بناء النزعة الإنسانية
يذكر المفكر “زكي الميلاد” أن الباحثين والمفكرين الأوروبيين المعاصرين، يؤرخون لبدايات تشكل وانبعاث الفكر الأوروبي الحديث، مع ظهور ما سمي في أدبياتهم بـ”الحركة الإنسانية” أو “النزعة الإنسانية”، التي نقلت الفكر الأوروبي من زمن وتقاليد العصور الوسطى، إلى زمن وتقاليد العصور الحديثة، ومنها إلى مراحل التقدم والتمدن الأخرى التي شهدتها المدنية الأوروبية.
وهكذا حينما حاول الكاتب الأمريكي “كرين برينتون”، أن يبحث عن كيفية تشكل العقل الأوروبي الحديث في كتابه “تشكيل العقل الحديث”، رأى أن المرحلة الأولى التي يؤرخ لها في بناء العالم الحديث بحسب وصفه، هي مرحلة الحركة الوصفية، وختم الحديث عن هذه المرحلة بقوله: “لقد خلف الإنسانيون أعمالاً فنية خالدة لا تبلى مع الزمن، وأدوا دورهم في تدمير اتجاهات العصور الوسطى، كما قاموا بدورهم الإيجابي في إقامة الدولة الإقليمية الحديثة، وتحديد معاييرها وحافزها إلى الكفاية والفاعلية”.
إن هذه النزعة حسب المفكر زكي الميلاد، أعادت الاعتبار إلى الإنسان في أوروبا، وشكلت له نظرة جديدة إلى العالم، مختلفة عن النظرة اللاهوتية المتشددة التي كانت سائدة في العصور الوسطى، وحلت مكانها النظرة العقلانية الصارمة التي تطابق بين العقل والطبيعة، وترى أن الكون يعمل بنظام يشبه نظام العقل عند الإنسان. وأضاف أيضًا بقوله: “إن هذه النزعة ألهمت مختلف المعارف والعلوم والآداب والفنون هناك، وأصبحت حكمتها الجديدة التي حددت لتلك المعارف والعلوم والآداب والفنون مساراتها ومسلكياتها، وأثرت في أساسها ومنطلقاتها، بحيث أصبحت هذه المجالات والحقول تتميز بهذه النزعة الإنسانية، كتعبير عن شدة التحول المعرفي والبنيوي الذي حدث فيها”. هذا الربط والاتصال، قد ساهم بطريقة كبيرة في إثراء وإنماء النزعة الإنسانية بالمعارف والأفكار والآداب، وبمصادر العلوم والفنون الأخرى.
لكن مع ذلك، فالفكر الأوروبي والغرب، قد تعرض لانتقادات شديدة من داخله؛ حول طريقة سلوكه وتعامله مع هذه النزعة التي حولها وكأنها شأن أوروبي لا تصلح إلا للشعوب الأوروبية، ولا تطبق إلا في المجتمعات الراقية أو المتمدنة، وبحسب المعايير والمقاييس الأوروبية. ويذكر لنا المفكر زكي الميلاد بعضًا من هؤلاء النقاد:
المفكر الألماني “ألبرت اشفيستر” الحائز على جائزة نوبل للسلام سنة ١٩٥٢م، لنزعته الإنسانية الشاملة ودعوته المستمرة إلى السلام بين الناس. وفي كتابه الصادر سنة ١٩٢٣م بعنوان “فلسفة الحضارة” قال في القسم الأول منه: “إن الحضارة بكل بساطة معناها بذل المجهود -بوصفنا كائنات إنسانية- من أجل تكميل النوع الإنساني وتحقيق التقدم، من أي نوع كان، في أحوال الإنسانية وأحوال العالم الواقعي”. هذا الموقف العقلي كما يضيف “ألبرت”، يتضمن استعدادًا مزدوجًا؛ فجيب أولاً أن نكون متأهبين للعمل إيجابيًّا في العالم والحياة، ويجب ثانيًا أن نكون أخلاقيين، ولن نستطيع القيام بمثل هذا العمل -بحيث ينتج نتائج ذات قيمة حقيقية- إلا إذا كنا قادرين على أن نهب العالم والحياة معنى حقيقيًّا.
وفي هذا الشأن نشر عالم البيولوجيا الفرنسي “رينيه دوبو” الحائز على جائزة نوبل للعلوم سنة ١٩٧٦م بالاشتراك مع عالم آخر، كتابًا صدر في بداية السبعينيات. وهذا الكتاب -حسب المفكر زكي الميلاد- وُصف في وقته، على أنه يتضمن هجومًا مدمرًا على المجتمعات الغربية المعاصرة، وكان عنوانه “يا لإنسانية هذا الحيوان”. في هذا الكتاب يقول المؤلف حسب ما يذكر المفكر زكي الميلاد: “إن الإنسان اليوم ليس غريبًا عن أخيه الإنسان وعن الطبيعة فحسب، بل ما هو أهم بكثير أنه غريب عن أعماق ذاته.. ونحن نشكو تجريد الإنسان من إنسانيته، في حين يخبرنا علم الأجناس أن الإنسان يكتسب مشاعره الإنسانية من خلال صلاته الحميمية بالأحياء الآخرين من حوله، وأن كل أطوار نموه متكيفة دائمًا بالإثارات الاجتماعية التي يتلقاها خلال فترات حياته.
