الكتاب المقدم للطفل عند هذه المراحل العمرية، يمكن أن يكون أداة هامة من أدوات الترفيه والتثقيف التي يمكن -لو أحسن إعدادها- أن تسهم مساهمة فعالة في تفتُّح عقل الطفل الصغير على العالم، وتنمية الميول القرائية لديه، وجعله ينظر للكتاب -بشكل عام- على أنه شيء محبب قادر على تسليته وإمتاعه وإفادته.
ولا شك أن التقدم والتطور التكنولوجي والعلمي المعاصر، لعب دورًا كبيرًا في إعداد وإخراج وتصميم كتب الأطفال بشكل عام وكتب الأطفال سن ما قبل المدرسة على وجه الخصوص، وبالتالي أدى إلى ظهور أنواع جديدة تمامًا من الكتب لم تكن معروفة قبل ذلك؛ حيث أصبح يتوفر اليوم العديد من الأنواع المختلفة ذات المستوى المتميز والراقي من كتب الأطفال، ولعبهم عند مختلف مراحل نموهم.
ومن النتائج المهمة التي توصلت إليها الدراسات والبحوث في هذا المجال، أن استعداد الطفل للقراءة لا يعتمد على عامل واحد فقط، وإنما على عوامل كثيرة متداخلة ومتشابكة، منها النضج العقلي والإدراكي، والخبرة الشخصية، والتمييز السمعي والبصري، والنضج اللغوي، والنضج الحسي، والصحة والخلو من الاضطرابات العصبية، والاهتمام والرغبة في القراءة، والنضج الاجتماعي والانفعالي.
الأطفال والميول القرائية
يؤمن معظم المربين والمتخصصين في مجال ثقافة الطفل، بأن الميول القرائية للأطفال تقف في القمة من المعايير التي حددت ميولهم لما يقرأون. وقد كشفت الدراسات التي أجريت حول الجوانب المختلفة للميول القرائية للأطفال، أنهم يعرفون إلى حد بعيد ما يريدون أن يقرأوه، وأن لديهم شعورًا محددًا بالنسبة للمواد المقروءة في أذهانهم بمواصفات خاصة ومعايير للحكم عليها. كما دللت تلك الدراسات على أن حجم قراءات الأطفال لمواد وموضوعات يميل لها ويُقبل عليها، أصبحت شبه مؤكدة.
بالإضافة إلى ذلك، يجب الاعتماد على ميول الأطفال القرائية عند اختيار طرق تقديم المواد لهم، سواء أكانت مواد تربوية ترغب في تقديمها لهم، أم مواد ترفيهية تعد لهم، بحيث تقدم هذه المواد للأطفال في القوالب والصيغ والطرق التي يفضلونها، والتي تجذب انتباهم لتلك المواد وتحافظ عليها.
ويكفي تقديم مثال واحد لتوضيح المقصود؛ فقد كشفت الميول القرائية للأطفال عند مختلف الأعمار خلال مرحلة التعليم الأساسي، أن هؤلاء الأطفال يميلون للكتب القصصية ويفضلونها على غيرها من المواد المقروءة. نتيجة لذلك ينصح بإعداد كافة المواد التربوية التي نرغب في تقديمها للأطفال، كالموضوعات التاريخية والدينية والاجتماعية، وحتى العلمية في هذا القالب والشكل القصصي المفضل لهم.
الأسرة وتنمية الميول القرائية
وقد بينت الدراسات والأبحاث الحديثة، أن الدور الأساس لغرس عادة القراءة وتنمية الميول القرائية للأطفال، يقع على عاتق الأسرة إلى جانب ما يمكن أن تقوم به كل من المدرسة والمكتبة من أدوار مكملة للمحافظة على هذه العادة وتنميتها. ودللت عدة دراسات على الدور الهام للأسرة، وبعد ذلك الحضانة وروضة الأطفال، في إعداد الطفل وتهيئته للقراءة وزيادة استعداده لها قبل دخول المدرسة. فمثل هذه الخبرات الثرية التي يمارسها الطفل بمساعدة أمه كالتلوين والرسم، واستخدام القلم والورق، وتصفح الكتب ومتابعة القصة عن طريق الكتاب المصور مع رواية الأم لها، من شأنها أن تساعد على تكوين اتجاه إيجابي لدى الطفل نحو الكتاب والقراءة.
