تحظى الرواية الآن بالتميّز على كافة صنوف الإبداع عربياً، ومردّ ذلك إلى أننا نعيش عصر الرواية – وفق رأي أغلب المراقبين للمشهد الأدبي- وإن كنّا نسلم بكون الشِعر ديوان العرب قديماً، فعلينا أن نقرّ بأن الرواية هي ديوان العرب الحالي، وربما يأتي اليوم الذي تصبح فيه القصة القصيرة ديوان العرب، فهي من سبقت الرواية في الظهور للساحة، حتى أطلق عليها لقب أمّ الرواية، وإن كانت الرواية الابنة الشرعية إلا أنها تستوعب كافة الأجناس الأدبية من شعر وقصة ومسرح وسينما، لاسيما أن “الأدب لا يخضع للأخلاق”، فلا غضاضة أن يتفوق جنس أدبي على آخر، وإن خرج من رحمه…
فكلّ الأضواء مسلطة حالياً على الرواية، ويرجع البعض هذا الاحتفاء إلى أنها الأكثر استيعاباً لإشكاليات ومجريات الحياة، وفهم حقائق الوجود وغوامض الذات الإنسانية، فالأحداث الاجتماعية والسياسية التي نمر بها في حياتنا، هي وراء هذا التحول للسرد الروائي، فقد صارت أغلبها متتالية بشكل يوحي بأنك أمام رواية مطولة، تعيش تفاصيلها وخيوطها التي تتشابك حيناً وتتباعد أخرى، ما جعل الرواية هي الأولى على كافة الآداب العربية.
وإلى جانب المسابقات والمناسبات التي تقام للرواية، أكثر من القصة، والشعر، وحتى المسرح، ما جعل منهم آداباً تكاد أن تكون منسيّة في وقتنا الحاضر.
ولكن نعترف أن هذا هو زمن الرواية، ويجب أن تعيشه، فهي لم تكن موجودة في سنوات خلت بهذا الحضور وهذا الاهتمام الذي نلمسه اليوم.
ولكن المفارقة التي لم ينتبه إليها الكثير في ظل تسليمنا بريادة الرواية عربياً، أن المجتمع الغربي يفضل ترجمة القصة العربية على الرواية، وهذا أمر مستغرب ومحير بعض الشيء، فما يعلو هنا يهبط هناك والعكس، إذن لكل مجتمع نظرته ومتطلباته وأولوياته.
كما أن الإقبال في السوق الأوروبي حالياً والناشر والصحف الغربية والأمريكية، على ترجمة القصص أكثر من الرواية..
فالمزاج الغربي عندما يتجه إلى الترجمة من الأدب العربي، يميل إلى القصة أكثر ما يميل إلى الرواية.
وحري بنا أن نتذكر هنا مقولة لعميد المستشرقين الإيطالي فرانشيسكو غابرييلي، مترجم كتاب “ألف ليلة وليلة” الذي كان يمتنع عن ترجمة الأعمال الروائية العربية، وكان يقول “على العرب أن ينتظروا حتى يظهر من بينهم روائي في قامة تولستوي حتى يمكن ترجمتهم إلى اللغات الأوروبية”، ولكن هذه النظرة الإقصائية تغيرت منذ السبعينات والثمانينيات، حينما برز اسم الأديب المصري نجيب محفوظ، بعد حصوله على جائزة نوبل عام 1988 من بين 116 اسماً تمّ ترشيحهم للجائزة في هذا العام.
وهذا يدل على مدى قصور نظرة الغرب لأدبنا العربي، فإن كان كتاب ألف ليلة وليلة، يعتبر مصدر إلهام الكثيرين من الكتّاب الغرب، إلا أن نوعية الأدب الذي يلقى رواجاً لدهم لترجمته، هو الذي يكشف القهر والظلم الذي يقع على المرأة، والعادات والتقاليد التي تظهر تخلف المجتمع العربي، إلا فيما ندر، والنادر لا يقاس عليه، وكما نلاحظ حتى وقت قريب بعد ألف ليلة وليلة، تأتي في الترجمة رواية “أولاد حارتنا” لنجيب محفوظ، ثم روايات الأديب صنع الله إبراهيم.
ولكن لماذا يحتدم الصراع بين القصة والرواية في الآونة الأخيرة عربياً ما بين مؤيد لتلك أو لهاتيك، وقد ذهب كثير من الباحثين أن القصة والرواية، فنّ أخذا من الغرب، وأن العرب كانوا يستهجنون القصة عموماً، وهذا ما أكده أحد رموز القصة العربية محمود تيمور (أول ما يصدم الباحث في الأدب العربي هو تفاهة القصة، وقلة ما كتب فيها، وعناية العربي بها).
وحتى حينما برز في التسعينيات تيار القصة القصيرة جداً على استحياء، وقد أرجع المراقبون ذلك الابتداع في فن الكتابة السردية، إلى عوامل سياسية واقتصادية واجتماعية هي التي ساهمت بشكل لافت لظهور تيار “القصة القصيرة جداً” ولكن في المقابل نجد أن الغرب ظهر لديه هذا الاتجاه (ق ق ج) قبل قرن من ظهوره عربياً.
