في ظلمات الباسفيك في عمق يصل إلى ٢-٤ كيلومترات، تعيش أسماك وسرطانات بحرية بيضاء اللون، بالقرب من نبع ساخن يخرج من أعماق القاع، حيث تحدث أعقد المعادلات الكيميائية فيتشكل الجزيء الحي من آلاف الذرات المعدنية المختلفة.

هنا يخرج الماء الذي يغلي بدرجة حرارة تصل إلى ٤٠٤ درجة مئوية، ويختلط بماء المحيط الذي لا تتعدى درجة حرارته بضع درجات فوق الصفر، مما يؤدي إلى تكوين كبريتيد الحديد. وهنا أيضًا وعلى بعد أمتار من ذلك النبع الفوار، تهب سحابة من الأعلاق والجراثيم والبكتيريا التي تتغذى عليها الديدان والقواقع.. إنه مكان يكتظ باللافقاريات والرخويات. وبفضل المجاهر المعدة خصيصًا لهذه البيئة التي تقع على بعد أمتار من جحيم حقيقي، تعرف العلماء على كائنات حية بدائية لم يسبق لأحد أن اطلع عليها.

وهناك بعض الديدان كيفت نفسها لتتحمل درجة حرارة تصل إلى ٦٥ درجة مئوية رغم هشاشة أنسجتها، أما الأحياء التي حملت أصدافًا تحميها من سخونة الماء، فإنها تستطيع أن تعيش في بيئة تصل حرارتها إلى ٨٠ درجة، فيما تطورت قدرات البعض الآخر لتتلاءم مع درجة حرارة المياه المنخفضة والمرتفعة.

وهناك أيضًا أعشاب الجحيم التي كيفت نفسها للعيش وسط الماء الساخن، فيما اتخذت بعض الأحياء المهجرية من الهيكل العظمي لحوت نافق، دعامة لإجراء التبادلات الحياتية مع غيرها. وهنا نجد أسلوبًا آخر في المقايضة، فالبعض يقدم أنزيماته للحصول على الغذاء، فيما يحاول البعض الآخر استخدام هذه الأنزيمات كغذاء مفضل.

السم المفيد

أما على اليابسة فقد زاد الاهتمام بزراعة النباتات والأشجار، خاصة في المناطق الصناعية لزيادة نسبة التلوث فيها وتعد دول مجلس التعاون الخليجي من أوائل الدول التي اهتمت بالتشجير في المنطقـــة العربية، وذلك لتجنب الآثار الضارة للصناعات البتروكيماوية فيها، إلا أنه في الآونة الأخيرة بدأت تغزو المدن بعض النباتات السامة بشكل مخيف.

وقصة موت سقراط المأخوذة عن واحدة من أشهر محاورات أفلاطون، التي تسمى “فيدو” (Phaedo) تعطي فكرة واضحة عن تأثير مادة الكونين (Conine) على الجسم، وهي مادة شبه قلوية تستخرج من نبات الشوكران

(Poison Homlock)؛ فقد كان القادة في اليونان القديمة يخشون من تأثير الفيلسوف سقراط على شباب مدينة أثينا، فاختاروا لإعدامه طريقة لا تؤلم وهي السم.

بعد أن شرب سقراط السم شعر بالخدر فاستلقى على الفراش، وسرعان ما قرصه الرجل الذي أعطاه السم في قدمه، وسأله إن كان قد أحس بالقرصة أم لا، فأجابه بالنفي، وبعد فترة قرصه الرجل مرة أخرى في ساقه وسأله إن كان قد أحس بالقرصة، فأجاب سقراط ثانية بالنفي.. أوضح الرجل كيف أن أطراف سقراط سرى فيها الخدر والبرودة تدريجيًّا، ثم قال: “حينما تصل البرودة إلى قلبه سيموت”.

تحتوي النباتات السامة عمومًا على مركبات كيميائية ذات تأثير حيوي على الخلايا والأنسجة ووظائف الأعضاء بصورة عامة. ويمكن القول بأن التأثير السام لهذه النباتات يكون في شكل أعراض يمكن تدارك بعضها، والبعض الآخر خطر قد يؤدي إلى الوفاة أو يترك بعض الآثار الجانبية. وتوجد هذه النباتات في البيئة البرية، مثل المراعي والسهول والمرتفعات، كما توجد في الحدائق العامة، وتوجد أيضًا في الأماكن التي يغشاها الناس للرحلات والترفيه والتنزه.

