الارتباطات النفسية للتسامح: أندرو نيوبيرج
“أندرو نيوبيرج” يعتبر التسامح عملية عصبية معرفية، ووجدانية معقدة ذات مظاهر متعددة، وتُدرك على نحو متزايد على أنها مظهر مهم للعلاج النفسي والتغيير السلوكي. ولذلك يتطلب الفهم الكامل للتسامح معرفة بالآليات العصبية النفسية التي تشكل أساس التسامح.
يبدو التسامح أنه يستلزم دائمًا أن تتعرض الذات للإيذاء؛ فقد يبدأ المرء في تحديد طبيعة الإيذاء الموجه للذات، وكيفية حدوث هذا الإيذاء على المستوى التطوري، وعلى المستوى العصبي النفسي. وإن إدراك الإيذاء الموجه للذات له ركائز عديدة:
أولاً الشعور بالذات، ثانيًا القدرة على تقويم السلوك المتماثل كسلوك مؤذ أو نافع (فكرة انسجام السلوكيات ذات النوع نفسه)، ثالثًا تذكر الحدث وذلك لكي نربط هذا الإيذاء بالفرد الذي اقترف الإساءة. وهذه الركائز هي أيضًا ركائز التسامح، ويمكن أن تساعد في فهم كيفية حدوث التسامح على أية حال.
١- الشعور بالذات
يعدّ “جيشويند ولوريا” تحديدًا أول من أثبت الفصيص الجداري الأسفل، وخاصة في الجانب السائد من المخ يشكل أساس المقدرة على التجريد والتصنيف. بعبارات أخرى، القدرة على توليد فئات للأشياء من مفردات، وتحويل العلاقات إلى أشياء. وتعد هاتان العمليتان ظرفين ضروريين للغة التي تنشأ من خلال ارتقاء هذه المنطقة من المخ وتطورها. ولذلك فالشعور بالذات الذي يعدّ أهم جزء، هو وظيفة الفصيص الجداري الأسفل في الشق السائد، وهذا الشعور يميل إلى أن يكون مرتبطًا بالوجدان الإيجابي بدرجات قليلة، ويرتبط غالبًا ببعض الدرجات بالهوس. وهذا يفسر جزئيًّا لماذا يكون لدى مرضى الاكتئاب الشديد صراع خطير مع شعورهم بالذات، ويؤكدون ذواتهم على نحو واثق بدرجة كبيرة.
ومن هنا، إن تضخم إدراك الأنا أو الذات يعني أننا نميل لأن ندرك أنفسنا بدرجة أكبر من إدراكنا للأفراد الآخرين.. ويُفهم من هذا، أنه بما أن الذات هي التي ينبغي إدراكها، إذن يجب تحليل كل المدخلات المتعلقة بالذات وتقويمها. وعملية تضخم الذات هذه تكون متضمنة الفص الجداري الخلفي الأعلى، والجهاز الطرفي، حيث إن هاتين المنطقتين متضمنتان في منح الشعور بالذات، والشعور بالتكافؤ الوجداني على التوالي. وهذا الإدراك المتضخم للذات يعدّ ضروريًّا من المنظور التطوري، وذلك لقاء الذات فوق كل الأشياء الأخرى. وإذا لم يحدث مثل هذا التضخم للذات، فإن هذا يجعل الشخص أقل اهتمامًا بحماية ذاته أو ذاتها، وينشأ تضخم إدراك الذات أيضًا نتيجة إدراكنا لعواطفنا وأحاسيسنا، والتي يتم إدراكها على أنها جزء من ذاتنا وليس على أنها عادة من شخص آخر، وهذا الإدراك يُولد الشعور الكبير بالذات بكل الأشياء التي تحدث لها، وإدراكها.
٢- انسجام النوع
يمثل العنصر الثاني في إدراك الأذى، في فكرة “انسجام النوع” الذي يشير إلى العلاقة المُدركة غير الطبقية بين فرد معين ومجموعة من الأنواع الأخرى في الجماعة. ويعد انسجام النوع -بالإضافة إلى التنظيم الطبقي- واحدًا من أكثر القوى النفسية الاجتماعية المؤثرة التي تُحدث النظام والعلاقات، والأدوار داخل الجماعات الاجتماعية للإنسان وتحددها، ويكون الانسجام أفقيًّا داخل المجتمع، ويمثل العنصر النفسي الاجتماعي “للديمقراطية الأصلية”، في حين يكون التنظيم الطبقي رأسيًّا داخل المجتمع، ويمثل -حيث يكون- عنصر “الأرستقراطية الأصلية” في تنظيم المجتمع، ومع ذلك يبدو أن كلتا القوتين تكونان موجودتين إلى حد بعيد داخل كل الجماعة الإنسانية المستقرة.
