مقاومة العدوى واستعادة شباب جهازك المناعي

(حراء أونلاين) اغسل يديك بعنايةٍ لعشرين ثانية، غطّ عطستك بمرفقك، تجنب ملامسة وجهك، ابقَ على مسافة مترٍ عن الآخرين، وكملجأ أخير ٍ، اعزل نفسك بعيداً عن الجميع لمدة أسبوعٍ مع ما تحتاج إليه من أغراض. وإذا أردت أن تتجنب فيروس كورونا المستجد، فكل هذه أفكارٌ جيدةٌ. لكن، في نهاية المطاف، خطُ الدفاع الذي يقف بينك وبين الإصابة بكوفيد 19 (Covid-19) هو جهازك المناعي.

نعلم أن الجهاز المناعي يَضْعُفُ عندما نتقدم في السن – وهذا أحد أهم الأسباب التي تفسر ارتفاع احتمال إصابة من هم فوق الـ 70 بالأمراض. ولكن الأمر الذي يزداد وضوحاً هو أن العمر مجرد رقمٍ بالنسبة إلى صحة الجهاز المناعي. فلدى البعض جهازٌ مناعي أكبر أو أصغر بكثيرٍ من عمرهم الحقيقي. ويقول شاي شين أور Shai Shen-Orr وهو مختصٌ بعلم المناعة في معهد تخنيون للتكنولوجيا– Technion Institute of Technology في هذا الصدد: “بعض الستينيين لديهم جهازٌ مناعيٌ وكأنهم أربعينيون، أما غيرهم فلديهم جهازٌ مناعيٌ كأنهم ثمانينيون”. لكنْ، هناك أخبارٌ جيدة: يمكن إعادة الشباب إلى الجهاز المناعي. فحتى بعد أن يزول خطر هذا الفيروس –عاجلاً أم آجلاً سيأتي فيروس آخر، وكلنا سنكون قد تقدمنا في السن.

اسأل أي شخصٍ درس علم المناعة وسيخبرك بالآتي: الجهاز المناعي معقد إلى درجةٍ تترك العقل حيراناً. ويقول شين أور واصفاً إياه: “إنه ثاني أعقد نظامٍ في جسمك بعد الدماغ”. ويتألف من مئات الأنواع من الخلايا وجزيئات الإشارة Signalling molecules، التي يَتَحَكَمُ فيها نحو 8000 جين Gene، وتتفاعل كلها في شبكةٍ متناهية التعقيد.

الأخبار الجيدة هو أنه ليس عليك أن تعرف كل هذه التفاعلات لتستفيد من آخر التطورات في علم المناعة – إلا أن بعض المعرفة قد تفيدك (انظر: لمحةٌ عن المناعة).

إذا كان عمرك أقل من 60، في صحةٍ جيدة وليس لديك الكثير من العادات السيئة، فجهازك المناعي حينها يعمل بشكلٍ جيدٍ بما فيه الكفاية ليبقيك في مأمنٍ عن معظم الأمراض المعدية، بما فيها فيروس الكورونا.

أما الأخبار السيئة؛ فهي أن جهازنا المناعي يتدهور كلما تقدمنا في السن. وتقول جانيت لورد Janet Lord من جامعة بيرمينغهام University of Birmingham في المملكة المتحدة إن “شيخوخة المناعة” Immunosenescence تبدأ التأثير في الناس في سن الـ 60. وكلما تقدم الإنسان في العمر، ضَعُفَ جهازه المناعي أكثر، وصار في خطرٍ أكبر للإصابة الشديدة بالمرض والوفاة نتيجة ذلك.

