استعرضنا في مقالاتنا السابقة مفهوم التوازن الفكري، وآليات التوازن الفكري، والعقل والوحي كطرق لإحداث نسبة بين التصورات، أما في مقالنا هذا نستعرض العناصر اللازمة لفهم الواقع، ويمكن القول إن فهم الواقع يحتاج:
أولاً: إلى الوعي بتاريخ المجتمع الفكري، وهو تاريخ تشترك في تكوينه لدى كل الأمم؛ جذورها العرقية، وبنيتها الاجتماعية، ومصادرها الدينية، ومراحلها الاقتصادية والسياسية في كل ما مر عليها من أعصار، وعدم استكمال ذلك في معرفة تاريخ الأمة الفكري، سيؤدي حتمًا إلى معرفة مشوهة بهذا التاريخ، وإلى استنتاج مغلوط للواقع الفكري.
ثانيًا: إلى تصور صحيح لما يحيط بالأمة من مخاطر؛ لأن المبالغة في تقدير الأخطار، إما أن توقع في اليأس والتشنج والاضطراب، وإما أن توقع في المبالغة في التعبئة لهذه الأخطار، وكلا الأمرين ينحّيان الفكر بعيدًا عن استيعاب الحقيقة والحكم بها.
ثالثًا: مما نحتاج إليه في فهم الواقع، معرفة حقيقة احتياجات الناس لتسيير شؤون حياتهم ومطالبهم الآنية وآمالهم وطموحاتهم المستقبلية، وعدم معرفة ذلك -على وجه الحقيقة- يمنع من تلبية المستقيم من هذه المطالب، كما يحول دون تصحيح المعوج منها ومعالجة أسباب الاعوجاج.
والذي أتصوره، هو أن هذه الأمور الثلاثة وما يتعلق بها، يُحكم عليها عند الأكثرين اعتمادًا على الانطباعات التي طريقها النظرة الفردية المعتمدة على التجارب الشخصية والرؤية الخاصة، مع أن المسلك الصحيح هو استخدام الأسلوب العلمي عن طرق البحث العلمي والتتبع الاستقرائي بكل ما يمكن من طرق صحيحة وعصرية للاستقراء.
وليس في المطالبة بفهم الواقع تضييع للنصوص أو تضييق عليها، بل إن في فهم الواقع تنزيلاً للنصوص في منازلها الصحيحة، وهذا هو حقيقة ما يغيظ أعداء نصوص الوحي أن يستخدم النص في موضعه المناسب له.
فالفقهاء قد اتخذوا العرف دليلاً، والعادة محكمة، وقالوا: تغير الفتوى بتغير الأمكنة والأزمان.
والعرف لا يستدل به إلا إذا كان عرفًا محكومًا عليه بالإباحة بمقتضى البراءة الأصلية، أو بنص خاص من الكتاب والسنة، وحين يحكم بإباحته فلا يستخرج منه على الوقائع حكم من الأحكام الخمسة المعروفة، بل يستخرج من العرف تقدير ما حكمت النصوص بإباحته، أو استحبابه، أو وجوبه، أو كراهته، أو تحريمه… كما حكم الشرع بلزوم النفقة على الوالد، وجعل تقدير المطلوب إنفاقه موكولاً للعرف، كما قال تعالى: (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللهُ لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا)(الطلاق:7). وأباح لمتولّي مال اليتيم أن يأكل منه، وترك تقدير ما يحل له للعرف، كما قال سبحانه: (وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللهِ حَسِيبًا((النساء:6).
وعلى ذلك أمثلة كثيرة في سائر أبواب الفقه، أما أن يكون العرف دليلاً ابتداء، فهذا ما لم يقل به أحد.
