من المعروف لمن يقومون بتصنيع الأجهزة والمعدات، أن أول خطوات التصنيع هو تحديد الوظيفة أو الوظائف التي سيقوم بها الجهاز، ومن ثم القيام بوضع التصميم الأمثل الذي سيصنع على أساسه هذا الجهاز، وذلك بعد تحديد الشروط والقيود على مواصفاته، كالحجم والكلفة، وكمية الطاقة المستهلكة، والعمر التشغيلي، والشكل الخارجي وغيرها.
وسيتبين لنا وبأقل تأمل ممكن لليد البشرية، مدى الإعجاز البالغ في ذلك الخلق، والذي يحتاج إلى مجلدات لوصفه وشرحه وتفسيره. إن الذي يدرس تركيب عظامها (اليد) بأشكالها وأبعادها وموادها، يجد إبداعًا في التصميم لا يمكن لأحد أن يعدّل عليه، وكذلك الأمر لمن يدرس مفاصلها، وطرق ربطها، وعضلاتها وطرق تثبيتها، وجلدها وما فيه من مستقبلات حسية، وأعصابها وشرايينها وأوردتها، وطرق تمديدها.
وأما الذين يقومون بدراسة الطرق التي تقوم بها مراكز الحركة في الدماغ للتحكم بهذه اليد، فإنهم يظلون عاجزين عن فهم أسرار البرامج المخزنة فيها، والمسؤولة عن كل حركة من حركات اليد. ولا زال العلماء بمختلف تخصصاتهم الطبية والهندسية، يعملون جاهدين على كشف أسرار تركيب اليد، لا لكي يشكروا من قام بتصميمها، بل لكي يقوموا بتصنيع أيدٍ بنفس القدرات، لمعدات مصانعهم وروبوتاتهم.
لقد تم تصميم الأجزاء المختلفة لليد، بحيث يمكنها القيام بوظائف عديدة ومعقدة وغاية في التباين، بحيث يكاد يكون من المستحيل الجمع بينها في جهاز واحد. إن أول وأهم قدرات اليد، هو إمكانية وصولها إلى أي موضع على سطح جسم الإنسان، كالوصول إلى الفم لتمكينه من أكل الطعام وشرب شرابه، والوصول إلى بقية الأعضاء لحكها أو لغسلها أو لعلاجها.
فالإنسان هو الوحيد الذي كرّمه الخالق ليلتقط طعامه بفمه مباشرة، وكرّمه ليتمكن من غسل كامل جسمه بالماء؛ ليخلّصه من الأوساخ التي تخرج منها أو تقع عليه من الخارج. واليد قادرة -كذلك- على سحب ودفع الأجسام، وكذلك حملها على ظهره أو كتفه أو رأسه.
ولقد زود الخالق عز وجل جلد رؤوس الأصابع بمستقبلات حسية من مختلف الأنواع، وبكثافة عالية تمكّن الإنسان من معرفة مختلف خصائص الأشياء التي تمسك بها، من حيث الصلابة والليونة والخشونة والنعومة واليبوسة والرطوبة والسخونة والبرودة والثقل والخفة. ومن الجدير بالذكر أن اليد التي تمتلك خمسة أصابع، يتميز فيها الإبهام بتفرد خاص لا تتشابه معه بقية المخلوقات، بما فيها القردة البارعة بالقفز والشد والإمساك، مع هذا تبقى “راحة” يد الإنسان لا تقارن بقبضة القرد.
تمتلك يد الإنسان خمسة أصابع، وكل أصبع مكون من ثلاث سلاميات إلا الإبهام، فهو مكون من سلاميتين فقط وهنا السر، فعلى السلامي الثانية يرتكز وتر قابض طويل (Flexor Polliciso Longus)، يطوي السلامي الثانية فيعطي رشاقة ودقة خاصة يتفوق بها الإنسان، وهو ما لا تمتلكه بقية المخلوقات بما فيها القرود.