فخلال موسم الإنفلونزا الشتوية المعتاد على سبيل المثال، قلّةٌ ممن هم دون الـ 65 يمرضون إلى الدرجة التي تجبرهم على دخول المستشفى. ونحو 20% من المصابين بين 65 إلى 74 يضطرون إلى دخول المستشفى، إلا أن نزراً يسيراً منهم يُتَوفى. أما من هم فوق الـ 75، فإن نصف مَن يُصاب بالإنفلونزا ينتهي به المطاف في المستشفى، ونحو 30 إلى 40% منهم يموتون. ومعظم من يُشفى لا يتعافى بشكلٍ كامل. وحسب قول لورد، فإن نِسَبَ الدخول إلى المستشفى ونِسَبَ الوفياتٍ مشابهةٍ لهذه تُشاهد جراء الإصابة بفيروس كورونا. وكما هي الحال في الإنفلونزا، فإن غالبية الاختلاف بين الناس يرجع إلى شيخوخة المناعة.

وقد تبدو شيخوخة المناعة بالنسبة إلى الكثيرين خطراً هُم في مأمن منه، إلا أنها شيء يجب أن يهمنا جميعاً. والمفاجئ في الأمر أن تدهور صحة الجهاز المناعي يبدأ مبكرًا جداً في حياتنا، خلال البلوغ، وقد تُسَرَّعُ وتيرة التراجع بكل العوامل الموجودة في أنماط الحياة المختلفة. فهناك احتمالٌ أعلى أن يكون عمر الجهاز المناعي أكبر من العمر الزمني عند المدخنين والبدينين على وجه الخصوص. ونمط الحياة الخالي من النشاط عامل خطرٍ آخر.

قاد هذا إلى مفهومٍ جديدٍ يُسمى العمر المناعي Immune age. وهو مشابهٌ لمفهوم العمر البيولوجي Biological age، وهذا الأخيرُ يَستخدمُ واسمات كيميائيةً Chemical tags مميزةً تُضاف إلى الجينات بشكلٍ مستمر ليقيس كم سار شخصٌ ما في طريق الشيخوخة، بغض النظر عن عمره الزمني المُقاس بالسنوات. وغالباً ما يكون العمر البيولوجي والزمني متماثلين، إلا أن أحدهما قد يزيد أو ينقص عن الآخر بما يصل إلى 20 عاماً. وعلى عكس العمر الزمني، يمكن للعمر البيولوجي أن يزيد أو ينقص كنتيجةٍ لتغيراتٍ مقصودةٍ في نمط الحياة. وكلا هذين الأمرين ينطبق على العمر المناعي.

ويمكن جني العديد من الفوائد من طريقة التفكير هذه. فمعرفة عمرنا المناعي قد يساعد الأطباء على تقدير احتمال إصابتنا بالأمراض. وقد يساعدنا جميعاً على صيانة وتقوية جهازنا المناعي. فعلى سبيل المثال، يمكن استعمال هذه الطريقة لتقييم استراتيجيات تقوية المناعة. هل تؤثر هذه الاستراتيجيات في العمر المناعي؟ إذا لم تكن كذلك، فراجعها مرةً أخرى.

وحتى فترةٍ قريبةٍ من الوقت، كان مستحيلاً أن تقيس العمر المناعي. أما في العام الماضي  (2019)، فقد تمكن فريقٌ بقيادة شين أور ومارك دافيس Mark Davis ، من جامعة ستانفورد Stanford University في كاليفورينا، من اكتشاف طريقةٍ لقياس ذلك. واستخدم الباحثون مقاربةً “متعددة الاختصاصات”  “Multiomics” approach ، إذ درسوا جينوم Genome الأشخاص، والجهاز المناعي، ووظائف البروتينات، وفحصوا الجهاز المناعي لـ 135 شخصاً ينتمون إلى فئتين عمريتين، الأولى بين 21 إلى 31، والثانية بين 60 إلى 96. ومن ثَمّ، أعادوا القياسات عدة مراتٍ خلال تسعة أعوام. فاكتشفوا أن الجهاز المناعي البشري يتبع مساراً يمكن توقعه. ويقول شين أور في هذا الصدد: “بإمكاننا أن نعطيك رقماً يخبرك أي أنت على هذا المسار”. ويضيف قائلًا: “وهذا عامل تنبؤٍ جيدٍ لكل أسباب الوفاة”.