والمثال المثير لتمازج هاتين القوتين النفسيتين الاجتماعيتين، سيتمثل في المهاجمة البدنية للعبد لسيده في القرون الوسطى، عندما ادعى الأخير حقه في أن يقضي الليلة الأولى مع العروس الجديدة للعبد. وعلى الرغم من ندرة مثل هذه الحوادث، فإنه من المعروف أنها حدثت. وفي مثل هذه الحالة، يلجأ العبد إلى مبدأ انسجام النوع في مواجهة التنظيم الطبقي الراسخ والمؤثر جدًّا. وبناء على ذلك يساعد انسجام النوع في إحداث التوازن داخل الجماعة الاجتماعية، حيث يفهم كل أعضاء الجماعة أدوارهم، وعلاقاتهم بكل الأفراد الآخرين بالجماعة. ومن الواضح أن كلاًّ من التنظيم الطبقي وانسجام النوع، لهما فائدة تطورية تتمثل في المساعدة على الحفاظ على سلامة البنية الاجتماعية للجماعة، وللتنظيم الاجتماعي ذاته فائدة تكيفية واضحة للجماعة الإنسانية والأنواع الأخرى.. إذن السلوكيات التي تساعد في تدعيم البنية الاجتماعية، يكون لها فائدة تكيفية.
وعندما نتأمل تطور التسامح وآلياته، نلاحظ أن انسجام النوع والتنظيم الطبقي يمارسان دورًا فيه، حيث يكون انسجام النوع محوريًّا في فهم جوهر هذه الظاهرة، ومن المحتمل أن يُكتسب انسجام النوع لدى الكائنات الإنسانية من خلال تراكيب في المخ، تُشكل أساس القدرة على تكوين فئات تصنيفية للجماعات، وفقًا لأوجه التشابه المُدرك بين البشر والحيوانات الأخرى. فلدى الكائنات الإنسانية وظائف معرفية ووجدانية في المخ ذات مرتبة عليا، تتيح له إدرام فئة “إنسان”، والأهم من ذلك إدراك فئة “جماعتي” أو “قبيلتي”، وهذا يمثل الأساس العصبي الجوهري في بزوغ الانسجام النوعي. ويتم التأكيد على انسجام النوع عندما يسلك كل أعضاء الجماعة سلوكًا حسنًا ليحافظوا على توازن الجماعة.
٣- إدراك الإيذاء
من الواضح أن الفرد الذي لا يمكنه أن يحتفظ بحادث الإيذاء في الذاكرة لأية فترة ذات دلالة، لن يمكنه أن ينتقم من مقترف الإيذاء، وقد حدد “مورفي” (Murphy) التسامح على أنه إنكار الاستياء، والذي يختلف عن النسيان، والذي يفسره على أنه مجرد أحداث حدثت، وبناء على ذلك يتطلب التسامح ذاكرة للإطار السببي الذي يدخل في نطاقه أن إيذاء الذات قد حدث، وبذلك يتذكر المُساء إليه المسيء والأحداث المؤذية. ويرى “مورفي” أن التسامح يساعد الفرد على تجنب العواقب المؤلمة الناجمة عن الاحتفاظ بالانفعالات السلبية المرتبطة بالاستياء، ونحن نؤكد أن التسامح في المستوى الفطري جدًّا يتضمن إنكار الانتقام، وإنكار الانتقام يكون مدمغًا جدًّا في المخ من قبل، ويمثل نسخة متطورة من ظاهرة التسامح.
واعتبر “نيوبيرج” أننا عندما نعود لتطور التسامح، يمكننا أن نفهم كيفية ارتباط التسامح بعناصر إدراك الإيذاء والانتقام ارتباطًا عصبيًّا نفسيًّا، فقد يفهم المرء على المستوى الحدسي، الفائدة التكيفية لسلوك التماس الانتقام كسلوك مرتبط بمبدأ انسجام النوع. وتقترح بعض الدراسات بالفعل، أن الأفراد الذين ينتقمون بطريقة أو بأخرى عندما يؤذون الآخرين، يميلون لأن يكونوا أقل تعرضّا للإيذاء من قبل الآخرين. ويمكن أن نفهم الفائدة التطورية لسلوك التسامح، من تخلي الأفراد عن حقهم في أن يثأروا ممن أخطأ في حقهم، واستعادة التوازن، وإعادة ترسيخ مبدأ انسجام النوع بأسلوب معتاد. وقد نتوصل إلى كيفية حدوث التسامح لدى الكائنات غير الإنسانية المتماثلة، وذلك من خلال تأمل عالم الحيوان من حولنا، فتُصدر الحيوانات عددًا من سلوكيات التصالح، متضمنة إصدار الإيماءات التي تنم عن الخضوع، والتي تساعد على إنهاء الشجار بين الأنواع (الحيوانات)، ومن المحتمل أن يكون التسامح هو السلوك المماثل على مستوى القشرة المخيلة لهذه الأنماط من السلوك، ولكن سيكون من الضروري إجراء دراسات مستقبلية على مثل هذه السلوكيات لدى الحيوانات، لنقيم الدليل على أن أي ادعاء يربط على وجه التخصيص سلوكيات الحيوان بتسامح الإنسان.
