من المعروف أن علم الوراثة هو أحد العلوم الذي ينتمي إلى علم الأحياء، حيث يختص هذا العلم بدراسة الجينات الوراثية للكائنات الحية، وكيفية انتقال الصفات الوراثية من الآباء إلى الأبناء، والذي يوضح سر التشابه بين الأفراد الذين تربطهم قرابة معينة، ويبرز كذلك سر الاختلافات بين أبناء الجنس الواحد في الكائنات الحية. يعتبر علم الوراثة من العلوم المهمة، لأن الوراثة لها دور كبير في حياتنا، وأصبح يرتبط بالعلوم الأخرى مثل علم الطب البشري، وكذلك علم التربية، وعلم البيطره، وعلم الزراعة، وقد برز هذا العلم في بداية القرن العشرين وتطور وازدهر في فترة وجيزة، وتفرع منه عدة أفرع حتى أصبح لكل فرع منه علم قائم بذاته.
وإذا أردنا البحث عن الحمض النووي في القرآن والسنة، فينبغي البحث عن صفته الثابتة التي استقر عليها العلم في وصف الحمض النووي، لأن الاسم قد يتغير بتغير الزمان أو المكان أو اللغة، أما الصفة الثابتة فلا تتغير. ومعلوم أن من أهم صفات الحمض النووي أنه يعمل كفيلم قابل للاستنساخ (التصوير) ويحمل شفرة وراثية تمثل صورة أو تمثال مشابه للكائن الحي، والحمض النووي هو المسؤول عن نقل الصفات الوراثية من الآباء إلى الأبناء من خلال الأمشاج. وهذه الصفات الثابتة للحمض النووي قد استقر عليها العلم منذ تمكن العالمان “واطسون وكريك” في سنة 1953 من اكتشاف الشكل الحلزوني المزدوج للحمض النووي، الذي يفسر كيفية تخزين الصفات الوراثية على الحمض النووي، كما يفسر كيفية استنساخ (تصوير) الحمض النووي، ودوره في نقل الصفات الوراثية من الآباء إلى الأبناء من خلال الأمشاج.
لذا توجد لكل مخلوق صفات تميزه، ويمكن من بين الصفات ملاحظة صفات تنعكس في المظهر الخارجي أو في مبنى الجسم، وصفات تتعلق بعمليات تحدث في الجسم، وصفات تتعلق بالسلوك، كما يمكن ملاحظة بعض الصفات عن طريق الحواس مثل لون العينين. فبعض صفات المخلوق هي وراثية وبعضها الآخر تكون صفات مكتسبة، وتتحدد الصفات الوراثية بواسطة معلومات معينة في DNA الفرد.
والسؤال الذي يطرح نفسه هو كيف تنتقل العوامل الوراثية من الوالدين إلى الأولاد؟
الصفات الوراثية
للوراثة دور كبير في حياتنا، لكونه يبحث في كيفية توريث الصفات من الآباء إلى الأبناء، وأن علم الوراثة هو علم واسع جدًّا يتعلق بكافة الكائنات الحية.
والوراثة هي عبارة عن عملية انتقال الصفات من الآباء إلى الأبناء، وقد تكون هذه الصفات جسمية، أو صفات متأثرة بالجنس، أو مرتبطة به على النحو التالي:
– الصفات الجسمية: وهي التي تكون ظاهرة على الفرد مثل الطول وكذلك صفة لون العيون خضراء، أو زرقاء وغيرها، وأيضًا قدرة الفرد على طي لسانه، ولون الشعر كذلك.
– الصفات المتأثرة بالجنس: وهي تلك التي تتأثر بالجنس لكنها غير مرتبطة به، مثل صفة الصلع.
– الصفات المرتبطة بالجنس: إن الإنسان يحمل 22 كروموسومًا جسميًّا وزوجًا واحدًا فقط من الكروموسومات الجنسية، حيث تكون الصفات المحمولة على الكروموسوم الجنسي X، ومن الصفات المرتبطة بالجنس الأمراض مثل مرض عمى الألوان، والأنيميا المنجلية وكذلك مرض الهيموفيليا أو المعروف بمرض نزف الدم.
الإعجاز القرآني
خلق الله آدم من طين (وَبَدَأَ خَلْقَ الإنسان مِن طِينٍ)(السجدة:7)، وخلق منه حواء (خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً)( النساء:1)، ثم جعل الله نسلهما من الماء المهين (وَبَدَأَ خَلْقَ الإنسان مِن طِينٍ. ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلالَةٍ مِّن مَّاء مَّهِينٍ)(السجدة 7:8)، أي من الأمشاج الذكرية والأنثوية التي تجتمع في الرحم لتعطي النطفة الأمشاج (إِنَّا خَلَقْنَا الإنسان مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ)( الإنسان:2).
ثم أخبرنا الله بشيء عجيب، فقال إن النطفة الأمشاج التي لا تكاد تذكر تساوي إنسان، فقال تعالى (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن سُلالَةٍ مِّن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً في قَرَارٍ مَّكِينٍ)( المؤمنون12:13).