قياس العمر المناعي أمرٌ حديثٌ نسبياً ولا يوجد اختبارٌ مناسبٌ متوفرٌ على نطاقٍ واسع، إلا أن الفريق يعمل في هذا الاتجاه. وحاليًّا، فإن أفضل الطرق لتقدير عمرك هو قياس العمر البيولوجي، لأن الاثنين مرتبطان ببعضهما إلى حدٍ ما.

وبغض النظرعن هذا، لست بحاجةٍ إلى معرفة عمرك المناعي لتتخذ خطواتٍ تجعله أصغر. ويبدو أن الفضل فيما تفعله معظم الأدوية والاستراتيجيات المضادة للشيخوخة يرجع، حتى وإن جزئياً، إلى إيقاف أو حتى عكس شيخوخة المناعة.

وعند الحديث عن المحافظة على جهازنا المناعي شاباً، يجب الانتباه للأمر التالي: عندما نتقدم بالسن، تسيء بعض الخلايا المناعية التصرف. وهذه المشكلة أكبر في نوعٍ من الخلايا المناعية تُعرف بالنيتروفيلات (العَدِلات)  Neutrophils وهي شائعة في الدم. وتشكل النيتروفيلات جزءاً من الجهاز المناعي الفطري، خط الدفاع الأول ضد العدوى، وهي كتيبة حرس الحدود في الجهاز المناعي، تجول في الدم دون مللٍ أو كلل بحثاً عن البكتيريا الضارة. وعندما تكتشف دخيلاً، تخرج من الأوعية الدموية باتجاه الهدف، وتتخلص منه بواحدةٍ من ثلاث طرق: تبتلعه وكأنها الوحش في لعبة باكمان Pac-Man، أو ترشه بالمواد الكيميائية، أو تنتحر وترمي بحمضها النووي DNA كشبكةٍ تحيط بالغازي.

العملية التي تشق بها هذه الخلايا طريقها إلى الأنسجة تُسمى الجذب الكيميائي Chemotaxis، وتُصاب هذه العملية بالتشويش بشدةٍ كلما تقدمنا في العمر. صحيحٌ أن النيتروفيلات الهَرِمة قادرةٌ على التعرف على الغزاة، إلا أنها أبطأ في اصطيادها، وغالباً ما تتخبط على غير هدىً في الأنسجة أو تشن هجوماً على الجبهة الخاطئة. وتصفهم لورد قائلةً: ” ما أقوله دائماً هو أنها خسرت جهاز الملاحة”.

وهذا يقود إلى المشكلات لسببين. تنخفض فعالية وسرعة الدفاع، مما يعطي الغزاة وقتاً أطول لتشكيل موطئ قدمٍ في الجسم. فضلاً عن إحداث الالتهاب Inflammation. فقد وجدت لورد أن النيتروفيلات المتخبطة تسبب ما بين ضعفين إلى خمسة أضعافٍ من الضرر مقارنةً بأقرانها التي لم تضل طريقها. فتقود النيران الصديقة إلى الشيخوخة المُسَبَبَةِ بالالتهاب Inflammaging المتمثلة بالتهاب عامٍ منخفض الدرجة ينتشر في الجسم عندما يكبر في السن.

لكن يمكن إعادة ضبط جهاز الملاحة الخاص بالنيتروفيلات. وأصل المشكلة إنزيمٌ ذو دورٍ في توجيه حركة النيتروفيلات، يُفَعَّلُ بشكلٍ مفرطٍ. ولذا تَتَبعتْ لورد بعض الأدوية الواعدة التي يُعْرَفُ أنها تُثَبِطُ عمل هذا الإنزيم. وعندما أعطت أحد هذه الأدوية لبالغين كبارٍ في السن، وجدت أنه أعاد ضبط جهاز الملاحة. وعلّقت على ذلك: “لقد استعادت النيتروفيلات شبابها، وباتت تتحرك وكأنها عَدِلات شخصٍ شاب”.

