فعرف الامام في بداية الحديث عن مقاصد أحكام العائلة، العائلة بأنها هي: اقتران الذكر بالأنثى بعقد شرعي لتحل له ويحل لها، واعتبر أن مقصد هذا الاقتران تكوين النسل وتفريع القرابة.
واعتبر النكاح الشرعي هو أصل نظام العائلة لينتقل بعد ذلك الى الحديث عن المقاصد الشرعية الكبرى من تشريع النكاح التي قررها في مقصدين اثنين:
1- حصانة المرأة:
واحصان المرأة نفسها، أي جعله حصينا لا يُسلك إليه. ومعناه منع المرأة فرجها عن الرجال، وقد أثنى الله تعالى عن السيدة مريم بنت عمران لتحققها بهذا المعنى فقال: “ومريم ابنت عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا”، واعتبر الإمام أن بعض أركان النكاح من شأنها تحقيق هذه الحصانة، منها الولي الذي نجده يحقق هذه الحصانة من خلال كون “تولي الرجل عقد مولاته يهيئه أن يكون عونًا على حراسة حالها وحصانتها، وأن تكون عشيرته وأنصاره، وجيرانه عونًا في الذب عن ذلك”، بالإضافة إلى الشهرة في النكاح كذلك أن نظرنا إليها نظرة مقاصد، بإعتبار كون الأسرار بالنكاح يقربه من الزنا وعدم التشهير به يجعله غير معروف الشيء الذي يحول بين الناس والذب عنه واحترامه ويعرض بالتالي النسل إلى اشتباه أمره، وينقص من حصانة المرأة ومن شرفها، ولهذا كانت الشهرة بهذا الاعتبار تحقق لنا معنيين حسب الإمام الأول: “أنها تحث الزوج على مزيد من الحصانة للمرأة اذ يعلم أنه قد علم الناس اختصاصه بها، فهو يتعير بكل ما تتطرق به إليها الريبة، ثم أنها تبعث الناس على احترامها وانتفاء الطمع فيها إذ صارت محصنة. بالإضافة إلى المهر الذي اعتبره الإمام شعار النكاح وفارق بينه وبين الزنا وشوائب السفاح والمخاذنة.
2-حفظ انتساب النسل:
والمقصود به أن يثبت للمرء صحة انتساب نسله إليه، وقد اعتبر الدكتور عبد الحميد النجار “حفظ النسب بمعنى منع كل ما يشكك في انتساب الانسان إلى أبوين غير شرعيين أو بالجهل بهما أو بأحدهما، فالحفاظ على النسب أقوى من حيث ذاته، وأقدر على الاستمرارية والبقاء، اذ الأنساب المحفوظة تقوي الانتماء الاجتماعي للفرد، كما تقوي نفسها من التصور بالثقة بالنفس والاعتزاز بالمحتد. كما اعتبر الإمام الطاهر بن عاشور أن الزواج يؤدي الى تحقيق هذا المقصد الضروري الذي هو مقصد حفظ الأنساب وأن الزواج في حقيقته شرع لهذا الغرض، أي بقاء النوع والنسل البشري، وحماية ما ينتج عنه من الشك في الانتساب وأن اختصاص الرجل بالمرأة ومنع التبني، يؤدي الى تحقيق هذا المقصد.
ولأجل تحقيق هذا المقصد ” كان تعظيم الشارع لقيمة حفظ النسب بتحريم الزنا ومنع الزواج من المحارم وتحريم التبني وشرع أحكام العدة والاستبراء وكتم ما في الأرحام واثبات النسب وجحده والنهي عن الزواج من الأقارب”.
وجعل الله تعالى الاضرار بالنسل أعظم فساد في الأرض من خلال قوله تعالى: “ولوطا اذ قال لقومه أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين”، فيذكر الامام ابن عاشور في تفسيره التحرير والتنوير لهذه الآية، “أن وجه تسمية هذا الفعل الشنيع فاحشة واسرافا أنه يشمل على مفاسد كثيرة منها استعمال الشهوة الحيوانية في غير محلها..، فالله تعالى خلق في الانسان هذه الشهوة لإرادة بقاء النوع بقوة التناسل، حتى يكون الداعي اليه قهرا ينساق اليه الانسان بطبعه، فقضاء تلك الشهوة في غير الغرض الذي وضعها الله عز وجل لأجل اعتداء على الفطرة وعلى النوع.. لأنه مفض الى قطع النسل.
وكما أن حفظ النسب الراجع الى صدق انتساب النسل إلى أصله سائق النسل إلى البر بأصله، والأصل الى الرأفة والحنو على نسله شوقا جبليا، وليس أمرا وهميًّا، فحرصت الشريعة على حفظ النسب وتحقيقه، ورفع الشك عنه ناظرا الى معنى عظيم نفساني من أسرار التكوين الإلهي، علاوة على ما في ظاهره من إقرار نظام العائلة، ودرء أسباب الخصومات الناشئة عن الغيرة المجبولة عليها النفوس، وعن تطرق الشك من الأصول في انتساب النسل اليها والعكس.. كما أشار الامام الى مقاصد أخرى وردت في القرآن والسنة كالسكن والمودة والرحمة، وتحقيق رضا المرأة وأهلها بذلك الاجتماع، ودوام المعاشرة وإخلاص المحبة.