ثقافة القراءة والكتابة
إن الأطفال في كل أمة، يشكلون نصف الحاضر وكل المستقبل. والأمة التي تستطيع أن تبني أطفالها وفق أهدافها وتطلعاتها، هي الأمة التي تستطيع أن تحمي وجودها وتتحكم بمستقبلها. ويسوق الدكتور “زكي نجيب محمود” في كتابه “هذا العصر وثقافته”، تحليلاً لبحث يؤكد هذا المعنى للباحث الأمريكي “ماكيلاند” أستاذ العلاقات الاجتماعية بجامعة “هارفارد”، الذي قام بدراسة عوامل التقدم وعوامل التخلف لدى الشعوب والحضارات المختلفة، وتوصل إلى نتائج مهمة.
من هذه النتائج؛ أن ثقافة الطفل التي تبنى على قدرته على القراءة الصحيحة والعميقة، هي أساس البناء الثقافي لإنسان المستقبل، وتهيئته إلى حد بعيد لأداء دوره في المجتمع.. وبقدر ما تكون هذه الثقافة سليمة وإيجابية وبانية، بقدر ما يكون الفرد في المستقبل إيجابيًّا وصالحًا ومنتجًا وسويًّا.
وتخطيط ثقافة الطفل اعتمادًا على قراءة إبداعية واسعة، وتوفير الوسائل والإمكانات اللازمة لتحقيق أهداف الخطط على المستوى الوطني والقومي -ومسؤوليته تتحملها كافة الأجهزة الحكومية والأهلية- وبالقدر الذي تتسق فيه هذه، وتستوفي قيمها وأساليبها، يصبح التكوين الثقافي للطفل منطلقًا لإيجاد الطاقات المبدعة، وإثراء حياته وحياة مجتمعه. وفي ضوء هذا، تصبح أهداف ثقافة الطفل في مكوناتها الفردية والاجتماعية، غاية من غايات التخطيط والبرامج الوطنية. كما يصبح التنسيق بين الأجهزة المختلفة -حكومية وأهلية- ضرورة حتمية لبلوغ هذه الأهداف في إطار خطط التنمية الاقتصادية والاجتماعية في بلاد المنطقة العربية.
القراءة الإبداعية
يفتقر المناخ التعليمي العربي إلى العناصر الأساسية اللازمة لتنمية القدرات الإبداعية عند الطفل، وتدل دراسة أجريت في مصر، أن من أهم معوقات التفكير الإبداعي في التعليم، قلة الإمكانيات المتاحة للعملية التعليمية -مثل ارتفاع كثافة الطلاب في الفصل الواحد- وقلة الوسائل التعليمية والأجهزة العلمية، وكذلك الطابع التقليدي للتدريس، وعدم الاستقلال الذاتي للتلميذ، وبناء المناهج من حيث طولها واعتمادها على الحفظ والتلقين، وبعدها عن التفكير والملاحظة، وقصور إعداد المعلم وتدريبه واتجاهه الخاطئ نحو التفكير الإبداعي ونحو مهنته، والروتين الممل الذي يسود العملية التعليمية.. إن الإبداع قدرة مكتسبة إلى حد كبير. وقد يكون الذكاء في أساسه رهنًا بعوامل وراثية وخلقية وولادية، ثم بعد ذلك تدعمه عوامل مكتسبة. أما الإبداع فإنه غير الذكاء؛ إنه ملكة مغايرة مضافة إلى الذكاء، متعددة المحتويات، بدءًا من الإبداع التعبيري الذي يتميز بتلقائية التعبير عند الطفل في بدء حياته، وتسمو إلى ما يسمى الإبداع الطارئ، حيث يتم اكتشاف مبدأ جديد أو فرض علمي جديد على أعلى مستوى من التجريد.