وكذلك العادة، لا تحل حرامًا ولا تحرم حلالاً، بل هي موضع لتنزُّل سائر الأحكام عليها، فإذا حكمنا بموجب النص بإباحتها، جعلناها حكمًا في فهم تصرفات المتعاقدين ونياتهم، كما لو ادعى أحدهم على زيد ألف ريال، وأقر زيد الألف وادعى أنها هبة بقرينة أن الرجل أعطاها إياه ليلة عرسه -ومن عادة الناس أن يعطوا مثل هذا المبلغ إعانة على العرس- فإننا نقبل دعوى زيد الهبة بقرينة العادة، وهذا بخلاف ما لو كان المبلغ المدعى به عشرين ألفًا، فإن زعم زيد أنها هبة، لا يُقبل؛ لأنه لا يجري في عوائد الناس هبة مثل هذا المبلغ ليلة العرس.
أما تغير الفتوى بتغير الأزمان والأمكنة، فذلك متعلق بالفتاوى التي مستندها العرف والعادة، على النحو الذي قدمت في المثالين السابقين، فإذا حكمنا على الزوج بنفقة زوجته ألف ريال في الشهر في هذه البلاد، فإننا نحكم بربع هذا المبلغ في بلد آخر، وإذا حكمنا بدفع العوض نقدًا في بلد، فقد نحكم بدفع العوض عينًا في بلد آخر تبعًا للعرف وعوائد الناس. فيبقى الحظ الأوفر والنصيب الأكمل في استنباط الأحكام، إلى النصوص المحكمة، كتابًا وسنة، وما ينبثق عنهما من أدلة كالإجماع والقياس.
وفي هذا الصدد أذكر مقاصد الشريعة، فقد كثر الحديث حولها في أيامنا هذه، وألفت فيها البحوث المطولات، لكن الذي ينتهي إليه الباحث المنصف، أن مقاصد الشارع لا يجوز اتخاذها دليلاً ابتداءً، بمعنى أنه لا يجوز للمفتي أن يحكم بإباحة أمر أو تحريمه وليس له سند إلا ظنه أن إباحة هذا الأمر أو تحريمه تلبي مقاصد الشارع من التشريع.
لأننا مع قولنا بأن أحكام الله تعالى معللة بالحكمة، فإننا لا نقطع بالحكمة إلا إذا كانت منصوصة، أما الحِكم المستنبطة فهي مضمونة أو موهومة مستندها التدبر المحض، أي أن مصدر القول بها هو العقل، ولا يجوز أن يكون العقل مصدرًا للأحكام مطلقًا.
نعم، نستفيد من علم المقاصد في تدبر أحكام الشريعة واستنباط الحكم منها كما نستفيد منها في الترجيح عند تعارض الأدلة في نفس المجتهد، لكن المقاصد وحدها ليست دليلاً حاكمًا؛ إذ هي ثابتة بالدليل، وما كان محتاجًا إلى دليل لا يكون دليلاً منفصلاً.
ويلتحق بذلك، القواعد الفقهية الكبرى كقاعدة “إذا ضاق الأمر اتسع”، و”المشقة تجلب التيسير”، فهي كلمات جامعة لمعاني عدد غير قليل من النصوص الشرعية، فهي بذلك أدلة باعتبار كونها جامعة لمعاني النصوص الشرعية. ومع ذلك لا يمكن أن يُستدل بها في مقابلة نص ذي دلالة خاصة، بل النصوص الخاصة مقدمة عليها، ويمكن استخدامها مع النصوص الخاصة كمعضدات لها، لا سيما إذا كانت دلالة النص الخاص غير قطعية، أو في مجال الترجيح عند الاختلاف وتعادل الأدلة.
ولا يبعد عن المقاصد والقواعد، المصالح المرسلة؛ فكل أمر محرم يريد أهل الهوى إباحته يلجأون إلى الحديث عن المصالح المرسلة يردّون بها النص، مع أن الأخذ بظني الدلالة من النصوص، أقوى من الأخذ بالمصالح المرسلة. وقد بلغ من ترويجهم هذا المصطلح لإباحة ما حرم الله تعالى، أن صار مصطلحًا رائجًا -حتى على ألسنة العامة- لكثرة ما يستخدم لموافقة الأهواء في جميع وسائل الإعلام، وفي كتابات بعض المتأثرين بهذا التوجه من المشتهرين بالعمل الإسلامي.
