تنمية الخيال العلمي لدى الأطفال

الخيال بصفة عامة، ليس بالشيء المنفصل عن الواقع، ولا بالشيء الحر المطلق الذي لا يتصل بمجالات الحياة التي نعيش فيها؛ فالفرد نفسه -بل كل ما يفكر فيه- ما هو إلا حصيلة التجارب والخبرات التي اكتسبها نتيجة التفاعل المستمر بينه وبين المحيط الذي يوجد فيه. فالخيال بعبارة أخرى، هو القدرة على تصوير الواقع في علاقات جديدة، ونفس هذه القدرة هي القدرة على تقمص أشياء وتمثيلها.

إن الطفل لديه استعداد قوي للخيال، والخيال الإنساني مسئول -بالإضافة إلى العمليات العقلية الأخرى- عن كل الأعمال الابتكارية في الحياة الإنسانية، لذا تعتمد روائع أدب الأطفال، على الخيال.. فالخيال هو أثمن هبة أعطتها الطبيعة للأطفال، وهو خيال أوسع من خيال الراشدين وأخصب، لذلك يحرص من يكتبون للأطفال على توسيع آفاق هذا الخيال وتنميته.

ومن الجدير بالذكر، أن الله تعالى حبا الطفل بميزة هامة فطرية -وربما يفتقدها أو يضعف من قوتها الإنسان الكبير- وهي القدرة على التخيل الجامح، والتخيل المستقبلي، والتخيل التنظيري. فالقدرة على التخيل ملتصقة بالطفولة وصفاتها، والخيال يتعدد بتعدد مراحل الطفولة، فهو ينمو مع الطفل منذ مولده، ويتيح له الفرصة للتفكير والنبوغ والابتكار إذا توفرت له كل الظروف المواتية.

إذا تساءلنا عن حقيقة الخيال، فإننا نجد في المعجم الفلسفي لعلم النفس، أن الخيال هو قابلية تصور الأشياء الغائبة وتوليف الصور بينها. والخيال الاسترجاعي يتميز عن الخيال المبدع؛ فالأول وسيلة استرجاع أوضاع منصرفة من الذاكرة، والثاني استقبالي يتيح تصوره وقائع لم نرها ولم نسمع عنها من قبل. والخيال ليس ملكة خاصة سواء استرجاعيًّا أم مبدعًا، بل يمكنه أن يظهر في كل الأشكال الأساسية من الحياة النفسية (فكر، عاطفة، إحساس، حدس)، وهو وقف على الإنسان.

أما التخيل فهو عملية عقلية عليا، تؤدي وظيفة مهمة للتفكير في المواقف التي تحتاج إلى تفكير وحلّ، ويصبح التخيل مفيدًا ومثمرًا تبعًا لمقدار النضج العقلي، حيث يصوغ الفرد خبراته السابقة في إطار كلّي جديد، مستعينًا بقدرات التذكر والاسترجاع والصور العقلية المختلفة في إنشاء هذه التنظيمات الجديدة التي تصل الفرد بماضيه، وتمتد لحاضره، وتستطرد لمستقبله.. فتبني من ذلك كله دعائم الإبداع الفني الابتكاري العقلي، والتكيف السوي مع البيئة.

ومن الأهمية بمكان، أن نعرف أن الموهبة الإبداعية (Creative Talent) يدخل في تكوينها التخيل والخيال، ويشكل ركيزة أساسية في تكوينها وتنميتها. وتعرف الموهبة الإبداعية عند بعض علماء النفس، من خلال مجموعة من الصفات لو توافرت في الطفل بدرجات معينة كان ذلك مؤشرًا على إمكانيته الإبداعية. وهذه الصفات كما تشير “ريم” (Rimm 1984) هي:

١– الاستقلالية (Tndependence): مرتفعو الدرجة على هذا المقياس، هم من لديهم القدرة على اتخاذ القرارات، وتجريب الحلول، واعتمادهم على أنفسهم، ولا يزعجهم أن يختلفوا مع أقرانهم. أما منخفضو الدرجة فيفضلون اللجوء إلى الغير أو عدم الحسم، ويتخلون عن الأنشطة بسهولة.