ومما تنبغي الإشارة إليه أن النكاح الشرعي يحقق لنا مقاصد أخرى لم يتطرق الإمام إلى تفاصيلها أشار إليها الإمام الشاطبي في موافقاته والتي لا تتحقق الا بالنكاح الشرعي، في قول جامع له يقول: “بأنه -الزواج- مشروع للتناسل على القصد الأول ويليه طلب الازدواج، والتعاون على المصالح الدنيوية، والأخروية من الاستمتاع بالحلال، والنظر الى ما خلق الله من المحاسن في النساء، والتجميل بمال المرأة، أو قيامها عليه وعلى أولاده منها او من غيرها أو اخوته، والتحفظ من الوقوع في المحظور من شهوة الفرج ونظر العين، والازدياد من الشكر بمزيد من النعم من الله على العبد، وما أشبه ذلك، فجميع هذا مقصد للشارع من شرع النكاح. كما يمكن أن نجمل اهم المقاصد في مقصدين اثنين أساسيين:
السكن والاستقرار النفسي:
يعد السكن أحد مقاصد الزواج والأسرة الأساسية اذ به يتحقق الاستقرار في المجتمع، وقد دلت الآيات القرآنية على تحقق هذا المعنى منها قوله تعالى: “ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا اليها وجعل بينكم مودة ورحمة ان في ذلك لآيات لقوم يتفكرون”، وقوله أيضا: “هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها فلما تغشاها حملت حملا خفيفا فمرت به..”، ونجد الشيخ سيد قطب تناول هذه المعاني بإسهاب جميل فقال فيه: “الأصل في التقاء الزوجين هو السكن والاطمئنان والأنس والاستقرار، ليظل السكون والأمن الجو المحضن الذي تنموا فيه الفراخ الزغب وينتج فيه المنتوج البشري الثمين، ويؤهل فيه الجيل الناشئ لحمل تراث التمدن البشري والاضافة اليه، ولم يجعل هذا الالتقاء لمجرد اللذة العابرة والنزوة العارضة، كما أنه لم يجعله نزاعا على الاختصاصات والوظائف”، ويضيف بعد ذلك ويقول: فيدركون حكمة الخالق في خلق كل من الجنسين على نحو يجعله موافقا للآخر ملبيا لحاجاته الفطرية،.. نفسية وعقلية وجسدية بحيث يجد عنده الراحة والطمأنينة والاستقرار، ويجدان في اجتماعهما السكن، والاكتفاء، والمودة والرحمة، لأن تركيبهما النفسي والعصبي والعضوي ملحوظ فيه تلبية رغائب كل منهما الآخر، واتلافهما وامتزاجهما في النهاية لإنشاء حياة جديدة تتمثل في جيل جديد”.كما فطن الامام محمد الطاهر بن عاشور لإشارة جميلة في تفسيره للمودة والرحمة عبر فيها عنها بكونها أواصر عظيمة من جعل الله، واعتبر أن ما يكون في جعل الله يتحلى بأعلى درجات الاتقان،الا أن هذه المشاعر والمعاني الجميلة لا تتحقق لنا الا في ظل زواج صحيح مكتمل وصحيح الأركان والشروط.
مقصد الاستخلاف في الأرض وأعمارها:
لما كانت الاسرة معقل التدين الذي تحفظ به القيم، ومن خلالها يتم الإنجاز الحضاري والنقل الاجتماعي واستئناف فعله ونشاطه، والاحتفاظ بضمائره وإعادة افرازها في المجتمع في الوقت المناسب من جديد، كانت السيطرة الغربية على عالم المسلمين، واحكام اختراقه والهيمنة عليه لا تتم الا باستهداف الاسرة وتفكيكها، لأنها الوحدة الحضارية الأقوى، ولما كان المقصد العام للشريعة الإسلامية من الأسرة هو عمارة الأرض وحفظ نظام التعايش فيها، واستمرار صلاحها بصلاح المستخلفين فيها، وقيامهم بما كلفوا به من عبادة وعدل واستقامة وصلاح في العقل والعمل”. كان لتحقيق هذا المقصد حرص الإسلام على أن تكون الأسرة نموذجا للتدين الصحيح، وأن يكون ذلك محققا في بواطن أحوالها وفي ظواهرها، وذلك ليكون هذا التدين سريرة ينشأ عليها الأبناء ابتداء، ويكون أيضا ملحظا للناس في المجتمع المحيط فيؤخذ مأخذ التأسي بها اذ حينما تكون الأسرة قائمة على حدود الله تعالى تطبقها في كل أحوالها فان ذلك يثمر فيها سعادة في الحياة ونجاح فيها، وهو ما من شأنه أن يكون مجلبة للتأسي بالنتائج ويدفع حتما الى التأسي بالأساليب التي هي التمسك بأحكام الدين التي أثمرت السعادة والنجاح، على أن هذا التدين هو سبب الفلاح فيقوم بذلك مقام التبليغ الديني تبليغا عمليا”.