وبواسطة دقة بناء اليد انطلقت تؤدي مهام لا نهاية لها، ولعب الإبهام الدور المحوري في ذلك، فمفصله الكروي يعطيه مرونة فائقة، وسلاميتاه الاثنتان مزودتان بما لا يقل عن خمسة أوتار تمنحه الحركة في كل الاتجاهات برشاقة، في البسط والقبض، والتبعيد والتقريب، والدوران والإمساك والمقابلة.. يمكن أن نفهمها إذا نقلناها إلى قانون الحركة، فالضارب البارع على الكمبيوتر، يضرب إبهامه في المتوسط ما لا يقل عن عشرة آلاف ضربة في اليوم الواحد.
وهكذا، بواسطة الإبهام استطعنا أن نعزف على البيانو، ونداعب أوتار الجيتار، ونخيط الشرايين الممزقة، ونصب الأفكار المبدعة في الكتابة، وننفخ في الناي، ونلعب بالشطرنج.. ومن دون اليد لم يكن لنا قدرة صقل العدسات التي فتحت أمامنا العوالم، فيها عولج حوالي خُمس سكان الكرة الأرضية من العيوب البصرية، وبواسطتها أطللنا على القمر، وانكشفت أمامنا الميكروبات المجهرية، واخترقنا أجواز الفضاء فرأينا المجرات السابحة في الملكوت.
قال “إسحق نيوتن” في يوم: “هذا الإبهام العجيب هو الذي فتح لنا هذا العالم العجيب، فزاد معرفتنا بوجود الله”. إن هذه الأداة المذهلة (اليد) تتضافر لإنجاز العمل فيها مجموعة من العظام والأوتار والعضلات والأعصاب والشرايين، والأوردة والعروق اللمفاوية، في سيمفونية تعزف أعذب الألحان وأرقاها، في حركة 27 عظمًا، ترقص وتهتز على حواف 28 مفصلاً، يمطها ويرخيها، يبسطها ويوترها 33 عضلة، وحذاء رسغ اليد تجلس سبع عظام صغيرة الحجم عظيمة الأهمية تأخذ أسماء شاعرية وهندسية، مثل عظم الزورق والقمر وشبه المنحرف والمربع وعظم حبة البزلاء.

زُوِّد جلد رؤوس الأصابع بمستقبلات حسية من مختلف الأنواع، وبكثافة عالية تمكّن الإنسان من معرفة مختلف خصائص الأشياء التي تمسك بها، من حيث الصلابة والليونة والخشونة والنعومة والسخونة والبرودة والثقل والخفة.

يقول الدكتور خالص جلبي في مقاله عن “معجزة اليد”: إن كسرًا في العظم الزورقي يكلف صاحبه جبيرة جبسية لمدة ثلاثة أشهر، واليد في وضع القبضة تذكيرا لصاحبه في الإمساك والمحافظة على صحة هذا العظم الذي لا يتجاوز جرمه أنملة الأصبع، وبين هذه الأوتار والعظام تمر شبكة سقي وتروية من أبدع ما خلق الله، تصبان من نهرين في حافتي الرسغ، في شلالين متعانقين متضافرين، وأما منظّم هذه الحفلة فهي شبكة عصبية مُحكمة، متدفقة من ثلاث كابلات عصبية (أعصاب المتوسط والزندي والكعبري)، تستقبل الحس وتوحي بالحركة، مربوطة بقوسين من التوترات العصبية، الأول إرادي وهو القادم كأوامر لا تُرد من القيادة العليا المرتبطة بالإرادة والوعي، والثاني يعمل بشكل لا مركزي وهو القوس المنعكس الشرطي (Condition Reflex) فلا يلجأ البدن إلى كل حركة في استشارة المركز، بل يتصرف بما يناسب ويرسل خبرًا إلى الحكومة المركزية، بما تصرف به للإحاطة، كما في لمس القطعة الساخنة، فإن اليد تنسحب فورًا دون تفكير. وهكذا فالبدن يعمل كأحسن دولة في العالم بين النظام المركزي واللامركزي، وعلينا أن نتعلم الحكمة البالغة من البيولوجيا”.