٢– التخيل (Imagination): مرتفعو الدرجة على هذا المقياس الفرعي، يحبون الاستطلاع وإثارة العديد من الأسئلة وروح الدعابة، أما منخفضو الدرجة فإنهم يكونون أكثر حرفية وواقعية، وأقل استطلاعًا.

٣– تعدد الاهتمامات: مرتفعو الدرجة على هذا المقياس الفرعي، يتميزون باهتمامهم بالرسم، والتعبير وحبهم لمعرفة الحياة في العصور الماضية والحياة في بلاد أخرى، أما منخفضو الدرجة فإن لديهم اهتمامات قليلة بهذه الأشياء.

وللتخيل دور كبير في التعلم والتعليم من خلال استخدام أشياء حسية، كالصور التي تساعد على تكوين صور ذهنية عن الأشياء. ويعد التدريس بالتخيل العقلي، من الطرق التي تحسّن الذاكرة الإنسانية والتذكر، وفي إدراك التلاميذ لمعاني المفردات والجمل. وإلى جانب ذلك، يسهم الخيال العلمي إسهامًا كبيرًا في استيعاب المفاهيم والحقائق العلمية، بما يساعد في استيعاب المعرفة العلمية، وبالتالي في حل المشكلات التي تواجهنا.

الخيال العلمي (Science Fiction)

هو الانتقال عبر آفاق الزمن على أجنحة الحلم المزين بالمكتسبات العلمية، وغالبًا ما يطرق مؤلفوه أبواب المستقبل بتنبؤاتهم دون زمان محدد، فهو نظرة واسعة على العالم يدخل فيها العلم فيمتزج بحقائقه مع خيال الكاتب، ترسم أحداثًا تنقلك إلى المستقبل، أو الماضي السحيق، فتثيرك وتذهلك.

ولتربية الخيال العلمي لدى الطفل منذ سن مبكرة أهمية تربوية بالغة، وهذا يتم في المنزل والمدرسة وبوسائل عديدة، لعل أهمها القصص الخرافية التي يتلوها الكبار أو يروونها للأطفال وخصوصًا قبل النوم، شريطة أن تنطوي تلك القصص الخرافية على بعض المضامين الأخلاقية الإيجابية، وأن تكون سهلة واضحة المعنى بالنسبة للأطفال، وتثير اهتمامهم، وتداعب مشاعرهم المرهفة الرقيقة، وكذلك تؤدي لتنمية الذكاء من هذا النوع من الأدب. والقصص العلمية الخيالية هي مجرد بذرة لتنمية الخيال العلمي وحب العلم، وتجهيز الطفل وعقله وذكائه للاختراع والابتكار.

الخيال العلمي والتقني، يعبر عن نفسه لدى الأطفال منذ سن مبكرة في ألعابهم، وذلك في تحليل الأدوات والأجهزة التقنية البسيطة، وفي فكها وتركيبها.. فلا بد من توجيه الأطفال باستمرار تفاديًا لتكسير بعض تلك الأدوات والأجهزة، أو تعطيلها أثناء عملية الفحص أو التمحيص (التحليل والتركيب).

