منهج التفكير في عصر الرقمنة

الفكر كما هو معلوم هو إعمال النظر في الشيء، أو إعمال الخاطر في الشيء وهو العقل، والتفكر هو التأمل. الفكر تردد القلب بالنظر والتدبر لطلب المعاني، ويقال: الفكر ترتيب أمور في الذهن يتوصل بها إلى مطلوب يكون علمًا أو ظنًّا. وعرفه صاحب “المعجم الوسيط” بقوله: “الفكر إعمال العقل في المعلوم للوصول إلى معرفة المجهول، ويقال لي في الأمر فكر ونظر ورؤية، والفكرة: الصورة الذهنية لأمر ما، ومنها أفكر في الأمر، فكر فيه، فهو مفكر. وفي الاصطلاح يقول الجرجاني: “الفكر ترتيب أمور معلومة لتؤدي إلى مجهول”.

“إذا كان الإنسان مميزًا ومكرمًا بالعقل بما يستلزمه هذا من اختزان الصور، والقدرة على استدعائها، وربط الأسباب بالنتائج بشكل أو بآخر، فإن إدراك الفكر المعلومات يصبح شيئًا من طبيعة هذا المخلوق يمارسه، فيعمل عقله حين يجد نفسه حيال مشكلة من المشكلات، باحثًا لها عن حل في ضوء المبادئ السائدة وظروف البيئة التي يتوجه إليها بالخطاب”.

فالفكر الإسلامي إذن، هو إعمال العقل المسلم في كل ما يتعلق بالإسلام، باستخدام مصادر المعرفة الإسلامية، وفق منهج علمي ينطلق من النص، ويستخدم العقل والحس، ويربط نتائج البحث بحياة الإنسان في إطار مقاصد الشريعة الإسلامية.

ووفق هذا الفهم لمعنى الفكر الإسلامي عرفت الحضارة الإسلامية علومًا إسلامية، منها ما تعلق بالنص كعلوم التفسير، واللغة والحديث والقرآن، وعلم العقائد والفقه وغيرها.. ومنها ما تعلق بالعلوم الطبيعية والكونية، مثل الرياضيات والكيمياء والفلك، وغيرها من العلوم التي كانت استجابة لأمر الله في قوله تعالى: (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ)(البقرة:٢٦٦).

منهج القرآن في الدعوة إلى التفكير

الإسلام حينما دعا إلى التفكر إنما دعا إلى العلم والإيمان معًا دون الفصل بينهما، لأن القصد من المعرفة اكتشاف قوانين الطبيعة والمجتمع والحياة، وترسيخ الإيمان من أجل عبادة الله حق العبادة، وبذا أعطى الحياة والحضارة والمعرفة الإسلامية صفة الحركية والنمو والتطور والفاعلية، والبقاء المؤثر في مسيرة البشرية، وحصنًا من السقوط والتوقف والركود ما كانت ملتزمة بالمنهج. وهو منهج القرآن الكريم في الدعوة إلى التفكير.

احتل الحث على استخدام العقل والتفكر، مساحة واسعة في القرآن، فقد جاءت مشتقات العقل أكثر من ٧٠٠ مرة، وحتى في مسائل العقيدة والعبادة لم يأمر الله تعالى عباده في كتابه أن يؤمنوا به دون إعمال الفكر، وهو بهذا المنهج يوجه العقل نحو النهوض بوظيفته التي خلق لأجلها، وهي العمل باستمرار على التفكر، والتدبر، والتبصر، والنظر، والتذكر، والتفقه.. قال تعالى: (قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لاَ يُؤْمِنُونَ)(يونس:١٠١). وفي الوقت الذي يدعو فيه إلى التفكر يرفع من درجة العلماء، قال تعالى: (وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ)(الأنعام:٨٣). ويسخر كل الموجودات للإنسان من أجل التفكر فيها، قال تعالى: وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)(الجاثية:١٣). ثم يدعونا إلى الإفادة من القرآن في ضبط منهج التفكير، قال تعالى: (لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)(الحشر:٢١). كما يؤكد على التثبت في قبول الأفكار، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ)(الحجرات:٦). ثم نصل إلى أهم مرحلة في هذا المنهج القرآني وهي ربط نتائج التفكير بالإيمان والعبادة؛ القرآن يؤكد على أن القصد من التفكير في الكون هو الإيمان ومعرفة الخالق حق المعرفة، قال تعالى: (قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لاَ يُؤْمِنُونَ)(يونس:١٠١).

إذن فرسالة الفكر الإسلامي تنبنى على جلب الخير ودفع الشر، كما يعبر عنها مالك بن نبي بقوله: “مدار الفكر الإسلامي في الأصل الذي أعطاه القرآن اندفاعه الأولي بأن يتخذ الفكر الإسلامي مداره حول فكرة تكون حينا “حب الخير” وحينا آخر “كره الشر”، تلك هي رسالة الفكر الإسلامي عبر عنها القرآن الكريم بقوله: (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ)(آل عمران:١١٠).