لماذا يبدع وفيما يبدع، وكيف يخدم حياة الإنسان والمجتمع، وأي إنسان وأي مجتمع يستهدفه؟ معنى هذا أن الإنسان المبدع، لن تكتمل مقومات إبداعه كقوة حفازة للتقدم الإنساني والاجتماعي، ما لم تتوفر هذه الرؤية المتكاملة، ويتوفر له أيضًا وعي بذاته كعنصر اجتماعي تاريخي، أي كفرد له انتماؤه إلى مجتمع محدد له مشكلاته وتناقضاته وطموحاته وتطلعاته، وله تاريخ وحضارة يعي عناصرها، ويدرك ما فيهما من سلبيات وإيجابيات، حتى يكون إبداعه حلقة ضمن سلسلة تاريخية لحركة التقدم الإنساني والاجتماعي.
وينصح علماء المستقبل بإعداد إنسان الغد، وتثقيفه ثقافة مستقبلية، وتطوير قدراته الإبداعية للتكيف مع عالم المستقبل سريع التغير، حتى تتناغم التغيرات في بنائه النفسي والعقلي مع التغيرات الخارجية، وإلا فإنه سوف يشعر بالاغتراب عن هذا العالم الجديد، لأن الفجوة الثقافية سوف تزداد بينهما، مما يجعله يواجه ما أسماه المفكر “توفلر” بـ”صدمة المستقبل”.
الإبداع في صميمه تجاوز المألوف، وهذا التجاوز لا يتحقق إلا من خلال مسايرة التيارات الكوكبية التي تنشغل -في كثير من الأحيان- بتعليم الطفل باعتباره حجر الزاوية في المجتمع الكوكبي الجديد، حيث الأطفال فيه هم قادة المستقبل في إحداث التغيير المطلوب، ولا يتأتى ذلك إلا عن طريق تعليمه وتدريبه على إنتاج المعرفة بدلاً من تدريبه على أن يكون مستهلكًا للمعرفة.
وإنتاج المعرفة يحتاج إلى إطلاق العنان لخيال أطفالنا، وقد أصاب “أينشتاين” عندما قال: “العلم ثمرة الخيال”. وما نظرية النسبية إلا نتاجًا لخيال خصب ممتلئ بالقدرة والإمكانية. وعندما نسمح لأطفالنا بالدهشة التي هي جوهر الإبداع، ولا نقهر في داخلهم روح التساؤل، ولا نضع حدودًا لتعطشهم المعرفي، ولا نحبط داخلهم أي نزوع صوب البحث والتنقيب والاستكشاف.. عندما نفعل ذلك، نكون قد بدأنا بوضع الجذور الجنينية لجيل بمقدوره أن يحدث التغيير الإبداعي المطلوب، ولا يتم ذلك إلا بالقراءة الواعية والعميقة أو القراءة الإبداعية.
ولذلك يجب تشجيع الأطفال على فك رموز الكتب المصورة ومحاولة فهمها، وذلك يتم عن طريق تشجيع الأطفال منذ الصغر على حب القراءة، لأن ذلك ضرورة لا مناص منها لإيجاد طفل مولع بالمعرفة.
دور اللغة في الإبداع
تعتبر اللغة وسيلة تعتمد في تكوينها على المعاني الرمزية، لذلك فإن اللغة ليست مجرد كلام، بل وسيلة لتحديد العالم الخاص بكل شخص والتعبير عنه، كما أنها وسيلة للتعبير عن الحقيقة المراد التعبير عنها.
ثم إن القراءة تنمي إحساس الطفل باللغة وتكسبه القدرة على التعبير عن نفسه، وهذه الظاهرة إيجابية من شأنها تنمية قدرة الطفل على البحث عن ذاته، وخلق إحساس بالرغبة في التعرف علي الآخرين وكيفية التعامل معهم. ومن شأن ذلك، إكساب الطفل مهارة إقامة حوار مع العالم الخارجي بيسر وسهولة. وفي إقامة هذا الحوار مع العالم ومع الآخرين، تتقوى دعائم ثقة الطفل بنفسه، ويشعر بذاته كهوية فريدة، ويتعلم كيف يكون عفويًّا وتلقائيًّا في التعبير عن نفسه.
