جلسَ يَكْتالُ الهُراء بلا ضريبة ولا مُراقب… يبيع فيه ويشتري و يُصَدِّر ويَسْتورِد بلا قانون ولا جمارك، يخْتَرِعُ الألقاب ويسخرُ من الأحباب… تراه فتتعجب من صفاته، يدافع ويحاجج وينتقد بلا معيار ولا أدب…
كان مُتكئًا على جدَار يتفرج على الغادين والذاهبين يتسلى باغتيابهم، وشتم بعضهم بلا سبب ولا علة، يكرههم لأنه يكره نفسه ربما. يعيش وصدره يغلي بحواراته وخطاباته الداخلية فلا يكاد يهدأ : “هؤلاء لا يتقون لا العبد ولا المعبود.. أولئك أغبياء… أبناء الغبيات والأغبياء… أطفال معوجون قلبا وقالبا… إنهم من ذرية القرود ربما..ت لك سافلة ابنة السافل، والمتحدثان هناك شحيحان ثروتهما لا يعكسها مَظْهرَاهُما المقرفان…
كان غارقًا في اختراع الألقاب والنعوت، وفوجئ بصوت وقور يحثه على القيام قبل فوات الأوان.. “ابنك المسكين المحمول قبل قليل على الأكتاف يحتضر، قمْ… لا تنفض الغبار عن جلبابك، انفض الغبار عن قلبك وضميرك… انهض! ابنك يتألم ويتأوه بالمستشفى”.
لم يألف النهوض بهذه السرعة ولم يعتد العودة المبكرة إلى بيته.
في هذه اللحظة فقط صار أبًا له من الأطفال هذا المصاب المحتضر… أراد استحضار تقاسيم وجهه فلم يستطع، أدار أسماء أبنائه في ذاكرته المعطلة زمنا فلم يعثر له على اسم، لقد نسي الترتيب فصار يجهل الأعمار والقامات والقسمات… عادته الممتعة الخسيسة أنسته كَوْنه إنسانًا يجب أن يفني عمره في إسعاد الناس ولو بجملة مفيدة وحيدة… سألوه وهم في الطريق إلى المستشفى: لِمَ أنت هكذا منذ سنوات؟ فرد عليهم قائلاً: لي مِرآة عجيبة، رأيت فيها كل الوجوه إلا وجهي ووجه أهلي… صرت مرتاحًا أرى كل شيء فأزدريه مادام لا يتعلق بي ولا بأهلي…
في المستشفى كان يشعر بالحنان لأول مرة فصار يصرخ صراخا ممزوجا بالأنين “أروني ابني، أريد أن أحدق في وجهه لأول مرة…”
قاطعوه: ابنك محظوظ، محظوظ أعادته يد القدر إلى الحياة، ولكن من الأسف أن نصْدُقك القول، فأنت الميت بدل ابنك المهمل المنسي…
تحسس جسمه واستدار مستغربًا قائلاً: لقد شخصوا مرض ابني ونال المناسب من الدواء، وحكموا عليَّ بالموت ولم أدخل لا مستشفى ولا مستوصفًا قط، أيها الطبيب المقرر، أأنْت تحكم وتقرُّ بكامل قواك العقلية أم أنك صرت تهذي بفعل كثرة أعمالك اليومية التي لا تنتهي؟ قال الطبيب وجبينه متغضن يعكس الغيظ والحنق: أنت ميت يمشي.. كل الدلائل تحكم عليك بالموت، امرأتك أرملة وأنت حي، باعَتِ الحطب، خدمت البيوت، أبناؤك يشتاقون الرغيف واللوحة والقلم… فهل أنت حي؟ أيكفيك هذا التشخيص؟…
بكى الرجل دقائق ثم هوى على الأرض، كان يدعو الحاضرين بأعلى صوته “ادفنوني، لست حيًّا، مرآة الحقيقة تعكس وفاتي وغُبْني… ادفنوني من فضلكم ادفنوني”.