ويفضل تشجيع الألعاب التقنية الجماعية التي يساهم فيها أكثر من طفل، وأن يعوّد الأطفال على إنجاز أعمال مفيدة على القدر المستطاع، وأن تشجع ممارسة هواياتهم التقنية بأسلوب جماعي للتعاون والاستطاعة على تركيب ما تم فكه، وبالتالي اكتساب خبرات تقنية وخيالية، وهذا ينمي خيالهم العلمي بصورة كبيرة. ولتحقيق ذلك على أفضل وجه، لا بد أن يقوم المشرفون على تربية الطفل في الأسرة والمدرسة -وعن طريق أجهزة الثقافة والإعلام- بتوضيح تركيب تلك الأدوات والأجهزة، وكيفية تفكيكها وإعادة تركيبها، وأن يشرحوا ذلك شرحًا وافيًا -من وجهة نظر الطفل- مقرونًا بالأفعال لا بمجرد الأقوال، وبذلك يمكن أن ننمي تفكيره وذكاءه عن طريق الخيال التقني دائمًا.

إن معظم الاختراعات والنظريات العلمية للعلماء، كانت ثمرة قراءاتهم لقصص علمية خيالية غذت خيالاتهم وأثرتها بقواعد وأفكار علمية، بدأت بومضات من الخيال في عقولهم ثم نمت حتى أصبحت حقيقة واقعة بجهودهم.

ولا شك أن تنمية الخيال العلمي لدى الأطفال، يساعدهم على تحقيق التفكير الابتكاري. وعلى الرغم مما يبدو من أن بعض الأطفال قد ولدوا ولديهم بصائر ابتكارية، فإنه يمكن تعليم جميع الأطفال التفكير الابتكاري، حيث يمكن تعليمهم الاتجاهات الابتكارية والتفكير الابتكاري في كلٍّ من المنزل والمدرسة، إذ ذلك يحسّن من قدرات الأطفال وينميها، وذلك في أي اتجاه يختارونه للاهتمامات.

ومن الجدير بالذكر أن غرس السمات الابتكارية والاتجاهات الابتكارية في الأطفال، يشجعهم بدون شك على التفكير الابتكاري، بل يساعدهم على الخلق والاختراع، حيث تؤكد الدراسات التي أجريت في هذا الميدان، أن السمات التي يتميز بها الأطفال ذوو الدرجة المرتفعة من الابتكارية، تتضمن الثقة بالنفس، والاستقلالية، والحماس، والفضول أو حب الاستطلاع، والروح الهزلية، والبشاشة، والاهتمامات الفنية والجمالية، والمخاطرة أو المجازفة بشكل مناسب، ووجود عدد كبير من الاهتمامات بشكل عام، ومستوى مرتفع من تلك الاهتمامات.

وقد أوضح كثير من العلماء، ضرورة توظيف قدرة الأطفال على التحليل الإبداعي والابتكاري في المرحلة العمرية من ٩ إلى ١٢ سنة، وإشباع اهتماماتهم في مجالات أنشطة متنوعة كالرسم والتمثيل، والتجارب المعملية لتشجيع الاكتشافات والاختراعات، وكذلك الفنون والأعمال اليدوية، والعمل على تعليم الأطفال أكبر قدر من المفاهيم المتنوعة المرتبطة بالبيئة والطبيعة من خلال وسائل متنوعة، ومن أهمها الكتب والأفلام والقصص المصورة، لإقبال طفل هذه المرحلة وشغفه بالقراءة.. وتنمية أنواع مهمة من التفكير يتطلبها طفل هذه المرحلة، كالتفكير العلمي الابتكاري والنقدي والتحليل المنطقي، من خلال مناقشات الأطفال في أحداث تلك القصص والأفلام.

