومن هنا “تقرر أن الإلقاء الإلهي بموجب الراحمية الإلهية، ليس إسماعًا إلهيا فقط، بل أيضًا إبصار إلهي. فقد ظهر أن الحق سبحانه يتجلى على من يُسمعهم ويُبصِّرهم، وهو يلقي بأوامره إليهم، باسم عظيم من أسمائه الحسنى وهو الشهيد؛ إذ يُحضر سبحانه لقلوبهم ما يُلقي به إليهم.. وعندئذ يلزم أن يتضمن اسم الشهيد اسمَ السميع واسمَ البصير، بحيث تكون الشاهدية صفة ملكوتية رحموتية جامعة لـ”السامعية” و”الباصرية” كما تنص على ذلك نصًّا صريحًا الآية الكريمة: قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى(طه:46).
و”إذا كانت الشاهدية خاصية يتجلى فيها القرب الإلهي، فليس هذا القرب عبارة عن “قرب رحمة” كما هو الشأن بالنسبة للآمرية فحسب، بل هو نفسه رحمة من نوع خاص، إذ هو عبارة عن “رحمة قرب”؛ فالشاهدية تدل على أن الشاهد الأعلى قريب، والقرب أصله رحمة، والبعد أصله لعنة، ويتخذ هذا القرب شكل “حضور ملكوتي”.. وبهذا، يتبين أن “قرب الرحمة” يزدوج بـ”رحمة القرب” في الشاهدية الإلهية، حتى إن أحدهما لا يُعرف إلا بالآخر؛ فلا تتعرف الرحمة إلى حقيقتها في شيء تعرُّفها إليها في القرب، فماهية الرحمة هي القرب، كما أن القرب لا يتعرف إلى حقيقته في شيء تعرُّفه إليها في الرحمة، فماهية القرب هي الرحمة”.
ويظهر أن الفقه الائتماري وقع في آفتين اثنتين، وهما الإلقاء البعيد والإيجاب البعيد، ورَّثتا المسلم تصورًا جلاليًّا للألوهية، مما أثر على عقله وسلوكه بالضيق والتشدد. وقد تدخل الفقه الائتماني لمعالجة هذا التصور، حيث استبدل الإلقاء البعيد بالإلقاء القريب الذي يجمع بين السمع والبصر، كما استبدل الإيجاب البعيد بالإيجاب القريب الذي يعيد الاعتبار لمبدأ الاختيار. والأصل في هذا القرب المزدوج، هو الرحمة الإلهية التي تتجلى في كون الله سبحانه سميعًا بصيرًا وفي كونه سبحانه شهيدًا. وهكذا فإن الشاهدية تجمع بين الآمرية والراحمية، ومن ثم تُخرج الآمرية من التصور الجلالي القائم على الضيق والتشدد، إلى تصور جمالي قائم على السعة واللين، ومن ثم يجعل الأوامر الإلهية تتأسس على الرحمة وليس على القهر.
ومن ثم فإن علاقة الإله بالإنسان -أو علاقة الآمر بالمأمور- في التصور الائتماني تُبنى على الراحمية الإلهية، وهذا يجعل الآمرية الإلهية تابعة للشاهدية الإلهية، فبحكم هذه الراحمية الإلهية لا تقوم الآمرية على مجرد الإلقاء بالأوامر ومجرد الإيجاب بإيقاعها، بل تقوم على الإلقاء المقترن بالإبصار وعلى الإيجاب المقترن بالاختيار، وذلك لأن الشاهدية الإلهية تجمع بين السامعية والباصرية، فتكون علاقة الإله بالإنسان -أو علاقة الشاهد الأعلى بالمأمور- هي علاقة إسماع وإبصار، لأنه يُسمعه أمره ويُبصره آمِريته.
ويستخلص مما سبق، أن المنظور الائتماني ينبني تصوره للآمرية الإلهية على أساس الرحمة والاختيار لا على أساس القهر والإجبار، أي أنها تقترن بسياق الرحمة فضلاً عن اقترانها بسياق الأسماء الحسنى، كما يتخذ منها دليلاً يدل على وجود الله سبحانه. ومن ثم فإن معرفة الألوهية تتحقق عن طريق التصور الجمالي لصفة الآمرية التي تتقدم على صفة الخالقية، ومن باب أوْلى على صفة الرازقية.. وهكذا يكون التصور الائتماني أبدع دليلاً آخر يتقدم على دليلي الوجود والرزق وهو دليل الآمرية، لكنه لا يفصلها عن الشاهدية الإلهية كما ساد بذلك الاعتقاد في الفقه الائتماري في المجال التداولي الإسلامي، وكما تقرر عند أهل الحداثة من الدهرانيين في المجال التداولي الغربي، وإنما يجعلها تابعة للشاهدية التي هي صفة الحق سبحانه الخاصة، بشهوده لكل شيء وشهادته على كل شيء، كما أن الائتماني ينظر إلى الألوهية نظرًا ملكوتيًّا، حيث لا يقف المتزكي عند الظواهر، بل يتعداها للآيات والقيم المنطوية تحت هذه الظواهر، قصد الوصول إلى معرفة الألوهية تمام المعرفة حتى يأتيه اليقين.
(*) كاتب وباحث مغربي.