ونلاحظ أن الهاء في (جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً) عائدة على الإنسان بكل صفاته، وفي هذا الإخبار الرباني عن جعل الإنسان نطفة إعجاز علمي غاية في الدقة، إذ كيف تتساوى النطفة التي تمثل خلية واحدة لا ترى بالعين المجردة مع الإنسان الذي يتركب من بلايين الخلايا.
وهذا الإعجاز لم يعرفه العلم إلا منذ فترة بسيطة عندما فحص النطفة ليكتشف وجود إنسان كامل يعرف باسم الحمض النووي (DNA) لا يكاد يذكر في الحجم ولكنه يحمل شفرة وراثية كاملة للإنسان ويمكن أن نسميه بالإنسان الجيني (Genetic human) أو الصورة المشابهة للإنسان. ولما كان الجعل في أحد معانيه هو الصيرورة (التحول من صورة إلى صورة) كان لزامًا علينا أن نعلم أن تحول الإنسان الأول إلى نطفة تم بآلية معينة وعلى مراحل معينة حدثت في الأصلاب حيث يتم خلق وتصوير نطفة الإنسان الذرية من الخلايا الجنسية للآباء.
ومن الآيات السابقة نلاحظ أن الله رسم لنا الخطوط العريضة للمعادلة التي تشرح كيفية انتقال الصفات الوراثية من الآباء إلى الأبناء عبر النطفة، فالخلايا الجنسية للإنسان الأول المخلوق من طين (آدم وحواء) تحولت إلى النطفة، ومن النطفة خلق الله الإنسان الذرية في الأرحام.
السنة النبوية
من الملاحظ أن المولود ذكرًا كان أم أنثى يميل في الشبه إلى أحد أبويه، وربما امتد هذا الشبه إلى بعض أقاربه من جهة الأم أو من جهة الأب، وقد قررت السنة النبوية وجه التشابه والاختلاف بين المولود وأبويه، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل من بني فزارة إلى النبي ـ صل الله عليه وسلم ـ فقال: إن امرأتي ولدت غلامًا أسودًا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هل لك من إبل؟ قال: نعم، قال: فما ألوانها؟ قال: حمر، قال: هل فيها من أورق؟ قال: إن فيها لأورقًا، قال: فأنى أتاها ذلك؟ قال عسى أن يكون نزعه عرق، قال: وهذا عسى أن يكون نزعه عرق”.
ففي هذا الحديث أشار النبي صل الله عليه وسلم، إلى قوانين الوراثة التي اكتُشفت حديثًا، والتي اكتشف كثيرًا منها (مندل)، ففيه شرح للصفات الكامنة المحمولة على الموروثات، والتي لم توضع موضع التنفيذ، لكونها قد سبقت أو غلبت بمورثات أخرى، فقد يرث الإنسان صفة من جد أو جدة بينه وبين أحدهما مئات السنين.
من المعلوم أن سر الحياة في هذا الكائن هو الخلية، وعندما درس العلماء الخلية وتركيبها وجدوا أن مركز الخلية هي النواة التي تمثل الجزء الأهم فيها، بحيث إن غياب النواة، يجعل استمرار الحياة مستحيلاً، ثم ذهبوا يستكشفون أسرار هذه النواة في الخلية، فوجدوا فيها أشكالاً غريبة، تحب وتتعطش للألوان بشكل كبير، هذه الأشكال الغريبة هي أشبه بالمقصات أو إشارة (x)، وهي المعروفة باسم الصبغيات أو الكروموسومات، وهي التي تتحكم في الصفات الفردية في الإنسان، ووظائف الخلايا وتخصصها، وتحتوي النواة على (23) زوجًا من الكروموسومات. والصفات الوراثية التي يأخذها الجنين من أمه أو أبيه ترجع إلى التزاوج الذي يكون بين هذه الأزواج من الموروثات التي تحمل صفات كل الآباء وكل الأمهات، وهي تظهر في الوليد حسب مشيئة الله تعالى، فبغلبة الكروموسومات الموجودة في الأب يأتي المولود أكثر شبهًا به، وبغلبة كروموسومات الأم تكون صفاتها الموروثة أظهر في المولود. وقد يكون المولود بعيدًا كل البعد عن مشابهة أحد أبويه، وذلك لأن الصفات الوراثية -كما يقول علماء الوراثة- نوعين: سائدة ومتنحية، فإذا كانت متنحية وورثها الولد من الأبوين معًا ظهرت هذه الصفات فيه، وإن لم تكن ظاهرة في أبويه، وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم نزعه عرق أي اجتذبه وأظهر لونه عليه.