الخيال العلمي والأدب

يُعد الكاتب الفرنسي “جول فيرن” (Jules Verne) (١٩٢٨م) الأب المؤسس للخيال العلمي، وقد كتب رائعته “رحلة إلى جوف الأرض” عام ١٨٦٣م، التي تخيل فيها رحلة إلى القمر. هذا الخيال في الرواية تَحقق بعد قرنٍ -في ٢٠ أغسطس ١٩٦٩م- عندما وطئت أول أقدام بشرية القمر. وكتب “فيرن” الكثير من الأعمال في الخيال العلمي، من بينها “عشرون فرسخ تحت الماء”، و”سيد العالم” وغيرها.. ويلاحظ في رواياته خيالاً مجنحًا غلب عليه المنطق العلمي، وهذا ما جعله أشبه بنبوءة علمية. فقد تخيل في روايته “من الأرض إلى القمر”، انطلاق محطة فضاء من الأرض إلى القمر بوساطة مدفع هائل الطول، ووصف الرواد على سطحه والمناظر من فوقه، كما تحدث عن عودتهم إلى الأرض، حيث هبطوا بمظلة في البحر بطريقة شبيهة بما فعله رواد المركبة الفضائية (أبولو ١١)، وقد هبطت على القمر محطتها القمرية (العقرب) في ٢٠ أغسطس ١٩٦٩م. كما كتب “جول فيرن” عن الغواصة ووضع وصفًا لها، وكتب عن الطائرات النفاثة والصواريخ بعيدة المدى والغوص في أعماق المحيطات.. وكلها تنبؤات تحولت إلى حقيقة ملموسة في العصر الحالي.

وهناك الكاتب الإنجليزي “هربرت جورج ويلز” (١٨٦٦-١٩٤٦م) الذي اعتبره النقادُ شكسبيرَ الخيال العلمي، وقد كتب أول رواياته الخيالية “آلة الزمن” عام ١٨٩٥م التي تعد أعظم روايات الخيال العلمي على الإطلاق، وفيه يتخيل أن بطله صنع آلة، حين يدير عجلتها يستطيع أن يقفز فوق الزمن وأن يعود إلى الماضي، أو يخترق المستقبل لسنين بعيدة حسب الجهة التي يدير بها العجلة. وتخيل “ويلز” في آلة الزمن، أن مصير الإنسانية التي انغمست في الدعة والسلام، وقنعت بالعافية من الهموم، سيكون قاسيًا.

وفي القرن العشرين بدأ العلماء بتحويل بعض هذه الأحلام الخيالية إلى حقائق ملموسة، وفقًا لكتاب “The Great Ones”، قضى الفيزيائي الألماني “هيرمان أوبرث” (Hermanne Oberth) سنوات طويلة في محاولة تحقيق أحلام “فول فيرن” بإنجاز رحلات إلى الفضاء. أما حسابات “أوبرث” فقد ساعدت على إرساء أساس علمي للسفر إلى الفضاء. وعلى أية حال، لم يكن هو العالم الوحيد الذي تأثر بقصص الخيال العلمي، يقول كاتب قصص الخيال العلمي المشهور “راي برادبري” (Ray Bradbury) بأن “ويرنر فون براون” (Wernher von Braun) وزملاءه في ألمانيا والجميع في “كيب كينيدي” (Cape Kennedy) طالعوا “أتش جي ويلز” (H.G. Wells) و”جول فيرن” (Jules Verne) عندما كانوا صغيرين، وقد قرروا أنهم عندما يكبرون، سيحولون كل ما كتب في الخيال العلمي إلى حقيقة في الواقع. فكان الخيال العلمي نقطة انطلاق للابتكار في العديد من الميادين.

(*) كاتب وباحث وأكاديمي / مصر.

المراجع

(١) الذكاء وتنميته لدى الأطفال، د إسماعيل عبد الفتاح الكافي، الدار العربية للكتاب، ط٢، القاهرة ١٩٩٨م.

(٢) الخيال العلمي للطفل، د. فايزة يوسف عبد المجيد، مجلة أون، العدد:١٢، جامعة عين شمس ٢٠٠٧م.

(٣) تنمية الموهبة الإبداعية للأطفال، د. أميمة منير جادو، المنهل، العدد:٦٠٧، جدة يونيو ٢٠٠٧م.

(٤) هل نذهب إلى الفضاء عبر مصعد؟!، هاني كرم، المعرفة، العدد:١٠٤، الرياض يناير ٢٠٠٤م.