يكتسي موضوع الإسلام في علاقته بالإبداع أهمية خاصة أسالت المداد وأشعلت الندوات ودفعت إلى جدالات كثيرة من منظور وقوف الدين في وجه الإبداع الذي ينتعش في ظل الحريات، ولكن المدافعين عن الإسلام من حيث براءته في ما ينسب إليه في هذا الصدد يرون أن الموضوعية تقتضي النظر إلى الحرية من زوايا متعددة تفيد البشرية بدل معاكستها لهذا على حساب ذاك، وفي هذا إجحاف في حق البشرية.
الحرية بين المطلق والتقييد
مهما اختلفت التعريفات والمفاهيم حول ما تعنيه الحرية فإنها في الأخير تلتقي في كونها تعني أفعال الفرد بعيدًا عن الإجبار وتوجيهات الغير، وهي التحرر من الضغوطات الموجبة للقيام بأفعال دون أخرى، لذا فالحرية من هذا المنطلق تستبعد الإملاءات والإكراه في الأقوال والأفعال.. وسواء من منطلق مفهومها اللغوي -الخلوص من الرق أو العتاب أو الشوائب- أومفهومها الاصطلاحي: “الوضع الذي يعيشه الفرد بعيدا عن القهر أو الغلبة وغيرهما مما يعيق التصرف وفق إرادته وبغيته عكس العبودية” فإن هذا المفهوم يحيل على كون الحرية تميل إلى المطلقية في الفعل والقول لكن الضوابط الإنسانية والاجتماعية وغيرها ستجعل المصطلح ينحصر من هذا الجانب أو ذاك. فالحرية بهذا الشكل ستظل نسبية لأن الحيز الذي تتم فيه يكون مشتركا بين أناس وكل تفويت للفعل الحر قد يمس حرية الآخر، وبذلك تقع الحرية بين مد وصد بين الإطلاق والانحصار، بين الإرادة وحدود هذه الإرادة.
ومهما كانت القيود التي تحد من حرية الأفراد والجماعات فإنها في الأخير قد تكون قيودا مادية أو قيودا معنوية تتعلق بالقيم الاجتماعية والدينية والأخلاقية والأعراف الاجتماعية…
الحرية في الإسلام اشتراطات وضوابط
في كثير من مقالات المعاكسين للإسلام نجد شبه اتفاق على كونه يحارب الحريات بدون ريبة ولاشك ،وذلك لكون تعاليمه بدون استثناء توجيهات تحد من حرية التصرفات والتوجهات، فالإسلام حد من تناول أغذية وأحل أخرى، وحد من أشربة وأحل أخرى، فرض على المرأة وعلى الرجل ضوابط في المعاملات والتصرفات وحتى العبادات، الإسلام وفق هؤلاء أغلق الطريق أمام الحرية وفق آيات صريحة في حصر العبودية لله وحده بلا ند ولا شريك علاوة على الآيات الداعية إلى التحريم بشكل بين وواضح، قال تعالى: ( إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ ۖ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)(173 البقرة) وقال تعالى إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّار)(المائدة72) ـ
وفي الحديث الشريف كثير من الأدلة على التحريم ففي مسند أحمد بإسناد صحيح عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “أتاني جبريل فقال: (يا محمد، إن الله لعن الخمر، وعاصرها، ومعتصرها، وشاربها، والمحمولة إليه، وبائعها، ومبتاعها، وساقيها، ومسقاها”. والكتاب والسنة زاخران بما يحرم ويحلل مما يدل على أن إطلاقية الحرية في الإسلام غير وارد ،وأن من دخل الإسلام عليه احترام ضوابطه المعلومة.
فإذا أضفنا إلى آيات التحريم آيات العبودية لله وحده بلا ند ولا شريك فإن البعض يتراءى له البعد الكبير بين الحرية بمفهومها الدال على السعة بل المطلقية في التصرف وتحقيق الرغبات بلا سقف يحد من تلبيتها .
وكل ما نقوم به في ظل الإسلام يجب أن يرتبط بالعبادة، فالله خلقنا أصلا من أجل ذلك، قال تعالى (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون، إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين” (الذاريات:56 ـ 58 ).
