أماه! هل تسمعين طرقاتي الخافتة على باب قلبك؟! أتسمعين دقات قلبي الصغير؟! وأنا لم يتجاوز طولي السنتيمتر الواحد، لكن لي قلبًا دقيقًا ينبض من تدفق دمك الغالي إليه. الطبيب يراني في بيتي الدافئ؛ رحمك الآمن الأمين عليَّ. ويرى قلبي -وأنا في أسبوعي الخامس- ويشير إليك لتشاركيه النظر إليه وهو ينبض في سرعة وانتظام، لكن أعلم أنك أحسستِ بي قبل أن تراني عيناكِ ، لأن ربي أودع في أمومتك المخلوقة بلطفه جزءًا من سره، فكما أحب خلْقَه قبل أن يبرأ نسماتهم، أودع في قلبك الحب لي وأنا بذرة في داخلك لم ترني عيناك بعد، ﴿إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾ (يوسف:100).
قلبي صغير جدًّا، لكنه قوي منتظم، بل إنه يفوق في سرعته وعدد ضرباته قلوب البالغين.
أعلم يا أماه أنك لا ترين فيَّ ما يراه البعض أنانية وأثرة، فتجودين بسخاء بالهيموجلوبين الأمومي وتبذلينه لي وأنت في غاية السعادة.
وبعد نبض قلبي بأيام قلائل يبدأ جسدي بحركاته الأولى، وأنا أعرف حدود حركاتي وقفزاتي فلا أرتطم بجدران غرفتي المكيفة، حتى لا يصيبكِ مكروه وإن كنتُ بعدُ نسمة في داخلك.
ها هي الأيام تمضي ، فيزداد نشاطي وتتصاعد حركاتي قوة وعددًا متراوحة بين الدقة والنشاط في الأسبوع الثاني عشر. وأحمد الله أن جعلني معك لطيفًا رقيقًا، حتى لا أزيد متاعب حملك. وبعدئذ أتجاوز شهري الرابع فتشعرين بتحركاتي وبدبيب حياتي داخل كيانك، فيكون بيننا حديث بلا كلام، وحوار حب بلا جدل، وتواصل لا يسكن في نوم ولا ينقطع بليل أو نهار.أماه! ربي أودع في أمومتك المخلوقة بلطفه جزءًا من سره، فكما أحب خلْقَه قبل أن يبرأ نسماتهم، أودع في قلبك الحب لي وأنا بذرة في داخلك لم ترني عيناك بعد
يا الله! يا لها من قفزة مبكرة مفاجئة، بداية من أسبوعي التاسع؛ ينقبض حجابي الحاجز، ويتحرك صدري وبطني ، ولاأتجاوز حدودي رغم ما يحوطني من الظلمات.
ها هو فمي يتحرك؛ أحرك فكي أفتحه وأغلقه، وأتشدق به وأحرك لساني مع حلول أسبوعي الحادي عشر. يتعجب الطبيب عندما يراني ولا يعرف علة فعلي هذا، أتراه يظنها عبثًا ولهوًا؟! كل ذلك -ثم محياي ومماتي- تسبيح لرب العالمين.
ها أنذا أحرك أصابعي يا أماه، فيراني الطبيب وأنا أضع إبهامي في فمي بدءًا من الأسبوع الثاني عشر، وبمتابعته يتوقع ما إذا كنت أيسرَ أم أعسرَ من قبل أن ترى عيناي النور.
وقد يراني الطبيب “متثائبًا” أحيانًا بعد الأسبوع السادس والعشرين، لكن ذاك ليس “كسلاً”، بل هي حركات فاعلة لزيادة ارتجاع الدم الوريدي إلى القلب، ومن ثَم زيادة نسبة الأكسجين عند احتياجي إليه في حالات ضعف الدم أو “الأنيميا”.
يومًا فيومًا يشتد ساعدي أكثر فأكثر، وتقوى بنيتي ويخلقني ربي ﴿خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاَثٍ﴾ (الزمر:6)، فلا يحزنك يا أماه أن حملت بي ﴿وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ﴾(لقمان:14)، فما وهنك إلا قوة لي تندفع بلطف الله ثم بمحبتك في كياني وتكويني، فتتصاعد حياتي وتنشط حركاتي ؛ فتكون رسالة ألفة وتواصل بيني وبينك، وتكون دلالة متابعة منك لصحتي وعافيتي قبل أن تراني عيناك، فيمتلئ قلبك طمأنينة وحبورًا.
وقد جعل الله لي “ليلاً ونهارًا” صغيرين دقيقين كصغري ووقتي؛ فربي الوهاب لم يحرمني من سنة كونية كبرى حتى في عمري الصغير هذا، فأقرأني بلطفه في كتاب كونه، وجعلني بذلك أول من امتثل لوصيته الأولى لنبيه صلى الله عليه وسلم ﴿اقْرَأْ﴾. وشيئًا فشيئًا يصبح نومي أكثر عمقًا وانتظامًا، حتى يصبح قبيل ولادتي متطابقًا مع برنامج الصحو والنوم عند الوليد حديث الولادة.