ما هي هذه الأدوية المعجزة؟ ستاتين Statin، خافض الكوليسترول التقليدي الذي يتعاطاه ملايين الناس.

وبالاستفادة من قاعدة بيانات مرضىً حقيقية من مستشفى الملكة إليزابيث Queen Elizabeth hospital التابع لجامعة بيرمينغهام University of Birmingham ، وجدت لورد أن فرص وفاة من يُقْبَلُ في المستشفى لعلاج الالتهاب الرئوي (ذات الرئة) Pneumonia أقل في حال كان يأخذ الستاتين لتخفيض الكوليسترول. وقد أُثْبِتَتْ هذه النتيجة المذهلة في تجربةٍ إكلينيكية صغيرة. وتقول لورد إنه من الباكر نصح الجميع بأخذ الستاتين لتقوية جهازهم المناعي، وفريقها يجري تجربةً إكلينيكية أكبر. وقد تكون لهذا الدواء أعراضٌ جانبيةٌ خطرة. أما في هذا الوقت، وما إن يستعيد نظامك الصحي المحلي قدرته، فسيكون من الجيد أن تفحص مستوى الكوليسترول في جسمك.

على أي حال، هناك طريقةٌ لتعيد الشباب إلى خلاياك العدلة دون الحاجة إلى الأدوية: التمارين. وفي عام 2016  قاست لورد وفريقها مستوى التمرين وهجرة النيتروفيلات في 211 بالغاً. وقالت عن النتيجة: “من كان يمشي عشرة آلاف خطوةٍ في المتوسط كانت العدلات في أجسامهم جيدةً كأنهم شباب”. وأكّدت أن النيتروفيلات ليست مضادةً للفيروسات، لذا لن تحميك من الإصابة بفيروس كورونا أو تساعدك على القضاء عليه، لكنها ستقيك من الخطر الحقيقي، الإصابة بالتهاب الرئة. وتقول: “ما يودي بحياة الناس في هذه العدوى [الفيروسية] هو العدوى الثانوية”.

فيتاميناتٌ مهمة 

الخلايا التائية هي صنفٌ آخر من الخلايا التي قد تخطئ إصابة الهدف. وهي ذات أهميةٍ محوريةٍ في استجابة الجهاز المناعي التكيفي، وهو القسم المناعي الأكثر دقةً في الهجوم، لكن شيخوخة المناعة تفقدها قوتها بطريقتين. كما هي الحال في النيتروفيلات، تضطرب مسارات نقل الإشارة الداخلية Internal signaling pathways فيها، وتُثَبَّطُ أيضاً بالشيخوخة المُسَبَبَةِ بالالتهاب. وقد تكون هناك طريقةٌ بسيطةٌ لإصلاح العطب. ووفقًا لقول دايونغ وو Dayong Wu، وهو مختصٌ بعلم التغذية المناعي من جامعة تافتس Tufts University في بوسطن، الإجابة هي الفيتامين إي Vitamin E.

عُلِم لوقتٍ طويلٍ أن الفيتامين E يحسن الجهاز المناعي في الدراسات التي أجريت على حيوانات التجارب، إلا أن الدراسات في البشر أشارت إلى أن سمية مكملات الفيتامين E تطغى على أهمية هذه النتائج. لكن وو يشير إلى أن هذا الأمر لم يعد مهمًا حاليّا: فالسمية لا تظهر إلا عند الوصول إلى ضعفي الجرعة المطلوبة لإعادة الشباب إلى الخلايا التائية. اختبر وو وزملاؤه الفيتامين E على أشخاصٍ مسنين – في دار رعاية يؤوي 670 مسنًّا، أعطوا نصفهم جرعاتٍ يوميةً صغيرةً من الفيتامين وقدموا إلى النصف الآخر دواء غفلًا (وهميًا) Placebo -ووجدوا اختلافاً كبيراً في معدل الإصابة بعداوى المسار التنفسي العلوي Upper respiratory infections بين المجموعتين. وهناك دراسةٌ أكبر يُخَطَطُ لها، لكن الدليل قويٌّ بما يكفي ليحفز وو على نصح الناس فوق الـ 65 بتناول 200 وحدةٍ دولية International unit (اختصاراً: الوحدة IU) من فيتامين E. ويقول عن ذلك: “قد يساعد على عمل الجهاز المناعي، ولا يضر”.