ويتابع الدكتور خالص جلبي: “تزودنا نهايات الأصابع بمجسات حية مختلفة، منها المختص بالحر والبرد، فيتمطط الجلد ويتوسع مع تغيرات درجات الحرارة (جسيمات روميني وتومسا)، وأخرى في معرفة الاهتزازات (جسيمات باسيني)، وثالثة للألم بانضغاط هذه النهايات ونقل حس الألم (جسيمات لانغرهانس)، ورابعة لمعرفة الحس العميق (جسيمات واغنر)”.
إن الحس العميق مهم في رشاقة الحركات وتوازنها المرتبطة بشكل رئيس ومعقد مع الدماغ، ولا يعرف نعمة التوازن إلا من ذاق مرارة الدوران وفقدان التوازن في يوم ما. إن أجهزة التوازن تعمل حتى لو كنا نائمين، وقد يستيقظ المرء يومًا، ليس على زقزقة العصافير، بل على دوار مجنون، عندها يدرك مدى دقة عمل هذه الأجهزة الحساسة المغروسة في دماغ كل منا.
إن أهمية الشبكة العصبية تأتي من وظيفتها وليس من حجمها، ولذا فإن المفاتيح العصبية في الخارطة الدماغية، تعطي المكان الرحب للعضو ذي الوظيفة الحيوية، مثل الفم واليد، وتنكمش أمام سطوح كبيرة فتضن عليها بالمكان وتبخل.. وهكذا فالخارطة العصبية ومكان مفاتيحها لليد، هي أكبر من البطن والجذع معًا.
دقة ورقة وحساسية اليد
في عام 1993 بدأ الجراح الألماني “فولفجانج داوم” (Wolfgang Daum) في التفكير بتجاوز مشكلة تعاني منها جراحة المناظير الجديدة المستعملة في جراحة البطن الداخلية، فالجراح في العادة يبقر البطن بفتحات صغيرة، بعد أن يكون البطن قد نُفخ مثل الطبل العظيم، ويدخل من هذه الثقوب أعمدة ممددة في داخلها ومن نهايتها تقفز الأدوات الجراحية من المقص والباتر، والكاوي الحارق والقاطع، والشفاط الماص للمفرزات المتدفقة.. وهذه الأدوات مع كل نفعها وأهميتها فهي لا تعادل يد الجراح السابقة، التي كانت تقتحم هدوء وقدسية البطن، فتجس وتمس كل شيء منه. وما فكّر فيه الجراح الألماني وقام بتطويره، كان في إدخال عمود الثقب ذي قطر عشر ميلليمترات، مسلحًا في نهايته بما يشبه اليد بثلاثة أصابع، فيها قدرة مس وجس أعضاء البطن الداخلية، وأخذ يعكف على تطوير هذه اليد الصغيرة (Minihand) لتعمل بشكل إلكتروني.
ولكن الدكتور “فولفجانج” يعترف بعبقرية اليد البشرية، وأنها شيء لا يُضاهى، وأن كل عمله لا يزيد على محاولة متواضعة لتقليد عمل اليد.. إن الدراسة التي قام بها الألماني “زورجاتس” (Sorgatz) في المعهد النفسي العالي للتقنية، أفضت إلى أن الكثير من الأجهزة الحديثة التي نستخدمها، لا تلائم اليدين الإنسانيتين الرائعتين.