لكن المتمعن في الإسلام والمتعمق في فهم أحكامه ومراميه ،سيبدو له أنه في جوهره يخالف ما يراه المستبعدون للحرية من عمق تعاليمه ومناط رسالته ،بل إن الإسلام جاء دينا لم يلزم أحدا في الدخول إليه ،بل خيره في ذلك ،ومن بين الآيات المشيرة إلى هذا ، قوله تعالى: ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً﴾ (سورة الإنسان الآية: 3)،﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ﴾ (سورة البقرة الآية: 148) ـ ﴿وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا﴾ سورة الأنعام الآية: 132) ـ ﴿فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾ (سورة الكهف الآية: 29).
فالحرية في العقيدة والتي هي أساس الإسلام واردة في الإسلام إذ (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي) (سورة البقرة الآية256) ولذا سيكون الدخول إليه دخولا حرا واختياريا، والاختيار القبولي يقتضي الالتزام بالفرائض والواجبات.
ونخلص انطلاقا مما سبق إلى كون الإسلام لم ينتشر بالسيف “والسيف لم يستعمل في الاسلام الا دفاعا عن النفس إذ لا يريد الاستيلاء على قوالب، وإنما يريد أن يستولي على قلوب، لأن الاستيلاء على القوالب يحكم ظاهر الأشياء، ولا يحكم خفاياها.” 1، ونظرة الإسلام إلى الدنيا التي نعيشها ، أو الحياة الدنيوية التي تسبق الآخرة نظرة ذات شقين :شقُّ يحمدها ويباركها، لأن الذين يطلبونها حينئذ لم يطلبوها بأسلوب ينافي ذكر الله ولم يتكالبوا عليها تكالبا يصرف عن عبادة الله ، وشقُّ يذمها بأسلوب بديع يتمثل في الموازنة بينها وبين الآخرة أو بين متاعها الزائل، ومتاع الآخرة الدائم، وبعد أسلوب الموازنة تأتي أساليب أخرى تختلف شدة ورفقا حسب حال المخاطبين بها ،فالمخاطبين بها ناس يؤثرون الدنيا على الآخرة إيثارا صارفا عن الله، ويتكالبون عليها تكالبا لا يدع فرصة لعبادة الله، خالق الدنيا والآخرة، وواهب الخير والنعم ” 2 .
والحرية بذلك حرية مطلقة قبل الإسلام ومقيدة بعد الدخول اليه، ويؤمن الإسلام بأن كل ما فرضه على المسلمين في صالحهم، وأن مادون ذلك يرديهم مما هم أحرار في إتيانه واقترافه ” فأنفع الأشياء له على الإطلاق: طاعة ربه بظاهره وباطنه. فإذا قام بطاعته وعبوديته مخلصا له ،فكل ما يجري عليه مما يكرهه يكون خيرا له، وإذا تخلى عن طاعته وعبوديته، فكل ما هو فيه من محبوب هو شر له” 3
فالإسلام دين ضوابط يفرضها على تابعيه ماداموا اعتنقوه بمحض إرادتهم، والتزامهم بضوابطه له نتائج في الدنيا والآخرة، فبها تصلح المجتمعات وتعيش عبر قيم أخلاقية تجعلهم يتآخون ويتفاعلون بدون مناوشات ولا اعتداءات.
ورغم هذه الضوابط القيم التي ينبغي احترامها والالتزام بها ففي الإسلام هامش حرية يجعل المسلم لا يعيش في ضيق ولا قهر، بل يعيش آمنا مطمئنا على نفسه وأسرته وماله.
وللإيجاز، فالحرية في الإسلام هي الانقياد والانضباط للشرع بعيدا عن الانقياد المطلق لما لشهواتنا وملذاتنا وما تمليه علينا خارج أي ضابط رادع.