يجب أن نكون متأهبين للعمل إيجابيًّا في العالم والحياة، ويجب أن نكون أخلاقيين، ولن نستطيع القيام بمثل هذا العمل إلا إذا كنا قادرين على أن نهب العالم والحياة معنى حقيقيًّا.
ولهذا يرى المفكر زكي الميلاد، أن العالم اليوم بأمس الحاجة إلى بناء نزعة إنسانية عالمية وشاملة، تكون بديلاً عن منطق الحروب، وجبروت السياسة، وطغيان الاقتصاد، وعنصرية الثقافة، وازدواجية القيم.. وبديلاً عن ذلك النسق من المفاهيم، الذي يقسم الناس إلى طبقات ومستويات ودرجات، تختل فيها موازين الكرامة والحقوق، واحترام الإنسان بما هو إنسان، بغض النظر عن لونه وعرقه ودينه وحتى ثروته وماله وقومه. فالعالم “تضرر كثيرًا من انحدار النزعة الإنسانية وتراجعها، وأصبح معظم الناس يعيشون حياتهم بألم شديد، ألمِ الفقر والجوع والمرض.. ولن تكون هناك نهاية للكوارث والنكبات والحروب ما لم يتم بناء نزعة إنسانية عالمية وشاملة، تكون لها تجليات صادقة وشفافة في السياسة والاقتصاد والثقافة والتربية والإعلام والعلاقات الدولية. وعلينا أن نكتشف هوة الإلهام في النزعة الإنسانية، وعظمة الإشعاع فيها، وشفافية تجلياتها، ويكون لدينا الاستعداد للتخلق بها، والإصغاء إليها، والاقتباس منها، من أجل أن يكون لهذه الحياة المعنى الذي يبعث على الأمل”.
تنوعنا الخلاق
في معالجتها لقضية التنوع الخلاق، توقف المفكر زكي الميلاد مع تقرير اللجنة العالمية التي أنشأها المؤتمر العام لليونسكو سنة ١٩٩١م. وقد كان ذلك التقرير تقريرًا بديعًا وخلاقًا ومفعمًا بالنزعة الإنسانية والأخلاقية، وكان عنوانه لامعًا هو “تنوعنا الخلقي”، الذي يعد أعظم ثروة وإثراء في حياة البشر، لأنه يكشف عن طاقات لا تحد، وقدرات متجددة، إبداعات وخيالات وأذواق دفاقة، وأصوات ومشاعر ونبضات شفافة، لكنها ثروة مهدورة ومبددة ومضيعة. هذا التقرير في نظر المفكر زكي الميلاد، هو محاولة لاكتشاف عظمة هذا التنوع البشري الخلاق، وبناء جسور التواصل والتفاهم والتضامن بين الناس، والبحث عن الجوامع والمشتركات الإنسانية والأخلاقية والثقافية، والدفاع عن قيم العدل والحق والحرية والكرامة، وتأكيد القيمة الشاملة للأخلاقيات العالمية، وبعث الأمل بالمستقبل.
فالتقرير يدافع عن حق البشر في التنوع والتعدد واحترام جميع الثقافات، وحماية الحقوق الثقافية، والحفاظ على التراث الإنساني، ورفض أن تتحول تقنيات الاتصال الجديدة إلى أداة في يد الأغنياء والأقوياء وحدهم. كما يعتبر التقرير أن المشكلة التي تواجه الأفراد والجماعات في عالم سريع التغير، هي مشكلة التقدم والتكيف مع التغيير، دون التخلي عن العناصر القيمة في التراث. لذلك يعمل التقرير على إمداد أجيال الحاضر والمستقبل بالأدوات اللازمة لمواجهة هذا التحدي، وتوسيع نطاق معارفها، واكتشاف العالم بتعدديته المحتومة، والسماح لكل الأفراد بحياة كريمة دون فقدان هوياتهم وإحساسهم بالجماعة ودون إهمال تراثهم.
بناء على هذا التقرير، يرى المفكر زكي الميلاد “أن هذا الخطاب هو بخلاف خطاب العولمة، الذي قد يوجه إلى إقصاء الهويات وتهميش التراث، وفرض الاتجاه الواحد، وتنميط العالم وقولبته في إطار ثقافة المسيطر، وانتهاك الحقوق الثقافية للبشر. وهو أيضًا بخلاف خطاب صدام الحضارات، لأنه يحاول أن يؤسس جسور التواصل بين الثقافات والحضارات، وينتقد أساليب الوصاية والتعالي والفوقية من ثقافة على أخرى، ويتبنى مفاهيم السلام والتسامح والحقوق، بعكس ما يذهب إليه خطاب صدام الحضارات الذي يشعل فتيل التوتر بين الثقافات”.