أما الفيتامين D؛ فيبدو أنه يؤدي الأمر ذاته مع الجهاز المناعي الفطري، خاصةً عند أولئك الذين يعيشون في المناطق البعيدة عن خط الاستواء، فهناك لا تكفي أشعة شمس الشتاء لمساعدة الجلد على تصنيع الفيتامين. وفي عام 2017  في مراجعةٍ للأدلة التي تخص تناول مكملات الفيتامينD  استُنْتِجَ أنه يمنع الإصابة بعداوى المسار التنفسي العلوي. وما بين 1000 إلى 2000 IU يجب أن تكون كافيةً وآمنة حسب قول وو، لكن لا يجب تناول أكثر من ذلك لأن الجرعات العالية قد تُثَبِطُ عمل الخلايا التائية.

هناك أدلةٌ قويةٌ تدعم مكملاً ثالثاً بإمكانه تحسين جهاز المناعة هو الزنك Zinc. ويقول وو عنه: “إنه عالي الفعالية في مقاومة العداوى الفيروسية”. ولكنه يحذّرُ في الوقت ذاته: “يجب أخذ الحيطة، فالمجال العلاجي الآمن ضيق، وفرط الجرعة قد يُثَبِطُ الجهاز المناعي”.

وإنْ نَحّينا الخلايا التي تسيء التصرف جانباً، فيمكننا الحصول على دليلٍ قويٍ يخص تراجع الجهاز المناعي نتيجة التقدم بالعمر من عضوٍ أساسيٍ لكن غير مشهور يُسمى الثيموس Thymus، موجودٍ (أو كان موجوداً) تحت عظم القص. إنه رقعة نسيجٍ لمفاويٍ  تشبه في شكلها القلب، وهو المكان الذي تنضج فيه الخلايا التائية قبل أن تنطلق في الدم لأداء واجبها. هذا العضو عالي الفعالية في مرحلة الطفولة، إلا أنه يتراجع مع التقدم بالعمر، فيصغر بمقدار 3%كل عامٍ ابتداءً من سن البلوغ. وفي نهاية أواسط العمر لا يتبقى منه سوى بضع قطعٍ صغيرة، ويتراجع عدد الخلايا التائية.

ولهذا الأمر تبعاته على محاربة الكائنات الممرضة الجديدة التي تغزو الجسم. ففي كبار السن الذين بالكاد يمتلكون بقايا من الثيموس، يكون الجهاز المناعي التكيفي متراجعاً بشدة، تاركاً جانب من الجهاز المناعي مكشوفًا بشكلٍ كاملٍ للأعداء.

حَسِّنْها

يُشَكِلُ تجديد الثيموس مجالاً نشطاً لأبحاث الاستراتيجيات المضادة للشيخوخة. وقد حاول بعض الناس تجديد الثيموس باستخدام هرمون النمو Growth hormone. غير أن هناك تداخلاتٍ غير دوائية. عام 2018، نشرت لورد وزملاؤها دراسةً شملت 125 درّاجٍ هاوٍ تتراوح أعمارهم بين 55 و79. ومعظمهم كان يقود الدراجة لمسافاتٍ طويلةٍ على مدار عقود. فليس مفاجئًا، إذاً، أن يكون هؤلاء أنحف، أكثر لياقةً، وأقوى من المتوسط ، لكنهم إضافة إلى ذلك امتلكوا جهازاً مناعياً أفضل. وتعداد خلاياهم التائية كان مشابهاً للتعداد الموجود في أناسٍ أصغر منهم بكثير، وكان الثيموس في أجسامهم أكثر شباباً. وتُعلّق لورد على ذلك: “يعود تراجع الثيموس في قسمٍ كبيرٍ منه إلى انخفاض النشاط الجسدي”. وتقترح التجارب على الحيوانات بقوةٍ أن النشاط ربما لا يمنع تراجع الثيموس فقط، بل يعكسه كذلك، إلا أن هذا لم يُثبَت بعد في البشر.