الإسلام والإبداع علاقة هادفة
يعتبر الإبداع استحداثا وابتكارا لشيء جديد، فهو إنتاج لعمل غير مألوف، ضمن شروط وسياقات اجتماعية وذاتية تجعله ذا قيمة من قبل صاحبه ومن قبل المتلقين له. ولا شك أن الإبداع عملية ليست هينة الإنجاز، ويدل على ذلك نسبة المبدعين في كل المجتمعات مقارنة بغيرهم، فخصائص الإبداع تقتضي من المبدع صفات ومواصفات لا يمتلكها غيره. والإبداع علاوة على ذلك سِجلُّ الحياة ،يحمل نبض ورؤى الأجيال في كل زمان وكل مكان ،ليبرز مدى تأثر الإنسان بمحيطه بكل ما يحمله من جمال وأفراح وأحزان وطموحات.
وطبيعته الخاصة تجعله يقتضي التخطيط والتركيب عبر رؤية بها من شخصية وقدرات المبدع ما يعطيها تميزها عن غيرها من الإبداعات، فهو المالك للقدرة على إعادة بناء علاقات في قالب مستحدث مخالف مُبتَكر.
وبصدد الحديث عن طبيعته وتشكله الخاص عادة ما يرهب العقل ويصدمه، إلا أن المبدع المتميز باستطاعته ـ انطلاقا ـ من مهارته أن يجمع بينهما ويلاقيهما متجانسين من أجل الغوص بحثا عن عمق الظواهر ومكنونات الأشياء.
إن علاقتنا بالأعمال الإبداعية لا تنحصر في جانبها الجمالي فحسب، بل تتعداها إلى أبعد من ذلك، فكل إبداع يحمل رؤى و مواقف جديرة بالاطلاع والتمحيص، وبهذا تظل القيمة الجمالية وسيلة لتقديم تموقفات تصدر من المبدع باعتباره فردا بين جماعة وكائنا علائقيا يفعل وينفعل ويتفاعل مع مجريات الحياة بكل قضاياها.
وقد حدد ياكبسون دور الوظيفة الجمالية في أنه يتمثل في “قدرتها على اجتذاب الانتباه نحو الرسالة الفنية نفسها وليس أي شيء خارجها، أو أي شيء تقوم هذه الرسالة، أو العمل الفني بالإحالة إليه. فالرسالة الفنية تكون شعرية [أي جمالية] بالقدر الذي يتمكن تكوينها الخاص من خلاله، أو عنده، من اجتذاب الانتباه الخاص بالمتلقي إلى أصواتها وكلماتها، أو تنظيمها الخاص ، وليس شيء آخر يقع خارجها “4 .
إلا أن ما أشرنا إليه بصدد الإبداع يعارض تعارضا بينا من قبل من يتخذ الحرية حقا يتيح له التعبير الإبداعي دون مراعاة أعراف أو تقاليد أو تعاليم دينية، مما يجعل حريته تؤذي غيره ممن لا يوافقونه في ما يصدر عنه مما يخالف المقيم والمعتقد. بل إن البعض يتخذ الحرية وسيلة يمس عبرها أعراض الغير ناس يا أن ما يقوم به يوسع من حريته ويضيق من حرية الآخرين، فكل مد فيها يقابله جزر والعكس صحيح.
إن الإبداع خارج ضوابط محددة تجعله فيضانا لا ضفاف له يسر القليل الراكبين على موجه ويودي بحياة المحيطين به أو ينغص عليهم نظرتهم للوجود والقيم.
فهناك من يستعمل الإبداع بغية الاستهزاء بالدين، وبغية الاستهزاء بما يمثل القدوة لشعب من الشعوب، وهنا يصطدم بأكثر من طرف ،وتفقد الحرية امتدادها لكونها لا يمكن أن تتحقق سوى بين ضوابط تحترم الذات كما تحترم الآخر.