لذلك يعتبر الروسي ايفان تورغينيف، أول من كتب النصوص النثرية القصيرة وكان ذلك في أواخر السبعينات من القرن التاسع عشر، وبدليل أن روسيا تحتفل سنوياً بما يسمى مهرجان “النثر المصغر” تخليداً لذكرى هذا الكاتب الروسي الكبير، الذي يعد المؤسس الحقيقي لهذا النمط من القصة القصيرة.
وتبعه في ذلك أنطون تشيخوف، وايفان بونين، وفرانز كافكا وغيرهم، ومن ثم ظهر هذا التوجه في المجتمع البريطاني والأوروبي والأمريكي.
أما في المجتمع العربي، فيعد نجيب محفوظ هو أول كاتب عربي كتب العديد من المنمنمات القصصية، وقد يقول البعض بأن جبران خليل جبران كان أسبق من محفوظ في كتابة هذا اللون القصصي، ولكن تجارب جبران كانت أقرب إلى الخواطر منها إلى مفهوم القصة القصيرة جداً حديثاً.
وعلى جانب الرواية فقد تراجع اهتمام العرب بالفن الروائي حتى بعد بداية التفاعل مع الغرب، منذ انطلاق مباحث التعريب والترجمة، وهذا ما أكده الأديب اللبناني جرجي زيدان (والرواية فن له شأن عظيم في آداب اللغة الإفرنجية يكاد يكون أهمها، وأما في العربية فإنه أضعف فروع الأدب).
ومن منّا لا يقرّ بأن القصة القصيرة قد هيمنت على المشهد العربي منذ أربعينيات القرن الماضي وحتى السبعينات، ولكن مع بداية الألفية الثالثة شهدت القصة تراجعاً ملحوظاً مقابل ازدهار السرد الروائي.
ولكننا حينما ننظر إلى أبرز رواد القصة العربية نجد أنهم أيضاً كتبوا الرواية باقتدار، ويعتبر توفيق الحكيم أهم رواد القصة والرواية العربية.
وأيضا الروائي الفلسطيني غسان كنفاني، والجزائري واسيني الأعرج من رواد القصة القصيرة العربية الحديثة.
أما في المجتمع الغربي فيعتبر الروائي الكولومبي غابريل غارسيا ماركيز
من أهم الرواد في القصة القصيرة، وهو اسم لامع في سماءِ عالم الروايات العالمية. والروسي دوستويفسكي واحد من أبرز وأهمّ الرواد أيضاً.
ونودّ هنا أن نلقي الضوء على أهم أسباب تراجع القصة أمام الرواية، فمن أبرزها أن كثيراً من كتّاب القصة ذهبوا إلى كتابة الرواية، لأن الرواية عليها بقعة من الضوء أكبر، ما يزيد من التفاف الغالبية حولها، فيرواد الكاتب رغبة نرجسية بأني لماذا أكتب قصة وأظل في الظل أو النسيان؟ فمن الأفضل أن أكتب رواية وأكون في المقدمة، ناهيك عن أن لقب “روائيّ” يغري أكثر من لقب “قاص” لزيادة تضحم الأنا لدى البعض منهم. إلى جانب أن الرواية لها عدة مؤسسات تستوعبها وترفع من قدرها، ما ساهم في أن يكون لها حضور لدى القراء والعامة أيضاً، فهي ذات شعبية أكبرحالياً.
بينما القصة لا توجد كثير من المؤسسات تدعمها بالجوائز، عدا جائزة واحدة كبيرة للقصة العربية، وهي جائزة “الملتقى” في الكويت، بينما للرواية نجد جائزة البوكر العربية بالإمارات، وتليها جائزة كتارا بقطر، وغيرهما من الجوائز العربية والمحلية.
وأيضاً هناك إشكالية الناشر العربي، فهو يقبل على أخذ الرواية، ولا يتشجع لنشر المجموعات القصصية، وهنا يبرز دور الجانب الاقتصادي على الجانب الإبداعي.
بخلاف الغرب، فلديهم اهتمام بالقصة القصيرة سواء أكانت مجلات إلكترونية، أو الورقية، وهناك الكثير من المجلات المتخصصة في القصة القصيرة المترجمة، أيضاً وجود جوائز للقصة الآتية من لغات أخرى، هذا الاهتمام المغاير نسبيّاً بالنسبة لمنظورنا، يعطينا مؤشراً غريباً، أن ما ينخفض في جهة، يعلو في جهة أخرى..
فالرواية في العالم العربي الآن ضعيفة نسبياً مقارنة بإنجازات عالمية، كالروايات الآتية من أمريكا اللاتينية أو من اليابان، فهي لا تنافس الآن، فما بالنا الرواية العربية.
ولكن بوجهة نظر تفاؤلية فإننا نأمل أن تتبوأ القصة القصيرة مكانتها اللائقة بعد الرواية أو تنافسها، لأن من يكتب الرواية يستطيع أن يكتب القصة، والعكس، فالمسألة تكمن في الاختيار الشخصي، وفي الظروف الأخرى المهيئة للجنس الأدبي.
ويبقى “السرد هو ديوان العصر الحديث” شئنا أم أبينا، وكون الرواية سيدة فنون السرد، فستبقى متربعة على عرش كافة صنوف الإبداع.