وللتمرين فوائد أخرى في تقوية المناعة كذلك. وتقول لورد عن ذلك، وهي شخصياً تركض كل يوم: “العضلات الهيكلية الفعالة مضادُة للتهابٍ ومحفزة لخلايا المايكروفاج (البلاعم)”. وتضيف قائلة: “العضلات الهيكلية نسيجٌ مُنَظِمٌ للمناعة، والمحافظة على نشاطها بالتمارين سينعكس بالتأكيد إيجاباً على الصحة. التمرين يفيد جميع الفئات العمرية”. وعندما سُئِلَت عن أفضل شيءٍ تنصح به لتقوية الجهاز المناعي قالت: ” زد الخطوات التي تخطوها إلى 10,000 في اليوم”. وفي مواجهة فيروس الكورونا صار أهم من أي وقتٍ مضى أن نجد طرقاً نحافظ بها على نشاطنا – حتى في حالة الحجز Lockdown أو الحجر الصحي Isolation، والذي لن يكون بالتأكيد أمراً سهلاً.

ما نأكله يؤثر أيضاً في الجهاز المناعي – وقد حان الوقت لنلقي نظرةً على الكائنات الدقيقة في الأمعاء Gut flora. وهناك أدلةٌ قويةٌ تقول إن هذه البكتريا الموجودة في أجسامنا بإمكانها تحسين الجهاز المناعي، وأن الحالة الصحية المتدنية للأمعاء سببٌ للشيخوخة الباكرة، والحالة الصحية الجيدة للمايكروبيوم (النبيت البكتيري) Microbiome في الأمعاء قد تُنْقِصَ عمر الجهاز المناعي. وفي بحثٍ لم يُنشر بعدُ درست لورد وفريقها مرضى يعانون الإسهال نتيجة إصابتهم ببكتيريا اسمها Clostridioides difficile. وكان عمرهم المناعي أكبر بكثيرٍ من المتوقع، فقد تجاوزَ عمرَهُم الزمني بـ 10 إلى 20 عاماً.  وبعد أن خضعوا لعملية نقلٍ براز Faecal transplant من شبابٍ أصحاء، انخفض عمرهم المناعي بشكلٍ كبير. وقالت عن ذلك: “كان الانخفاض مذهلاً، ولم يستغرق سوى بضعة أسابيع حرفياً”.

ربما لا تريد أن تجرب ما ذكرناه في المنزل. ولكن هناك الكثير مما يمكنك إجراءه لتحافظ على كائنات دقيقة قوية، كالأكل الصحي، الغذاء المتنوع الغني بالألياف، المواد النباتية والطعام المُخَمَّرِ كالكيمتشي Kimchi. وهناك بعض التغييرات الأخرى التي يمكن إدخالها على نمط الغذاء كالصيام، وهو مدعومٌ بأدلةٍ قويةٍ (انظر: حمية معززة للمناعة).

لا بد من التضحية بشيءٍ لتحقيق الهدف المرجو من هذه التداخلات. ولكن إذا كنت تريد أن تبقى حياً وبصحةً جيدةً لأطول فترةٍ ممكنة، فإنّ اتخاذ قرار الاعتناء بصحة جهازك المناعي لا يحتاج إلى الكثير من التفكير، خاصةً أن فيروس كورونا يُعتبر الآن أكبر خطرٍ يهدد الصحة العامة منذ إنفلونزا عام 1918. ويقول شين أور: “عمر جهازك المناعي هو عاملٌ حاسمٌ في العمر الذي ستعيشه”. ويختتم: “فكر بما يجب على الجهاز فعله”.