وقد استخدم كثير من المفكرين المسلمين هذا المنهج القرآني، مع تأثرهم بالمنهج الفلسفي والمنهج العلمي الحديث والمعاصر، والأفكار الوافدة من الغرب، بسبب تمازج الثقافات، وحاولوا أن يعملوا على تطوير الفكر أو تجديده ليواكب العصر، ولكن هذه المحاولات لم تُؤت أكلها وتحقق مقاصدها، بسبب أن المفكرين المسلمين لم تكن لهم رؤية مستقبلية للأحداث أو استشراف للتحديات المستقبلية، حيث جاءت العولمة والحداثة، ثم الرقمنة الإلكترونية التي اجتاحت المنطقة، فغيرت كثيرًا من المفاهيم، وجرفت كثيرًا من الأفكار وأمست في خبر كان.

مع ثورة التكنولوجيا وعالم الرقمنة وتدفق المعلومات والاتصالات وحضور الصورة والصوت والفيديو لكل بيت دون استئذان عبر وسائط متعددة وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي، أصبح هناك مجال واسع للأفكار المغلوطة أو الهدامة أو المفبركة التي تسعى إلى تحطيم الفكر الإسلامي وقطع صلته بماضي الأمة، والتشويش على الحاضر، ورسم صورة مستقبلية للمجتمع المسلم، في الوقت الذي يقف فيه بعض المفكرين المسلمين في ذهول وحيرة، يبحثون عن كيفية النهوض بالفكر الإسلامي وتجديده ليواكب المتغيرات ويواجه هذه التحديات، فقامت بعض المحاولات هنا وهناك، ولكنها غير كافية، نتيجة أن أصحاب تلك المشاريع لم تكن لهم إحاطة كافية بأساسيات التكنولوجيا والإعلام، كما أنهم احتكروا الفكر لأنفسهم ولم يتركوا فرصة للشباب المسلم المبدع في هذا المجال للعمل معهم من أجل الجهد المشترك.. وإذ أكتب هذه الأسطر فإني أتحدث من واقع تجربتي مع مراكز الفكر والبحث في العالم الإسلامي، مثل المعهد العالمي للفكر الإسلامي، وغيره من مراكز البحث، التي تقتصر بحوثها على أبحاث شخصيات معروفة دون غيرها، وإقصاء كل مجهود آخر بحجج كثيرة، أغلبها شكلية لا علاقة لها بعالم الأفكار. وبالتالي بقي جهدهم الفكري يدور في فلك واحد، سرعان ما تتجاوزه الأحداث والتسارع في تكنولوجيا المعلومات. ولهذا وجب إعادة النظر في طريقة التعامل مع البحوث العلمية والمنهج المتبع، لكي نبني رؤية جديدة للتجديد الذي تقتضيه الضرورة التاريخية والحضارية، والضرورة الدينية إذ هو مطلب أقره النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: “إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها” (رواه أبو داود)، وقوله : “يحمِلُ هذا العلمَ من كلِّ خلَفٍ عدولُه ينفونَ عنهُ تحريفَ الغالينَ وانتحالَ المبطلينَ وتأويلَ الجاهلينَ” (رواه أحمد).

فالنظام المعرفي والمنظومة الفكرية في كل زمان تتغير، حيث تتطلب الدوافع العقلية والنفسية شيئًا من التجديد في كل عصر، وتغيير في الآليات الفكرية، وحاجة المجتمع لهذا التغيير. وقد اهتمت كثير من الدراسات والأبحاث بالتجديد، وكانت هناك مساعٍ عديدة لوضع مفهوم للتجديد وتحديد مساره، غير أنها تباينت واختلفت انطلاقًا من الخلفية الفكرية والمعرفية لكل طائفة. ومن هنا كانت المعوقات التي حالت دون السير قدمًا نحو النهضة والتطور، نتيجة الصدام والصراع، بالإضافة إلى مستوى التحدي والقوى المضادة لهذا المشروع النهضوي، ولذلك كان لزامًا التفكير في وضع منهج جديد يراعي مستوى التحديات ويساير الواقع. ولذلك يمكن أن نعرض بعض التعريفات للمجددين المعاصرين لمفهوم التجديد؛ يقول المودودي: “التجديد في حقيقته هو تنقية الإسلام من كل جزء من أجزاء الجاهلية، ثم العمل على إحيائه خالصًا محضًا على قدر الإمكان”، ويقول حسنة: “ليس المراد بالاجتهاد والتجديد الإلغاء والتبديل وتجاوز النص، وإنما المراد هو الفهم الجديد القويم للنص، فهما يهدي المسلم لمعالجة مشكلاته وقضايا واقعه في كل عصر يعيشه، معالجة نابعة من هدي الوحي”. وهناك تعريفات كثيرة، وكلها تتفق على الرجوع إلى أصل الدين ومصادره الأساسية وهي القرآن والسنة، دون أن نحيد عليهما.