وتضم النباتات السامة نباتات طبية تحتوي على مواد فاعلة نافعة علاجيًّا، وهذه يُترك أمرها للمتخصصين من الصيادلة وخبراء الأعشاب، حيث يتم الاستفادة منها لاستخلاص موادها الفاعلة بطرق علمية وفنية معينة، وتقدَّم في جرعات محسوبة في غاية الدقة للعلل والأعراض المرضية التي تصلح لعلاجها، ومثال ذلك “نبات الداتورا” (Datura Stramonium) الذي يعرف في بعض البلدان باسم “نور الفدى” أو “التفاح الشوكي” (Thom Apple)، وينتمي هذا النبات للفصيلة الباذنجانية، وهو نبات طبي إلا أنه سام.

وهو يحتوي على مركبات فاعلة من طائفة القلويدات أو أشباه القلويدات (Alkalosis)، وهي تستخدم لتهدئة التقلصات والتشنجات العضلية، كما تستخدم في عملية العيون وفي علاج بعض علل الجهاز العصبي وعضلة القلب، إلا أنها سامة للغاية؛ فهي تؤثر على الجهاز العصبي، وحركة العضلات الدقيقة، وتمنع إفراز العرق واللبن واللعاب. إن تناول كميات قليلة من هذا النبات له خطورته؛ لأنه يؤدي إلى الهلوسة والهذيان وفقدان الوعي.. حتى العسل الذي ينتجه النحل قد يصبح مسمومًا إذا امتصت أسراب النحل رحيق أزهاره خاصة في المناطق التي يكثر فيها هذا النبات، ولذلك يحسن تجنب استعمال مثل هذه النباتات في العلاج الشعبي، وعلى الأخص من جانب المعالجين الشعبيين الذين ليست لديهم الخلفية العلمية بخواص هذه النباتات وما تحتويه من عناصر كيميائية. إن القليل من هذه المواد مفيد، وإذا زاد أصبح سُما زعافًا.

وهناك أيضًا بعض النباتات التي تتطلب المزيد من الانتباه، وهي تلك النباتات التي تحتوي على مواد سامة، مثل المواد التي تؤدي إلى الإصابة بالسرطان، أو تتسبب في تشويه الأجنة في بطون أمهاتها، ومنها ما يتسبب في تسمم الكبد نفسه الذي يقوم بالجزء الأكبر من عملية التخلص من المواد السامة التي تجد طريقها إلى أعضاء وأنسجة الجسم المختلفة.

التثقيف الذاتي للنبات

يظن الجميع أن النباتات على اختلاف أنواعها، لا تمتلك دماغًا على الإطلاق، ولا تمتلك جهازًا عصبيًّا كالذي يمتلكه الإنسان والحيوان، لكن يبدو هذا الظن في طريقه إلى التغيير، إذ اكتشف مجموعة من العلماء مؤخرًا، أن بذور بعض النباتات تتصرف كما لو أنها تمتلك دماغًا يقرر متى ينبغي أن تبدأ عملية الإنبات.

ولاحظ فريق بحثي بجامعة برمنجهام البريطانية، أن هناك مجموعة من الخلايا الموجودة داخل بذور نبات “رشاد أذن الفأر” (Thale Cress) المعروف علميًّا باسم “Arabidopsis Thaliana”، تمتلك القدرة على تقييم الظروف البيئية المحيطة بالبذور داخل التربة من أجل اتخاذ قرار الإنبات، والمدهش في الأمر أن ذلك يتم بكيفية مشابهة للطريقة التي يقرر بها المخ البشري إذا ما كان يجب أن يتحرك الجسم أم لا.

توضح الدراسة المنشورة بدورية “وقائع الأكاديمية الوطنية للعلوم” بالولايات المتحدة الأمريكية، أن تلك الخلايا التي تتصرف كالمخ، تتمركز بالأساس داخل الجذر الجنيني للبذرة. وتقسم الدراسة تلك الخلايا إلى مجموعتين: الأولى تحفز استمرار عملية الخمول وعدم الإنبات، والثانية تحفز عملية الإنبات ونمو النبات من البذرة. إذ يجري التواصل بين مجموعتي الخلايا المثبطة والمحفزة للإنبات عبر الهرمونات فيما يشبه الحديث والنقاش، ومن ثم يتم اتخاذ القرار الحاسم بشأن بدء عملية الإنبات.

وبالرغم من أن هذا الاكتشاف العلمي يعَدُّ ثورة ويغيِّر فكرتنا عن النباتات (من كائنات بلا مخ إلى كائنات قادرة على اتخاذ قرارات بناءً على معطيات)، إلا أن ذلك الاكتشاف يَعِدنا بثورة أخرى لمجابهة أزمة الغذاء المتوقعة في المستقبل. وبالتالي إن فهم الطريقة التي تنبت بها البذور بشكل دقيق، سيساعد في إيجاد طرق لزيادة المحاصيل الغذائية.