ومردّ الاغترار والاجتراء على المصالح المرسلة، هو عدم القراءة في كتب أصول الفقه التي اعتنت بتحرير مسألة الاستدلال بالمصالح المرسلة؛ لأن من تأمل في هذه الكتب، يعلم أن علماء الأمة قالوا بالمصلحة المرسلة لا لتكون وسيلة لضرب النصوص أو إباحة المحرمات وتحريم المباحات، بل هو قول مراد به حفظ النصوص. ويتجلى ذلك من تعريف العلماء للمصلحة المرسلة بأنها ما لم يرد من الشارع إلغاؤه أو اعتباره. هذا من حيث الإجمال، أما عند التحرير فإنهم يقولون إن المصلحة إما أن تكون متحققة أو مظنونة أو موهومة. وكذلك فإن الشارع لا يمكن أن يكون ترك أمرًا من الأمور دون اعتبار أو إلغاء؛ لأن اعتبار الشارع وإلغاءه إما أن يرد على جنس هذا الأمر أو نوعه أو عينه، ولا يمكن أن يخرج فعل بشري عن أن يتعلق به حكم الشارع بأحد هذه الوجوه، فإذا ثبت إلغاء الشارع لجنس أمر أو نوعه، فلا يمكن أن يكون معتبرًا إلا إذا نص الشارع على عينه. وكذلك إذا ثبت اعتبار الشارع لجنس أمر أو نوعه، فلا يمكن أن نلغيه إلا بنص على عينه. وبذلك نعلم أن الاستدلال بالمصالح المرسلة عند من يقول به، ليس استدلالاً منفصلاً عن النص، بل هو استدلال مقرب للنص ومبين له.
أما على قول من يردّ الاستدلال بالمصالح المرسلة -وهم جمهور العلماء- فيرون أن لا حاجة إلى استحداث دليل جديد، لا سيما والاستدلال به مبنيٌّ على فرضية وجود ما لم يرد من الشرع اعتباره أو إلغاؤه.
وبذلك يثبت أن المصلحة المرسلة سواء أقلنا بها أم رددناها، إنما هي شاهد على رعاية العلماء -رحمهم الله- للنصوص في جميع الأزمان، ولا يمكن استخدامه ذريعة لرد النصوص والعبث بالمحكمات تحت أي ذريعة.
وحين نقول إن كل ما يرِد على العباد من نوازل، لا بد أن نجد في الشرع ما يثبته أو يلغيه، فإننا نسير وفق ما تقدم الحديث عنه من ثبوت شمول الشريعة، بما يقطع الطريق أيضًا أمام من يحاول اتخاذ البراءة الأصلية دليلاً منفصلاً عن النصوص؛ ليتيح لهم فرصة الحكم بإباحة ما تزينه الأهواء سعيًا وراء “عصرنة” الدين.
وذلك أن البراءة الأصلية، أو الأصل في الأشياء الإباحةُ، إنما هي مقيدة بالمنافع؛ ولذلك عبر كثير من محققي أصول الفقه عن هذه القاعدة بقولهم: الأصل في المنافع الإباحة، وفي المضار التحريم. فإذا تبينا ذلك، عرفنا أن الحكم بإباحة أمر بناء على عدم دليل يحرمه، لا بد أن يُسبق بنظر آخر وهو تأمل هذا المحكوم عليه: هل هو من المنافع أم من المضار؟ فإذا تحقق كونه منفعة محضة، حكمنا بإباحته، وإن ثبت كونه مضرة محضة، قلنا بتحريمه، فإن تردَّد بين النفع والضرر، حكمنا للغالب منهما.
إذن فالقول بأن الأصل في الأشياء الإباحة، قول مقيد بالمنافع ولا يصح استخدامه هكذا مطلقًا؛ إذ من الأشياء ما يكون الأصل فيها التحريم لا الإباحة، وهي التي تعود بالضرر على النفس والمجتمع.