يمكن أن نقول: “إن التجديد هو تأصيل الفكر الإسلامي بتمحيص التراث وتنقيته من كل ما علق به من تحريف، ووضع منهج جديد يتوافق مع مقاصد الدين الإسلامي، مع إمكانية تنزيله على واقع الحياة المعاصرة”.

ركائز تجديد الفكر الإسلامي

يستند الفكر الإسلامي على ركائز تحافظ على دوامه وبقائه واستمراريته لتواكب الزمان والمكان، نذكر من هذه الركائز ما يلي:

مراعاة مقاصد الشريعة الإسلامية؛ كل ما شرعه الله تعالى لعباده، يهدف إلى تحقيق مصالح العباد في العاجل أو الآجل، قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)(الأنبياء:١٠٧). وقد صنف علماء الأصول هذه المقاصد إلى ثلاثة أنواع بشكل عمودي، وهي الضروريات والحاجيات والتحسينيات، وبشكل أفقي إلى خمسة أنواع، هي حفظ الدين وحفظ النفس وحفظ العقل وحفظ النسل وحفظ المال. وكل واحدة من هذه الكليات تحفظ من جانب الوجود (جلب المصلحة) ومن جانب العدم (درء المفسدة).

رعاية الضرورات والظروف الاستثنائية، التي وضعت من أجلها القواعد الأصولية والفقهية.

الاعتماد على المصادر المتفق عليها والمختلف فيها، ومنها مثلاً: العرف وشرع من قبلنا وغيرها من المصادر.

الجمع بين خاصية الثبات والمرونة في الشريعة الإسلامية؛ نحن نعلم أن الثابت لا يخضع للمتغير، ولهذا الوقائع المتغيرة تخضع للثوابت الشرعية.

معيار الإيمان والتقوى، وأن الدنيا دار ابتلاء وعمل، وأن الآخرة دار جزاء، وأن العقائد ثوابت غير قابلة للتغيير.

مراعاة مستجدات الواقع وتحدياته الآنية والمستقبلية، ووضع الحلول لها.

ضوابط التجديد في الفكر الإسلامي

لا بد من وضع ضوابط للتجديد في الفكر الإسلامي، ذلك لأن الأفكار ترد على الأمة الإسلامية من جميع الحضارات وخاصة الحضارة الغربية، عبر وسائل الاتصال الحديثة، مما يتطلب الضوابط الأتية:

– أن يوافق التجديد أصول الشريعة ولا يخالفها، فلا تجديد في أركان الدين وأصوله الثابتة.

– التمييز بين الأصول والفروع في الشريعة، فالتجديد يكون في فروع الدين المتغيرة.

– ألا يخالف أو يناقض النصوص الشرعية القطعية الدلالة، كإباحة التبرج أو الربا أو ما شبه ذلك، فهذا تجديد مرفوض كما قرره علماء الإسلام في القديم والحديث.

– أن يراعي التجديد القواعد العامة في الإفتاء، فلا يتتبع التجديد الرخص في كل مذهب، لينتج منها فكرًا تجديديًّا حديثًا.

– أن يكون المجدد من أهل العلم الشرعي عالمًا بأصوله ومقاصده، وفقه الواقع.

– أن يكون المجدد من أهل التقوى والعلم والأخلاق، ذا همة عالية مترفعًا عن المصالح الدنيوية المادية.

– أن يكون المجدد ملمًّا بمعطيات العصر، وفي عصرنا الحالي، الالمام بتكنولوجيا الرقمنة وما يتفرع عنها من وسائل وآلياتها وأساليبها.

مبادئ تجديد الفكر الإسلامي

الفكر مهما جمد فإن الحياة لا تتوقف، والتجديد لا يتوقف في عصر من العصور، غير أن مسيرة التجديد لها مبادئ تنطلق منها:

١- تنطلق من مبادئ ومقدّمات محدودة المعالم حسب المجال الفكري الذي تتحرك فيه.

٢- تسير وفق منهج وطريقة معينة تتناسب ونظرة المفكر وطريقته في التفكير.

٣- تنتهي إلى نتائج فكرية محدودة الصفة والهوية.

فإن كانت هذه العملية الفكرية تنطلق من منطلقات ومقدمات فكرية إسلامية، أو منسجمة مع الخط الإسلامي، وسارت وفق منهج تفكير إسلامي، واستهدفت تحصيل نتائج وفق هذه المقدمات وطريقة التفكير التي اعتمدتها، مستهدفة الحصول على نتائج فكرية ذات طابع وهوية إسلامية، سيكون هذا التفكير تفكيرًا إسلاميًّا. وأما إذا لم يجر التفكير وفق تلك المبادئ الإسلامية الثلاثة، فلن نصفه بأنه تفكير إسلامي، لأنه انطلق من مقدمات غير إسلامية، وتحرك وفق منهج تفكير غير إسلامي، وانتهى بصورة حتمية إلى نتائج غير إسلامية.

(*) باحث في الدراسات الإسلامية والإعجاز / الجزائر.