العلم الحديث
فسر لنا العلم الحديث كيفية تحول الخلايا الجنسية إلى نطفة من أجل نقل الصفات الوراثية من الآباء إلى الأبناء، قال بأنه حدث نسخ للحمض النووي في الخلايا الجنسية للخصية والمبيض لتتكون الأمشاج الذكرية والأنثوية التي تتحد في الأرحام لتعطي النطفة الأمشاج، ثم حدث نسخ للحمض النووي الموجود في النطفة الأمشاج لتتكون منه أعضاء الجنين في مصانع البروتينات المعروفة بالريبوسومات (الحمض النووي الريبوسومي). فاستعمل العلم الحديث النسخ لوصف انتقال الصفات الوراثية من الآباء إلى الأبناء، أما في القرآن والسنة، فسوف نجد كلمة أدق وهي التصوير، والتي استخدمت في القرآن وبعض الأحاديث النبوية لوصف انتقال الصفات الوراثية من الآباء إلى الأبناء. قال تعالى (هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ في الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ)(آل عمران :6)، وإذا سألنا النبي عن معنى التصوير في الآية فيقول: (إذا مر بالنطفة اثنتان و أربعين ليلة بعث الله إليها ملكًا فصورها وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظامها) رواه مسلم.
فبين صلى الله عليه و سلم أن هناك تصوير من النطفة قبل خلق أي عضو من أعضاء الجسم, و هو ما أسماه العلم الحديث نسخ الحمض النووي الموجود في النطفة وترجمته إلى بروتينات الأعضاء. وهذا يؤكد أن التصوير قد يستخدم لوصف انتقال الصفات الوراثية من الآباء إلى الأبناء عبر النطفة.
الكروموسومات
إذا أردنا أن نعرف الإجابة علي هذا السؤال فعلينا أن نتذكر بديع صنع الخالق تبارك وتعالى وعظمته في خلق هذا الجزء الهام في جسد الإنسان والمتمثل في الخلية والتي توجد بها الصفات الوراثية عبر الأجيال وهذه الصفات الوراثية “الكرموسومات” التي تحمل الصفات الوراثية عبر الأجيال، يوجد بداخلها كل الصفات الخاصة بالجنين المنتظر.. إنها مخابرات سرية من صنع الخالق سبحانه وتعالى تنتقل الصفات الوراثية المتعلقة بالأب عن طريق الحيوانات المنوية الموجودة بهذا الماء المهين للرجل وكذلك مخابرات سرية أخرى ببويضة المرأة التي لا ترى بالعين المجردة لتنقل الصفات المتعلقة بالأم وعن طريق الصفات الوراثية “الكرومرسومات” يتم تكوين البروتين في المراحل الأولى لتكوين الجنين عن طريق الشفرات الوراثية، وأي تغيير في هذه الشفرات يؤدي إلي خلل في تكوين البروتينات داخل الجسم وإلي ما لا يحمد عقباه. و”الكروموسومات” الجنسية هي الكروموسومات المسؤولة عن تحديد نوع الجنس أي ذكر أو أنثى، حيث إن الأنثى تحمل كروموسومات بالرمز XX أم الذكر فيحمل الرمز XY.
اكتشفت الكرموسومات في القرن التاسع عشر من خلال مجموعة من التحاليل المجهرية والأبحاث التي جعلت من حملت الكروموسومات مصطلح الجينات الوراثية، وهي عبارة عن مجموعة من السلاسل حمضية تلعب دورها في تكوين الجنين، وقد اتفق العلماء أن تلك الكروموسومات أو الأحماض لها دور تقوم بها أثناء نمو الجنين في بطن أمه على أن عددها ثلاثة وعشرين كروموسومًا، وقد أدى دراسة تلك الجينات إلى اكتشاف أسباب الأمراض التي لم يكن العلماء على دراية بأسبابها مثل متلازمة داون وعمى الألوان أو نزف الدم.
الجينات
الجينات وهي جزء من DNA وتكون محمولة على الكروموسومات التي تشكل الصفات الوراثية للإنسان أو الحيوان، حيث إنها تنتقل بواسطة الجاميتات الذكرية والأنثوية، وتنقسم الجينات إلى نوعين جين سائد وآخر متنح. إن الجين السائد يمتاز بالتفوق على الجين المتنحي عند التقائهما وتظهر الصفة التي يحملها الجين السائد، ويرمز له بحرف لاتيني، أما بالنسبة للجين المتنحي لا يظهر إلا إذا كان نقيًّا، أي يتكون من التقاء جينين متنحيين لتتمكن الصفة المحمولة على الجين بالظهور، حيث إن هناك جينات متخالفة، أي التي تكون خليطًا ما بين جين سائد وآخر متنح، لكن صفة الجين السائد هي الظاهرة، أو متماثل الجينات أي يحمل جينين متنحيين أو سائدين نقيين.
وكثير من التشوهات الخلقية تأتي نتيجة تعاطي العقاقير في الفترة الأولى من الحمل وتعاطي الخمور، والتعرض لبعض الأشعة، أو قد تكون لأسباب وراثية في عائلة الأب أو الأم بداخل الحيوان المنوي للأب أو البويضه للأم، وهذه دعوة لنتأمل في نظم الله تبارك وتعالى. ولننظر حولنا إلى رحمة الله وهي ترعانا في كل طور من أطوار حياتنا منذ كنا نطفة، ثم علقة، ثم عظامًا، ثم لحمًا يكسو العظام، ثم خلقًا من بعد.