لذلك يؤكد المفكر زكي الميلاد على أن خطاب تنوعنا هو أفضل خطاب للتواصل مع العصر، والاندماج في العالم، والتكامل مع المجتمع الإنساني. وهذا الخيار هو الأفضل للثقافات من خيارات العزلة والانغلاق والانكماش، أو الاكتفاء بإظهار الخوف والشك والقلق، لأن أي مستقبل لن يكون خارج العالم.
عبور الانقسام
انطلق من الحدث التاريخي وهو الاتحاد الأوروبي، حيث يرى أنه بتطبيق نظام اليورو، شعرت أوروبا لأول مرة في تاريخها الحديث، أنها اكتشفت لنفسها هوية مشتركة تعبر من خلالها عن وحدتها وتكاملها وتضامنها. يقول معلقًا على هذا الحدث: “وبذلك تكون أوروبا قد تجاوزت تاريخًا قاسيًا من الصدامات العنيفة، وتخلصت من ذاكرة الحروب المؤلمة”.
ويرى المفكر زكي الميلاد، أن مصمم عملة اليورو “روبرت كالينا” كان موفقًا في اختيار التصميم جدًّا، حيث اختار صور الجسور العتيقة، وأقنية جر المياه والأبواب والنوافذ القديمة التي رسمت على خلفية الريف الأوروبي الأخضر. وقد أوضح “كالينا” أن اختياره للجسور هو تعبير عن التواصل بين البلدان الأوروبية من ناحية، وبين أوروبا والعالم من ناحية أخرى، وأن النوافذ والأبواب ترمز إلى المستقبل والنفاذ من خلالها إلى آفاق جديدة.
لقد جسد النمساوي كالينا -حسب المفكر زكي الميلاد- في اختياره الجسور للعملة الأوروبية، المفهوم الذي عبر عنه تقرير الأمم المتحدة حول حوار الحضارات الذي كان عنوانه “عبور الانقسام”. وهذا العنوان، هو أفضل وصف يمكن إطلاقه على أوروبا، التي استطاعت عبور الانقسام إلى التكامل والاتحاد. وقد ذكر المفكر زكي الميلاد أن عبور الانقسام عنوان لافت ومعبر في اختياره لتقرير الأمم المتحدة، حول سنة حوار الحضارات، وهو من تحرير الإيطالي “جياندو مينكوا بيكو” ممثل الأمين العام للأمم المتحدة لشؤون حوار الحضارات.
صدور هذا التقرير كان بعد شهر واحد من أحداث الحادي عشر من سبتمبر، ويرى المفكر زكي الميلاد أن هذه الأحداث عجلت بصدوره، وتركت ظلالها عليه، أو حرضت على العناية الفائقة به، ليكون معبرًا عن رؤية عقلانية وأخلاقية تجعل العالم متماسكًا ومترابطًا بعد تلك الأحداث التي حاول البعض تصويرها بأنها تمثل التجسيد الفعلي لمقولة صدام الحضارات. وهي الفرضية أو النتيجة التي كان التقرير يحذر من التعبير عنها والترويج لها، بالشكل الذي يعمق من حدية الانقسامات على مستوى الثقافات والحضارات، ويؤجج نزعات التعصب والعنصرية والكراهية والتطرف.
لذلك حاول التقرير حسب قراءة المفكر زكي الميلاد، أن يشكك في مثل هذه النتيجة أو الفرضية، ويظهر الخوف منها، ويؤكد في المقابل على ترسيخ الاقتناع بقيم الحوار بين الحضارات، فالغالبية العظمى في العالم -حسب التقرير- صرخت مع أحداث الحادي عشر من سبتمبر، مؤكدة أنه ما من دين أو تاريخ أو أيديولوجيا أو تقاليد، يمكن أن تبرر هذه الأحداث الإرهابية أو تدعو إليها.
وإذا كانت هذه الأحداث قد رفعت من وتيرة الوعي بخطورة الصدام والانقسام، فإنها أكدت من جهة أخرى على ضرورة البحث عن مساحات مشتركة للتفاعل والتعاون والحوار. وهنا يؤكد المفكر زكي الميلاد، على أن “البحث عن منظور جديد للعلاقات الدولية، ينطلق من مفاهيم العدالة والمساواة والكرامة والحقوق، ويدفع العالم نحو عبور الانقسام، وذلك دعوة حسنة في ذاتها، لكن الأمم المتحدة تفتقد القدرة والمصداقية على فرض الالتزام بسلوك دولي يتناغم وهذا المنظور الجديد”.
إذن التحدي الأكبر أمام العالم وخصوصًا الحكومات، هو التفكير جيدًا في إيجاد مناخ عالمي تغلب عليه النزعة الإنسانية. وهذا ما سيمنح للأمم المتحدة قدرة ومصداقية أكثر عندما تجد وراءها دعمًا عالميًّا يؤمن بالإنسانية، ومراعيًّا حقوقها الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والدينية.
(*) كاتب وباحث مغربي.