وحين نريد التعرف على المنافع والمضار، لا بد أن تكون نصوص الشرع هاديًا لنا في معرفة كُنْهِ الأشياء؛ إذ إن المنفعة والمضرة ليس قياسهما دنيويًّا محضًا فتتجرد العقول لتهتدي إليه، بل هو ديني أولاً، دنيوي ثانيًا. فلا بد للحكم بمنفعة أمر، من التحقق من كونه لا يعود على دين العبد بالضرر مطلقًا، فإن عاد على الدين بالضرر، فلا عبرة بما ينتج عنه من منافع دنيوية ولو كثرت. كما أننا نقطع بأن ما يعود بالنفع على دين العبد ويعود بالضرر على دنياه، لا وجود له مطلقًا، وإن توهمه العبد فليس حقيقة في نفس الأمر.
وما دمنا نتحدث عن الاستدلال الصحيح والفاسد، فلا يفوتنا الحديث عن الخلاف الفقهي، فهو في معزل عن كل شيء يعد قضية وحده؛ إذ نرى كثيرين من دعاة هذه الفكرة، يجعلون الخلاف في مسألة ما وحده مبررًا للتخيير بين الأقوال في حكمها، ويرون أن مناط الاختيار هو مناسبة الحكم المختار لظروف العصر وحاجة الناس إليه، ولا عبرة عندهم بمدى قرب القول المختار لديهم من النص أو بُعده عنه، فكون أحد العلماء قال بهذا القول يعد عندهم شافعًا لاعتماده إذا كان متناسبًا في زعمهم مع حاجات العصر ومتطلباته.
ومن المعلوم عند علماء الأصول، أن العامي لا يجوز له الترجيح بين أقوال المجتهدين، وإنما يجب عليه الرجوع إلى من يفتيه في مسألته. كما أنه لا يجوز له التنقل بين الأقوال تشهيًا، بل لا بد للمقلد من التحري فيمن يستفتيه، فإذا أفتاه فقد لزمته الفتوى.
وكذلك إذا اختلف المجتهدون، فليس للعامي أن يرجّح بين أقوالهم، وإنما يتحرى أقربهم للسنة، وآخذهم بالورع، وألهجهم بالأدلة من الكتاب والسنة فيسأله، وإنما الترجيح مهمة المجتهد المنتصب للفتوى، فإن واجبه أن ينظر في الأدلة ويرجح من الأقوال ما كانت أدلته أقوى سندًا أو دلالة، ولا بأس على المجتهد إن ترجح لديه خلاف قول الجمهور ما دام مستخدمًا لأدوات الترجيح الصحيحة التي نص عليها الأصوليون في مصنفاتهم، وأولها موافقة المنصوص عن الله ورسوله.
وكون قول من الأقوال أنسب للعصر وأيسر على الناس، لا يعد دليلاً قائمًا بذاته تقاوم به النصوص أو يرجح به بين أقوال أهل العلم، لكنه علامة يعرف بها المجتهد صحة مذهبه؛ إذ إن التيسير على الخلق والرفق بالعباد، من خصائص دين الإسلام، لكن لو صح الدليل في حكم لم نتعرف نحن على وجه كونه يسرًا ورفقًا على الناس، فليس هذا مانعًا من الامتثال للحكم، كما أن عدم معرفتنا بأوجه التيسير في هذا الحكم لا تعني عدم وجودها.
وأختتم بالقول: إن مما لا يحسن إغفاله من أسباب الاضطراب الفكري، أمراض النفوس من الهوى واتباع الشبهات والشهوات، والحسد، والحقد، والمنافسة على الدنيا، والرياء، والتحبب إلى الأتباع أو الرؤساء… فكل هذه الأمور وغيرها من أدواء النفوس، تحول دون تحري الحق.
(*) أستاذ في أصول الفقه، جامعة أم القرى / المملكة العربية السعودية.