حمية معززة للمناعة

إن إحدى أنجح الاستراتيجيات المُكْتَشَفَة المضادة للشيخوخة على الإطلاق هي تحديد السعرات الحرارية المتناولة. وتتطلب هذه الاستراتيجية تقليلاً دائماً في كمية الطاقة المتناولة بمقدار 60%. وقد استفاد منها كل حيوان تجارب خضع لهذه الاستراتيجية، ابتداءً من ذبابة الفاكهة وانتهاءً بالرئيسيات، إذ زادت فترة حياته وفترة صحته، وهي عدد السنوات الخالية من الأمراض في نهاية الحياة.  وهذه الاستراتيجية تنجح لأنها تُفَعِّلُ تكيفا تطورياً Evolutionary adaptation  في مواجهة الجوع، تُعطى أولويةٍ أعلى للسبل الكيميائية المسؤولة عن إصلاح الأضرار والنجاة عوضاً عن تلك المسؤولة عن النمو والتكاثر. فالحيوانات التي تُقَلَّلُ السعرات الحرارية التي تستهلكها تصبح أنحف، أكثر لياقةً، وأفضل صحةً من الناحية الاستقلابية (الأيضية)، وأَحَدَّ ذهناً من الحيوانات التي تأكل متى أرادت. ولدى هذه الحيوانات جهاز مناعةٍ أقوى كذلك. للأسف، فالالتزام الطوعي بتحديد السعرات الحرارية أمرٌ في صعب جدّا. ولكن هناك طرقًا تحاكيها دون الحاجة إلى اتخاذ التجويع طويل الأمد كنمط حمية. ومفتاح الأمر يتمثل بإيقاف تفعيل مسار مختصٍ بِتَحَسُسِ وجود الأغذية موجودٍ في الخلايا يُسمى المسار m-TOR. وعندما تنخفض السعرات، يتوقف هذا السبيل، فتتفعل عمليةٌ استقلابيةٌ تحوّل النظام في الخلية إلى وضع المجاعة. ويمكن التأثير في هذا النظام بأدويةٍ مثل مثبطات إم-تور، وأشيعُها الرابامايسين Rapamycin. والدليل الأقوى الذي يقول إن تحديد السعرات الحرارية يقوي المناعة يأتي من تجربةٍ إكلينيكية أجرتها شركة التكنولوجيا البيولوجية ريس توربيو resTORbio في ماساتشوستس. وكان أحد أهدافِ أبحاثها الشيخوخةُ المناعية التي تعني تراجع كفاءة جهازنا المناعي تدريجياً مع تقدمنا في العمر. وفي عام 2019 أجرت الشركة تجربةً مضبوطةً بالدواء الغفل على دواءٍ مثبطٍ المسار m-TOR يُشبه الرابامايسين على مجموعةٍ من الأشخاص فوق الـ 65، تلقى هؤلاء جرعةً من هذا الدواء قبيل لقاح الإنفلونزا. وأظهر من حصل على الدواء استجابةً أعلى للقاح وازدياداً طفيفاً في التعبير الجيني المضاد للفيروس. وقال جوان مانيك Joan Mannick، الرئيس التنفيذي الطبي للشركة: “من الواضح أن بعض جوانب عمل الجهاز المناعي تتحسن”. ولكن الدواء فشل في المرحلة الثالثة من التجارب الإكلينيكية لأسبابٍ غير معروفة. غير أنّ مانيك –وباحثين آخرين غير مشاركين في التجربة- أشاروا إلى أن المبدأ القائل بإمكانية علاج شيخوخة المناعة بمثبطات المسار m-TOR  لا يزال قائماً.

المصدر: موقع العلوم.

بقلم:    غرايام لاوتون

ترجمة: محمد الرفاعي