بصمة الأصابع المذهلة
يعود اعتماد البصمات كشاهد يقيني على مرتكبي الجرائم إلى نهاية القرن التاسع عشر، ففي عام 1788 أعلن الألماني “ج. س. ماير” أن ترتيب الخطوط البارزة في الكفين والقدمين، لا يمكن أن يتطابقا عند شخصين على الإطلاق، وأن هذه البروزات تبقى ثابتة مدى الحياة. وأجريت كثير من التجارب لإثبات صحة هذا، مما دفع العالم البريطاني “غالتون” إلى دراسة هذه الظاهرة، ليضع كتابه الخالد “بصمات الأصابع” الذي يعتبر مرجعًا في هذا العلم، وجعل الحكومة الأرجنتينية بعد ذلك أن تكون الأولى التي تتبنى البصمات كأثر دامغ لهوية الإنسان في عام 1891، وتم التأكد أن احتمال أن تتطابق 12 ميزة من بصمة على أخرى هو احتمال واحد من 64 مليارًا.
النطق باليد
وتبقى معجزة اليد المحيرة في قصة الشهيرة “هيلين كيللر” عن كيفية نطقها وهي المصابة بالخرس والعمى والصمم، وقد تعلمت النطق بواسطة سيدة صبورة رافقتها لمدة خمسين عامًا؛ كانت فيها كيللر تضع أصابعها على حنجرة “أنا سوليفان” وفمها وشفتها ولسانها عندما تنطق فتقلدها، وبذلك نطقت “كيللر” وبزت الفصحاء الناطقين.. وعندما صفق لها الجمهور في الشرق الأوسط أثناء زيارتها له، شعرت بموجة التصفيق تخترق جسمها من أسفل قدمها بالاهتزاز. فقد تعلمت “كيللر” الكلام عن طريق حس الاهتزاز، التي تحمل اليدين من جسيماتها العدد الوفير. وقد ترقت “كيللر” في مدارج المعرفة، وعاشت حياة طويلة حافلة بالإنتاج الأدبي والثقافي والعلمي، واستمرت ثماني وثمانين سنة تكتب العديد من الكتب، وتلقي المحاضرات في معظم أرجاء المعمورة تتحدى البلغاء.
الفن لسان اليد
إذا كان التراث الفني الإسلامي قد اندفع إلى الوجود عن طريق “العقل” و”الوجدان”، فقد سبقتهما في ذلك “اليد” التي أبدع الله تكوينها وصاغ شكلها، وأودع أطراف أصابعها سرَّ الوجود وحقيقة الحياة ومستقبل الإنسان. وهذه اليد كالقلب والعقل، ذكرها الله في محكم آياته في مائة وعشرين آية جاءت متفرقة في العديد من السور القرآنية. وتأخذ حقيقة “اليد” كما خلقها الله فيما تأخذ لتكون صانعةً لاستمرار الإنسان ودوامه، ومكوِّنةً لحضارته وممهدة لوجوده، ومثبتةً لحياته على هذه الأرض، كأرقى المخلوقات، وهي وحدها لا العقل والوجدان التي عبرت عن حقيقته الأولى، حيث استطاع إشعال النار واستعمال الأدوات المستمدة من الأحجار والعظام وفروع الأشجار. وفي عصور لاحقة حيث عملت يده في أعمال فنية، كصناعة الفخار والرسم على جدران الكهوف.. هذه قصة “اليد”.
و”الخط” لسان اليد، فهي التي كتبت وأبدعت وشكلت الفنون. ولذلك فلا غرابة أن يصبح “الخط العربي” وبخاصة حين يأخذ مادته من القرآن الكريم، هو الفن السائد في المجتمعات الإسلامية خلال كثير من العصور. وقد استطاع الخط العربي، مثل الأرابيسك أن ينقل البيئة الأساسية للفهم المنطقي -أعني الرموز الفكرية الأبجدية- إلى مادة فنية تصويرية، إلى بيئة فنية يصبح الوعي الجمالي فيها أصليًّا لا ثانويًّا، قائمًا بذاته لا بغيره، كل ذلك بفضل هذه اليد العجيبة.

(*) كاتب وباحث وأكاديمي / مصر.
المراجع
(1) انظر: الإسلام والفنون، الدكتور بركات محمد مراد، المتحف الوطني بالشارقة، الإمارات عام 2007.
(2) معجزة اليد الإنسانية، الدكتور خالص جلبي، العربي، العدد:462 (مايو 1997).