ولما كانت المرأة مقصودة أيضا بهذا الخطاب الإسلامي مثلها مثل الرجل كانت مقصودة أيضا بالمساهمة في القيام بهذا الدور الحضاري العظيم بتنشئة جيل سليم صالح يعمر مجتمعه بالخير والصلاح، فأجمل النبي صلى الله عليه وسلم هذا المعنى في قوله:” والمرأة راعية على أهل بيت زوجها وولده”، ولما كانت الام ألصق الناس بأولادها، استأمنها الله ورسوله على هذه الوديعة، واعتبر كل أوجه سعيها لما فيه مصلحتهم أداء لحق هذه الأمانة، ويدخل في ذلك كل جهد لحفظهم من فتن الدنيا، وجحيم الآخرة، مصداقا لقوله تعالى: “يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة”. وغاية كل هذا تحقيق مقصد الاستخلاف والعمران الإنساني.
وفي الختام أحببت أن أشير إلى أن هناك مقاصد أخرى أغفلت في النقاشات الفكرية المقاصدية اليوم عند الحديث عن مقاصد الأسرة في الحياة الاسرية للمسلمين، ولم يسل فيها المداد كما سال في غيرها من المؤلفات التي تناولت مسألة مقاصد الأسرة، منها مقصد الامتاع والابهاج داخل الأسرة، والذي يتجلى من خلال تثمين كل ما من شأنه ادخال مشاعر الفرح والسرور داخل الاسرة، والذي يجعل من الاجتماع فيها لحظة سعادة وبهجة لأفرادها، ترسيخا لقداسة هذه الرابطة واعلاء لإنسانية الانسان، ولأثر هذه القيم ودورها وانعكاساتها عند الوصول الى هذا المستوى يقول الامام الغزالي في شأن الزواج:” فيه راحة للقلب وتقوية على العبادة”. ومن أساليب تحقيق معاني مقصد الابهاج هنا يمكن أن نذكر الاجتهاد في الارتقاء بهذه العلاقة والسمو بها لتحقيق معاني ترويح النفس وايناسها بالمجالسة والنظر، وعند تتبع السيرة النبوية نجدها فياضة بهذه المعاني متحققة في سيرة النبي صلى الله مع زوجاته بشكل ملفت، من خلال حسن عشرته مع أهله وتلطفه معهم وتتجلى في حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها حين قالت:” أنها كانت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر قالت: فسابقته فسبقته على رجلي، فلما حملت اللحم سابقته فسبقني فقال: هذه بتلك السبقة. الأمر الذي يؤكد اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بهذه التفاصيل الجميلة في علاقاته بأهله، وكذلك نجدها من خلال اهتمامه صلى الله عليه وسلم بتحقيق معاني حسن المعاشرة وتجديد الروح الاسرية مع زوجاته بالسفر فقد روى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: “كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفرا أقرع بين نساءه، فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه”.
كما نجد هذه المعاني حاضرة بقوة حين وصفته زوجته السيدة عائشة رضي الله عنها بقولها:” كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحاكا بساما”. كل هذه المعاني التي ذكرنا لها دور كبير في “تحقيق الاطمئنان والرضا والاستقرار في الحياة الزوجية، بما يستتبعها من تحقيق للإحصان والعفاف والصيانة عن التطلع لمحضن عاطفي خارج بيت الزوجية.. “.
مصادر ومراجع:
- القرآن الكريم برواية ورش عن نافع.
- تفسير التحرير والتنوير، الطاهر بن عاشور، طبعة دار سحنون للنشر والتوزيع، تونس 1997م.
- إحياء علوم الدين، أبو حامد الغزالي، المكتبة التجارية الكبرى، دون دار النشر وتاريخ طبع.
- الموافقات في أصول الشريعة، أبو إسحاق الشاطبي، تحقيق أبو عبيدة مشهور بن حسن أل سلمان، دار ابن عفان.
- مقاصد الشريعة في أحكام الأسرة توجيها لأحكام الأسرة المسلمة في الغرب، دار الغرب الإسلامي، الطبعة الأولى م2006، الطبعة الثانية 2008م.
- دور المرأة العربية في التنمية المستدامة، أشغال الملتقى الخامس للمرأة العربية، منتدى الزهراء للمرأة المغربية، الرباط المملكة المغربية.
- مقاصد الشريعة الإسلامية، للعلامة محمد الطاهر ابن عاشور، دار السلام للنشر والتوزيع الطبعة الثامنة: 2018م 1439ه.
- المرأة في القرآن الكريم الوظيفة الاجتماعية المشودة، الدكتورة ايمان سلاوي، قسم الإنتاج العلمي والفكري لحركة التوحيد والاصلاح 2020م، مطبعة شمس برينت سلا.
- التفكك الأسري، سلسلة كتاب الأمة، تأليف مجموعة من الباحثين.
- فقه الاسرة المسلمة، مليكة نايت الأشقر، فقه الأسرة المسلمة في الخطاب القرآني والهدي النبوي، مركز الدراسات الأسرية والبحث في القيم والقانون، الطبعة الأولى: سنة 2018م، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء.