منذ العصور الأولى لوجود الإنسان على الأرض، ارتبطت حياته بعضو صغير لا يزيد حجمه عن قبضة اليد؛ إنه “القلب”.. القلب الذي ترمز دقاته دائمًا إلى الحياة، وإذا توقفت هذه الدقات توقفت معها الحياة. هل حاولت يومًا أن ترغم قلبك على إيقاف نبضه؟ حتى وإن حاولت فإنك لن تستطيع؛ لأن القلب لا يمكن السيطرة على عمله عن طريق الخلايا العصبية، وإنما عن طريق خلايا تقع في جدار الأذين الأيمن وتقوم بتنظيم عمل القلب عن طريق توليد الإشارة المحفزة له بشكل دوري.
القلب مِضخَّة مزدوجة، مهمته الأساسية استقبال الدم من سائر الجسد وإعادة ضخه بعد تنقيته، لكي يحمل الغذاء والوقود إلى كل خلية أو نسيج وعضوٍ وجهاز، عن طريق شبكة من الأوعية الدموية -أوردة وشرايين- يزيد طولها على مائة وخمسين كيلو مترًا. يعمل القلب منذ الشهر الثاني من حياة الجنين وحتى يأتي أَجَل الإنسان.. إنه لا يغفُلُ ولا يسهو، ولا يقعد ولا يَمَلُّ ولا يشكو.. بل يعمل دون راحةٍ ولا صيانة، فإذا سكن وتوقَّف في قفصه واستراح خلَّف وراءه جثة هامدة.
نظرة تشريحية
القلب هو العضو الرئيسي في الدورة الدموية، يقع في وسط الصدر فوق الحجاب الحاجز بين الرئتين وخلف عظمة القص (Sternum)، يقع ثلثاه إلى يسار المنتصف بينما الثلث الباقي إلى يمينه. وهو كيس عضلي مخروطي الشكل، يتكون من نصفين أيمن وأيسر يكونان معًا مضختين متلاصقتين تعملان في وقت واحد فتكمل إحداهما الأخرى في العمل.
يتكون كل نصف من القلب، من غرفتين أذين وبطين. وبين الأذين والبطين صمام يسمح بمرور الدم في اتجاه واحد من الأذين إلى البطين.
القلب بلغة الأرقام
إذا تحدثنا عن القلب بلغة الأرقام، نستطيع القول بأنه يزن 300 جم تقريبًا في حالته الطبيعية، وقد يصل إلى 600 جم في حالة إصابة الشرايين بالتصلب نتيجة لترسب الدهنيات.
يتراوح نبض القلب بين 70-80 نبضة في الدقيقة، وينبض قلب الإنسان في المتوسط 100 ألف مرة في اليوم الواحد. وهذا يعني 3.6 مليون نبضة سنويًّا، و2.5 مليار نبضة في كامل الحياة (باحتساب متوسط العمر المتوقع 71 سنة).
وبالنسبة لقدرات القلب، فهو يضخ خمس لترات من الدماء بواقع 70 ضخة أو نبضة في الدقيقة، ومجموعها يصل إلى 7.200 لتر. وبمقدور قلب الإنسان تزويد أدائه بشكل كبير للغاية في غضون أجزاء من الثانية؛ فبدلاً من ضخ 5 إلى 6 لترات في الدقيقة كالمعتاد، بوسعه -في حالات الإجهاد العالي- ضخ أكثر من 20 لتر عبر شرايين الجسم وأوعيته الدموية، وهذا يساوي 200 مليون لتر دم وثلاث مليار نبضة لعمر يصل إلى 75 سنة أو خمس مليار نبضة لعمر يصل إلى 100 سنة.
يبلغ طول القلب 12 سم، وعرضه 8 سم، وسمكه 9 سم. ومما يدعو إلى الخيرة، أن المسار الذي تقطعه الدماء بعد أن يضخها القلب، تبلغ رقمًا خياليًّا كما يؤكده نموذج فريد يحتفظ به في المتحف الملكي في لندن، إذ إن الدم يقطع طريقًا طوله 100.000 كيلو متر من خلال مختلف الأوعية الدموية.
نبض الحياة
في العادة تستغرق دورة العمل في القلب جزءًا يسيرًا من الثانية، ولهذا فإن النبض يتراوح بين 70-80 نبضة في الدقيقة، ويزيد عن ذلك عند الإجهاد العنيف وعند الإثارة الشديدة. ومن الجدير بالذكر أنه عند كل انقباضة قوية، يدفع القلب ثلاث أوقيات من الدم في الأورطي. وهذه الكمية تعادل 1.5% من مجموع الدم في الجسم، وبذلك فإن 60-70 دقة في الدقيقة، تكفي لمرور جميع الدم في القلب والأوعية الدموية 60 مرة في الساعة.
ومن الثابت طبيًّا أن معدل النبض في مرحلة الطفولة أسرع منه في الشيخوخة، ويظل ثابتًا في مقتبل العمر والشباب طالما لا يوجد هناك إجهاد عضلي أو مؤثر عاطفي.
ومن الخطأ الاعتقاد السائد بأن النبض الذي يقل أو يزيد عن المعدل المذكور، يعتبر أبطأ أو أسرع من الطبيعي، هذا خطأ، وتعليله يرجع إلى أن هناك حقيقة ثابتة في الطب عندنا، تبين أن الثابت هو اختلاف القلوب باختلاف الشخص؛ فالأخ يختلف عن أخيه في عدد النبضات، وقلبك مخلوق لك ولاحتياجات جسمك، وليس مخلوقًا ليضخ لجداول الإحصاء والمعادلات.
فالقلب السليم قد يتخطى نبضه أثناء الراحة التامة 90 نبضة في الدقيقة، والتمارين العنيفة قد تضاعفه، وكذلك صعود السلالم والمرتفعات.. وتعليل ذلك أنه كما أن السيارة تتطلب وقودًا أكثر عند السرعة وصعود المرتفعات، وكذلك الجسم يتطلب مزيدًا من الدم، ويلجأ القلب إلى قواه الاحتياطية فتتضاعف دقاته ليمد العضلات العاملة بكمية كبيرة من الدم. ولكن عندما ينتهي المجهود العضلي العنيف، تظل دقات القلب السريعة لمدة وجيزة، لكي تختزن الأعضاء التي استنفذت رصيدها وحاجتها من الطاقة.
ومن الجدير بالذكر في هذا المقام، أنه عندما يرتفع النبض إلى 160 نبضة، أو 200 نبضة، أو 250 نبضة في الدقيقة، فإن الغرف تنبسط وتنقبض بسرعة ولا تدع مجالاً لامتلائها، وقد تضعف الدقات نفسها، وإن الثلاث أوقيات قد تهبط إلى أوقيتين وقد تقل تدريجيًّا. وعليه فإن قلبًا يدق 200 دقة في الدقيقة، قد يدفع كمية من الدم أقل من القلب الذي يدق 70 مرة في الدقيقة.
في اليوم الثامن عشر من الحمل يبدأ قلب جنين الإنسان في الخفقان، ولا يتوقف إلا عندما يموت الإنسان. والجنين في هذا العمر، عبارة عن كتلة من الخلايا الصغيرة، وربما يكون القلب هو العضو الوحيد الذي لا يفلت من العمل المتواصل والاجتهاد بوتيرة واحدة حتى عند أكسل الكسالى.
من منا يخطر بباله أن هذا الجسم المتناهي الصغر مثل جنين الإنسان الذي عمره ثلاثة أسابيع، والذي لا يوجد له دم حقيقي، له قلب ينبض بمعدل انقباضه واحدة كل ثانية.
وعندما يولد الطفل يكون عدد ضربات القلب قد زاد إلى 140 نبضة في الدقيقة وهذه هي الذروة، حيث يبطؤ النبض تدريجيًّا بتقدم الطفل في العمر.
ويصبح متوسط سرعة ضربات الإنسان البالغ، 76 انقباضه في الدقيقة أثناء الراحة، وتزداد إلى أكثر من الضعف عند قيام الإنسان بعمل شاق متواصل.
كلما صغر حجم المخلوق كلما كانت نبضات قلبه أسرع؛ فإذا نظرنا إلى عالم الحيوان مثلاً، نرى أن الحوت الذي يزن جسمه 150 طنًّا، يعمل قلبه 7 نبضات في الدقيقة فقط، والفيل الذي وزنه 3 أطنانًا ينبض قلبه 46 مرة في الدقيقة، أما القط الذي وزنه 1.5 كجم فقلبه يعمل 240 انقباضه، بينما نجد أن العصفور الطنان الذي لا يتعدى وزنه 8 جرامًا سرعة نبضات قلبه 1200 دقة في الدقيقة الواحدة.
مفهوم يحتاج إلى تصحيح
يعتقد معظم الناس أن عضلات القلب تعمل ليلاً ونهارًا بدون راحة، وهذه فكرة ليس صائبة تمامًا؛ فعضلة القلب تستريح أيضًا وبصفة مستمرة، ولكن لفترات قصيرة جدًّا. فانقباضة القلب تستمر لحوالي 0.49 من الثانية فقط، وعندما يكون الإنسان في حالة سكون، فإن قلبه يستريح بعد كل انقباضه لمدة 0.31 من الثانية.
تبدأ دورة القلب بانقباض الأذينين، حيث يكون البطينان أثناءها في حالة راحة، ثم ينبسط الأذينان وينقبض البطينان، ويستغرق الأذينان حوالي 0.11-0.14 من الثانية في الانقباض، وبعد كل انقباضة تستمر راحتها لمدة 0.66 من الثانية، ومعنى ذلك أن الأذنين يعملان في اليوم من 3.5-4 ساعات، ويستريحان 20 ساعة. أما البطينان فيستمر انقباضها لفترة أطول تبلغ حوالي 0.27-0.35 من الثانية الواحدة، ويستريحان لمدة 0.45-0.53 من الثانية. وعلى ذلك نجد أن البطينين يعملان في اليوم 8.5-10.5 ساعة، ويستريحان 13.5-15.5 ساعة.
القلب مستودع الذكريات
أثبتت دراسات القلب مؤخرًا، أن ثمة عضو حيوي بشكل هائل وفعّال في جسم الإنسان، يعمل على تواصل دائم مع مخه عبر 40.000 خلية عصبية، تم اكتشافها فيه وفي الغشاء المحيط به، والذي عُرف باسم “الصفاق” (Pericardium). كذلك ثبت أن القلب يفرز كمًّا من الهرمونات إلى تيار الدم الذي يضخه إلى مختلف أجزاء الجسم وأولها المخ. فالقلب يتحدث مع المخ، وينسق معه جميع أنشطته. فكما ينشط المخ بمراكز ذاكرته وحسه بواسطة التغذية الراجعة عبر كلٍّ من الشبكات العصبية والدموية، فكذلك القلب الذي يعمل كجهاز تخزين للمعلومات عن طريق التغذية الراجعة عبر كلٍّ من الأعصاب والدم كما أثبت ذلك الدكتور بول برسال في مؤلفة المعنون “شيفرة القلب ” (Paul Pearsall: The Heart Code). وقد ثبت بالتجربة أن إحدى الأعراض الناتجة عن العمليات الجراحية بالقلب، هو فَقْد شيء من الذاكرة، ولذلك استنتج العلماء أن القلب هو مستودع الذكريات.
وبالتالي، ثبت بالملاحظات الدقيقة، أن القلب هو أكثر أجزاء الجسم تعقيدًا، وأكثرها دقة وغموضًا، وأنه يتحكم في المخ أكثر من تحكم المخ فيه، ويرسل إليه من المعلومات أضعاف ما يتلقى منه.. في علاقة عجيبة بدأت الدراسات الطبية المتقدمة في الكشف عنها، ويشبهها أطباء القلب بجهاز إرسال بين القلب والمخ يعمل بواسطة عدد من الحقول المغناطيسية التي يصدر أقواها من القلب إلى المخ فيسبق القلب المخ في ردات فعله.

(*) استشاري في طب وجراحة العيون / مصر.