إن حيويتي وشخصيتي لا تتبلوران فقط فيما يصدر عني من حركات، بل إن لي أحاسيسي وتفاعلاتي؛ فتبدأ حاسة اللمس عندي من أسبوعي الثامن، ومع أسبوعي الرابع عشر تتشكل المستقبِلات العصبية للتذوق بفمي فأبدأ بتذوق السائل الرهلي، وأتسارع أو أتباطأ في ابتلاعه وإرجاعه حفاظًا على دورة الماء حولي، ولا أفعل ذلك كآلة مجردة من الحس، بل إنني حقًّا “ذواقة” أتعرف حتى على النكهة التي تشمل التذوق والشم، حتى إنني عقب ولادتي أميل للتعرف على نوعية الأطعمة التي سبق أن أكلتِها -يا أمي- إبّان حملك بي، وأفرزتها لي في السائل الرهلي المحيط بي، فأميل إليها وأتعرف عليها وأفضل بعضها بعد مولدي.
أما حاسة الشم عندي، فتبدأ ما بين الأسبوع الحادي عشر والأسبوع الخامس عشر. فقد وهبني ربي قدرة رائعة في هذا الأمر، ويكفيني “الانتشار الكيميائي” للمواد ورائحتها في السائل الرهلي.
كما وهبني ربي سمعًا دقيقًا؛ فتبدأ حاسة السمع عندي أبكر مما تظنون. إنني أسمع بدءًا من أسبوعي السادس عشر، رغم أن التكوين النهائي لأذني يتم في الشهر السادس، وهذا عجيب حقًّا؛ إذ إن سمعي يبدأ من تأثر أجزاء جسدي الأخرى كالجلد واللحم والعظام بمؤثرات الذبذبة والاهتزاز محدثة “استقبالات سمعية أولية” تكون بداية لحاسة السمع المتكاملة في وقت لاحق.
ربي الوهاب لم يحرمني من سنة كونية كبرى حتى في عمري الصغير هذا، فأقرأني بلطفه في كتاب كونه، وجعلني بذلك أول من امتثل لوصيته الأولى لنبيه صلى الله عليه وسلم.
إنني موجود في بيئة تنمّي فيّ حاسة السمع حقًّا. لستة أشهر مضت وأنا “أتحسس” دقات قلبك يا أماه، وتحوطني أصوات أحشائك. وهذا تدريب رباني لأذنيَّ لأسمع (وأرى) بهما قبل أن ترى النور عيناي، وإنني أمهر كثيرًا مما تظنون. فإن لي قدرة على الاستجابة السمعية للمؤثرات ذات التردد المنخفض، مما يؤهلني للتدريب على سماع الكلام، حتى إنني أستطيع تمييز صوت أمي من بين الأصوات، بل وأميّز كلامها فيعتدل معدل ضربات قلبي عند سماعي لكلماتها. إنني بمَلَكة الاستماع المتقدمة لديَّ هذه، أتهيأ في غرفتي المظلمة قبل مولدي لتعلّم الكلام بعد خروجي لعالم النور.
وتتحرك عيناي في محجريهما حركات بطيئة من الأسبوع السادس عشر، وأخرى سريعة من الأسبوع الثالث والعشرين، ثم تبدأ في الهدوء بعد الأسبوع السادس والثلاثين.
وإنني أحس وأتألم ، وأعبّر عن ألمي بالانتفاض، وبزيادة إفرازي لهرمون “البيتا إندروفين”؛ المسؤول عن ردود فعل الجسد عند التعرض للتهديد والإيذاء.
ولي أيضًا ملكات “الاعتياد” و”التذكر” و”التعلم”، وقدرتي على الألفة والاعتياد تتمثل في الهدوء التدريجي في تفاعلاتي لنفس المؤثر الصوتي أو الجسمي عند تكراره بنفس الهيئة. وهي تمثل إحدى وسائلي الأولى في التعلم وتلقي الخبرات، كما تحفز قدرتي على التكيف مع البيئة ذات المؤثرات المختلفة التي أسكنها، أما ذاكرتي فهي قد تدهشكم حقًّا فإن ردود فعلي الحركية وتغير معدل ضربات قلبي عند مشاركتي لأمي في استماع لموسيقى برنامج معين في موعد بذاته، تتكرر بنفس النمط عند سماعي ذات البرنامج بعد ولادتي.
أماه، أعلم أنك أحرص عليَّ من نفسك التي بين جنبيك، وأنك لن ترضي أبدًا بتناول أي شيء قد يصل إليَّ فيؤذيني، أو يشكّل خطرًا عليَّ ، وأنا على يقين أنك لن تفسدي فطرتي الطاهرة قبل أن ترى عيناي النور.
رباه،كم هي عظيمة قدرتك! جعلت لي في ظلماتي الثلاث ذاكرة يمكن لدقتها وكفاءتها أن تصمد لحادث الولادة الجلل فأعبر برزخي الأول من الرحم إلى عالم الدنيا وذاكرتي تحفظ لي ما شاركت فيه أمي من قبل أن أولد. حقًّا بنورك أسعى في الظلمات.