إن الإبداع ضرورة اجتماعية ونفسية ، و بوابة لدراسة الحضارات وتاريخ الأمم ، لذا يستحيل وجود مجتمع وأقوام بمعزل عن إبداع يحمل خصوصياتهم وتميزهم، يحمل طموحاتهم ، وإحساسهم إزاء بعضهم وإزاء المحيط الذي يؤطرهم .فالفن وعاء يسجل نبر الحياة على النفوس ، وكل إبداع مهما كانت هويته ينضاف إلى تراث الإنسانية، وبذلك تساهم كل الإبداعات في التكامل والتنوع لما يمثل وقع الواقع والوقائع في الوجدان الإنساني “[لكن الفن حين يعبر عن وقع الوجود لا يضيع ذاته في رحاب المطلق ،وإنما يقتنص من هذا المطلق ما يسعفه على أداء مهمته الوظيفية : إعطاء شكل تعبيري لأحلام الجماعة وتطلعاتها ، لتجاربها ومخاوفها ، لخبراتها المتراكمة ومعاناتها عبر الألم والهزيمة ونشوة النصر وصبوة الإبداع. لذلك كانت علاقة الفن بالواقع علاقة إشكالية تماثل علاقة الحلم بالواقع عند الفرد. فالفن تحويم وتهويم حول الواقع الفردي والجمعي. ما أن يمس الفن الواقع المتمكن المقنن حتى ينفلت من كل القيود ليبني لنفسه عالما ترى فيه الجماعة مستقبلها البعيد بآماله النائية وهواجسه السحيقة، ولهذا كان الفن خالقا للأساطير ومطورا لها على اعتبار أن الحلم أسطورة الفرد والأسطورة حلم الجماعة، لكن هذه الجماعة لن تتمكن من أن ترى في الفن ذاتها المقبلة أي صيرورتها إلا إذا جاءتها الرؤيا من خلال قسمات الماضي بتقاليده الفنية وتحققاته الفكرية والتاريخية. فالكوني الشامل يعبر عن نفسه بواسطة المحسوس المتجدد، والمستقبلي الممكن يعبر عن نفسه بواسطة الوسائل التعبيرية الموروثة. وهذه كلها من مفارقات الفن المألوفة] 5.
وعليه، فالإسلام له علاقة خاصة بالإبداع تتمثل في جعله يخدم الدعوة الإسلامية في شتى جوانبها، وقس على ذلك جميع حركات وسكنات الإنسان التي ينبغي أن يراد بها وجه الله، فالأعمال ينبغي أن تكون تبعا لحسن النيات طبقا لمقاصد الشريعة الإسلامية. فالإسلام ليس ضد الإبداع ولكنه ضد كل إبداع يستبيح ما حرمه. وكيف لا وقد جاء محررا للطاقات بغية البحث في رحاب الكون والتعبير عن أسراره مع استخدام الملكات والمواهب استخداما في مستوى قيمة الإنسان باعتباره الكائن الفريد الذي سخر له ما في هذا الكون لاستغلاله وفق شريعة الله بما تحمله من ضوابط.
الإسلام لم يحرم أي فن يستهدف خدمة الإنسان وفق نظرته إلى الصلاح والفلاح في العاجلة والآجلة، ورغم التشدد الذي أبداه بعض العلماء إزاء كثير من الفنون فإن فقهاء معاصرين اجتهدوا لتصير نظرتهم إلى هذه الفنون نظرة مرنة تجعلها مقبولة في ظل التعاليم الإسلامية مادامت متماشية مع مقاصدها.
هوامش:
1 ـ الاسلام حداثة وحضارة الشيخ محمد متولي الشعراوي ـ دار الدعوة بيروت ـ طبعة 1982م.ص231 ـ 232م.
2 ـ من أدب القرآن الكريم عبد الغني أحمد ناجي ،دار الاعتصام ص 155 ، 156. (لم يشر فيه لرتبة الطبعة).
3 ـ الفوائد ، ابن القيم الجوزية ، تحقيق محمد عبد القادر الفاضلي ، المكتبة العصرية صيدا بيروت ،الطبعة الثالثة 1420ه ،2000م ،ص 116
4 ـ د.شاكر عبد الحميد ـ التفضيل الجمالي ـ دراسة في سيكولوجية التذوق الفني – عالم المعرفة – 267 ـ مارس 2001 صفحة 23.
5 ـ مجلة الوحدة ـ السنة لثانية ـ العدد 24سبتبر 1986 – ذوالحجة 1407هـ ص :3.