ولا ننسى أن الكتاب الجيد للطفل، هو الذي ينمي سلوكه الاجتماعي، ويضع له الخطط بالنسبة للحياة والمستقبل، ويزيده من المعرفة والعلم، ومن استمتاعه بهذا العالم، ويضعه على جناح واحد مع عالم الكبار عن طريق اللعب والتخيل، وينمي لديه القدرة على التخيل، ويوسع مداركه اللغوية، ويمكنه من إثارة المشكلات التي تبحث عن حلول غير تقليدية.
ونتيجة لهذا، بدأت حركة نشيطة لمصلحة التعلم المبكر للقراءة، وأخذت في الانتشار والاتساع لتشمل الكثير من البلدان. وتؤكد النتائج المستخلصة من كل تلك التجارب، أن جميع الأطفال الذين هم دون السادسة من العمر -أيًّا كان وسطهم الاجتماعي أو الاقتصادي أو لغتهم الأم- يريدون بل يستطيعون تعلم القراءة إذا ما وُضعوا في حالة تعلم في بيئة غنية وحافزة.
القراءة الإبداعية والتدرج في مراتب العقل
نحن في حاجة إلى القراءة الإبداعية، لا لنجعل القارئ مستوعبًا لما يقرأ أو ناقدًا، بل إنها تتعدى ذلك إلى التعمق في النص المقروء والتوصل إلى علاقات جديدة، وتوليد فكر جديد، وحلول متنوعة للمشكلات، وتطبيق لهذه الحلول.. والمقروء يجب أن يكون مصدرًا للتفكير، والتغلب على ضغوط الحياة.. والقراءة هنا لتركيب المعلومات والوصول إلى استنتاجات حقيقية عن الواقع.
وينبغي على القراءة الإبداعية أن تساعد بشكل جوهري على التعلم الذاتي، فالتلقين يجعل الطفل كائنًا انفعاليًّا معتمدًا كل الاعتماد على المعلم والمنهج والكتاب، في حين أن المطلوب هو أن يتدرج في مراتب العقل؛ أي التعلم مستعينًا بهذه الأدوات كلها دون أن يكتفي بها أو يستسلم إليها. وقد صدق من قال بأن المستقبل لن يكون لمن يجهل القراءة والكتابة، بل من لم يحصّل القدرة على أن يعلم نفسه. وإن هذه القدرة تنطوي على حب الاستطلاع، والسعي والممارسة والمعاناة، وتنميتها تتأتى بتنقيح هذه المواهب وإخصابها، وهي في مقدمة ما يجب أن يتصدر له التعليم الصحيح
ومن هنا، فالقراءة الإبداعية تنمية للفرد، وتوسيع لقدرته العقلية وتفكيره.. فالأفكار الجديدة التي يحصل عليها القارئ، تساعد على توليد أفكار مبدعة. فهو ليس مستقبلاً للمعلومات بقدر ما هو باحث ومجرب ومركّب، لديه القدرة على نقد ما يقرأ وتقويمه. إنه قارئ مفكر يكتشف التناقض في المعلومات والأسباب الكامنة خلف التناقض، ويصل إلى استنتاجات صحيحة، ويختار المناسب منها في حالة من التطور الدائم المفيد.. إنه قادر على التوقع والحدس، قادر على تشكيل المادة المقروءة، قادر على تشكيل مادة أكثر ثراء من تلك التي كتبها المؤلف.
والقراءة الإبداعية تجعل القارئ يحس بالعالم المحيط به إحساسًا فريدًا، فهو مستغرق في قراءته مشارك الأحياء والجمادات في أحاسيسها ومشاعرها، أو هكذا يراها برؤى خاصة؛ يرى بأذنيه، ويسمع بعينيه، ويدرك بقلبه، ويحس بعقله.. فالتخيل الذي يعيشه أثناء فترة القراءة، يجعل العالم وأفعاله شيئًا حقيقيًّا وفريدًا.
(*) كاتب وباحث وأكاديمي / مصر.