وقد تمكن فريق من الباحثين من الوصول إلى ذلك الاكتشاف عبر استخدام نموذج رياضي حاسوبي؛ لتوضيح أن عملية التواصل أو الحديث عبر المركبات الكيميائية التي تحدث بين مجموعتي الخلايا المحفزة والمثبطة، هي المتحكمة في حساسية النبات للبيئة المحيطة به، ومن ثم اتخاذ قرار الإنبات. ثم قام الباحثون بإثبات نتائج ذلك النموذج الرياضي من خلال تجربة معملية تم فيها تعديل بذور نبات “رشاد أذن الفأر” وراثيًّا، لتصبح خلاياها أكثر قدرة على التواصل فيما بينها، وذلك للتأكد من أن قرار الإنبات متصل بشكل أساسي بذلك الحوار الهرموني بين مجموعتي الخلايا.

على صعيد آخر، ينضم هذا الاكتشاف إلى قائمة الاكتشافات الحديثة المتعلقة بفكرة وجود عقل أو وعي لدى النباتات. إذ كشف بحث آخر، نشر بدورية “فسيولوجيا النبات” (Plant Physiology) في منتصف العام الماضي، عن أن النباتات يمكنها أن تشعر حين يتم لمسها، ولا يتوقف الأمر عند ذلك فحسب؛ بل أوضح البحث أنها تستجيب للمس أيضًا وبطرق مختلفة وفقًا لطبيعة اللمسة.

ويوضح ذلك “أوليفر فان أكن” الباحث بجامعة أستراليا الغربية بقوله: “على الرغم من أن النباتات لا تشتكي حين يتم قطف زهرة منها أو الدهس عليها والمرور خلالها في أثناء التنزُّه، إلا أنها واعية بشكل كامل لتلك الملامسات وتستجيب بشكل لحظي”. لكن ذلك لا يعني أنها تشعر بالأمر وتدركه كما يحدث لنا نحن البشر.

هذا وإن هناك العديد من الأبحاث المنشورة الأخرى، توضح أن النباتات يمكنها سماع الحشرات وهي تأكلها، ومن ثم تعمل على إفراز مركبات كيميائية لإيقافها. كما تم إثبات أن النباتات المختلفة، يمكنها التواصل والحديث فيما بينها عبر تبادل رسائل من المركبات الكيميائية تحت الأرض عبر شبكة الفطريات التي تتعايش على جذورها، بغرض تحذير بعضها بعضًا من المخاطر المحيطة، أو التغيُّر في الظروف المناخية.

بالإضافة إلى هذا، وُجد أن النباتات يمكنها تثقيف نفسها وتعلُّم سلوك معين وتذكُّره عبر التكيُّف الشرطي، تمامًا كما في تجربة كلاب بافلوف الشهيرة؛ حيث توضح الدكتورة “مونيكا جاجليانو” الباحثة بجامعة أستراليا الغربية ومحررة كتاب “لغة النباتات” (The Language of Plants) قائلة: “تفتقر النباتات إلى المخ أو الأنسجة العصبية، لكنها تمتلك شبكة معقدة للغاية من الإشارات المعتمدة على المركبات الكيميائية داخل خلاياها بشكل مشابه لعمليات الذاكرة بالحيوانات”.

إن كل ما تم ذكره، من شأنه قلب إدراكنا لتلك الكائنات الخضراء المسالمة والصامتة، وعلاقاتنا بها رأسًا على عقب، إذ يبدو أنه يمكنها الإحساس والاستماع والحديث والتعلُّم وحتى اتخاذ القرارات..الأمر الذي يطرح أسئلة علمية عن كيفية حدوث ذلك، وفلسفية عن طبيعة الوعي والإدراك، وأخلاقية حول علاقتنا بالنباتات.. لكن العلم وحده هو ما يمكن أن يجيب لنا عن كل تلك التساؤلات التي لا نملك لها إجابة حتى الآن.

(*) أكاديمية وباحثة سورية.

المراجع

(١) للنباتات عقول، مجلة العلوم الأمريكية، النسخة العربية، ٢٧/٧/٢٠٢٠.

(٢) Collenette, S.2020, Anillustrated Guid to the Flowers. Meteorology and Environmental Protection Administration, Corpion publication Ltd. London.

(٣) Chaudhary. S.A. and M. Akram. 1998. Weeds of Saudi Arabia and the Arabian Peninsula. Regional Agriculture and water Research Center, Mininstry of Agrcultrue 2019.

(٤) Secretariate General, royal Commission for Jubail and Yanbu, Riyadh, Kindom of Saudi Arabia 2018.