ويؤكد “نيوبيرج” على أن تشجيع التسامح يعدّ أسلوب تدخل علاجي فعال حتى الآن بمرتباته التحولية، ويساعد التحليل العصبي النفسي للتسامح في تحديد الأجزاء المحددة من الجهاز العصبي المُتضمنة في عملية التسامح، ويحدد التوجهات المستقبلية للبحوث والتطبيقات الإكلينيكية.. وأخيرًا يقترح النموذج النفسي العصبي أن التسامح أساسًا قد تكون له تأثيرات مفيدة على الجسم، مثل انخفاض مستويات هرمون المشقة، وحدوث تحسن في أنماط النوم، وبعبارات أخرى، قد يسير التسامح والشفاء جنبا إلى جنب، ومن الصعب إحراز أحدهما دون الآخر، ويمكن أن يبدأ التحليل العصبي النفسي للتسامح في وصف لماذا يعد التسامح ظاهرة مهمة نفسيًّا وجسميًّا وروحيًّا واجتماعيًّا وكونيًّا.
التسامح والشخصية: روبرت إيمونز
يرى “روبرت” أن أحد أسباب دراسة التسامح، هو أن تناوله كوسع مُعمم عبر المواقف أو ميل عام للتسامح مع الآخرين، ويتمثل هذا الميل المُعمم للتسامح -كميل غير مشروط وغير مقيد بسياق معين- في التجاوز عن إساءات الآخرين، وعن الإساءات التي تحدث في إطار العلاقات الشخصية.
وقد يُطلق على الوسع أو الميل العام للتسامح مصطلح “التسامح”، والميول للتسامح مغاير عن فعل أو عملية التسامح؛ فالميل للتسامح هو فضيلة تتمثل في الميل إلى وضع حد للغضب من الأشخاص المخطئين الذين يستحقون اللوم، وذلك من خلال إدراكهم إدراكًا كريمًا، ذلك الإدراك الذي تزودنا به المبررات المميزة للتسامح. والشخص المتسامح هو الشخص الذي يميل إلى أن يكون مدركًا للظروف الملطفة للغضب، وهو الشخص الذي لديه مهارات تحكم انفعالي متطورة إلى حد كبير، تمكنه من تنظيم الغضب والانفعالات المرتبطة بكف الميل للتسامح، والشخص المتسامح، لديه اهتمام مستمر في أن تكون علاقاته مع الآخرين علاقات كريمة ومتناغمة.
التسامح والروحانية: باتون
لقد أشار “باتون” إلى نقطة حاسمة وهي أن التسامح يُفهم على نحو أفضل “كجزء من عملية الحياة الأكثر رحابة”، وفي الواقع تتضمن الرعاية القسّية (رعاية القساوسة) للناس الذين عانوا الإيذاء على أيدي الآخرين، توسيع مجالات اهتمام الفرد التركيز على الإساءة والمسيء، إلى التركيز على الإطار الأرحب لصورة حياتهم.
ويرى “باتون” أن التسامح يعد عنصرًا في عملية أكبر تهدف إلى التعامل مع الشعور بالخزي والذات المغتربة، وهو القدرة على إدراك الجانب الإنساني في الإيذاء الذي تعرض له الفرد، واكتشاف ذاته كذلك. ومن المهم أن نضيف أن التسامح الذي يصفه “باتون” ليس عملية دنيوية، بل إنه روحي بدرجة عميقة: “التسامح هو مثال لنوعية الحياة عندما نعيشها في علاقة مع الله ومع أصحابه من البشر”، أي ينبغي علينا أن ندرك التسامح على أنه جزء من النسيج الكلي لحياة الفرد، وليس عملية منعزلة عنه.
(*) كاتب وباحث مغربي.