إننا اليوم أمة لا بد لها من اليقين بأن واقعها يجب أن يكون امتدادًا لماضيها في قيمها ومثلها ومقوماتها، وأن غدها يجب أن يكون وليدًا لحاضرها المرتبط بماضيها، وإذا كان قدر الله العادل قد ألقى على هذه الأمة دروسًا صارمة من دروس الابتلاء والنكبات، وعرّضها لمواقف عصيبة من مواقف التمحيص بالشدائد؛ فقد استبان لها أنه لا يصلح حاضرها إلا بما صلح به ماضيها المشرق، من استمساك بعروة الإيمان الوثقى، وتدرع بدرع اليقين، والاعتصام بحبل الله المتين.

الواقع أكثر المجالات إيقاظًا للعقل

إن أكثر المجالات إيقاظًا للعقل ودفعًا له للتأمل والفهم وكشف العلاقات التي تربط مختلف الظواهر الاجتماعية وهو الواقع وما يحدث فيه من تحولات وتقلبات على صعيد الطبيعة والنفس والمجتمع.

فإلى هذا التأمل والدرس تعود الاكتشافات العلمية وما تولد عنها من تطور تقني هائل، وإلى هذا التأمل في الواقع تعزى الثورات الاجتماعية الكبرى التي حدثت في التاريخ.. والمسلم اليوم مدعو إلى تفهم واقعه من أجل تغييره والارتقاء به إلى المثل الإسلامية الصحيحة، وبالمقابل جعل الله تعطيل العقل عن وظيفته والحواس عن إدراك واقعها، يهبط بالإنسان إلى مستوى أقل من مستوى الحيوان.

وليست الحضارة الإسلامية وهي من أكبر التحولات في التاريخ البشرية، إلا ثمرة للرجة العنيفة التي أيقظ بها القرآن العقول من غفوتها، ودفعها للتأمل في واقعها وما فيه من تقلبات كبرى على صعيد الطبيعة والمجتمع. وإذا كان الشأن في الإسلام أن يعمر الحياة بمعانيه ويغمرها بصوره وألا ينفك كذلك مواكبًا لتطورها، فقد أصبح نصيبنا اليوم من الإسلام تدينًا تقليديًّا متأخرًا عن تقدم حركة الحياة في الاعتقاد والفكر والعمل.

وكان الانحطاط نتيجة منطقية لانقطاع التفاعل بين العقل المسلم والواقع بتقلباته المختلفة، وتحولت دعوة القرآن للملاحظة والتأمل والتفاعل مع الواقع للسيطرة عليه إلى ورد مكرر يجتر في حلقات الذكر، أو وسيلة في يد المتسلطين لتخدير العقل، ومع حركة الانحطاط المضطرد التي لازمتنا دهرًا طويلاً أصبحنا نرى أرض الإسلام تنقص من أطرافها، ومظاهره تتلاشى وخيره يتضاءل وتحيط به الشرور المقتحمة.. وكانت علة ذلك وعاقبته مواقف في العقيدة قنوعة غير طموحة، تجنح للمحافظة وتخاف من المخاطر والمكاره وتؤثر الفرار والنجاة.

والفكر الإسلامي الذي أنتجته هذه المواقف العقيدية، فكر يدبر عن واقعه الحاضر، ويتشبث بتراث الفكر الذي نشأ عن واقع سالف، وذلك من فرط تعلقه بالماضي وارتيابه بالحاضر وخوفه من المستقبل. فحين يؤخذ فكر كان ثمرة تفاعل مع واقع معين مأخذًا مطلقًا وينقطع عن إطاره الواقعي، يصبح تراثًا مجردًا تنسد طرق الاجتهاد فيه والتجديد، لأن التفاعل مع الواقع الحي، هو الذي يعرض الفكر لتحديات الظروف المتجددة كل يوم، ويستفزه إلى أن يستجيب لها فيتجدد وينمو اضطرادًا.

الواقع مجال التدين الحي

حين انقطع فكرنا عن الواقع وهو مجال التدين الحي، حرم من كل مدد يصله بأصول الحياة، وغدا محفوظات نقلية منفصلة عن علوم الواقع الطبيعي والبشري التي تدركها الحواس ويعيها العقل. وكما كلفنا الله بحفظ العلم النقلي الشرعي الذي يحتوي الوحي المنزل من الله والسنة النبوية وواقع التدين في عهد النبوة، فقد كلفنا أيضًا بالتماس العلم الوضعي الواقعي، وأنذرنا أننا مسئولون عن كسب السمع والبصر والفؤاد، لكن الشقة تباعدت في تاريخ المسلمين بين هذين العلمين -النقلي والوضعي- وتعطل العلم الذي نكسبه حسًّا وعقلاً من آيات الله سبحانه المبثوثة في الكون، وانفصل عن العلم النقلي الكتاب والسنة، والأصل أن يتحدا ويسخرا لعبادة الله. فلا يتم فهم الوحي ولا تحقيق مقتضياته بغير علم حي عقلي واقعي، ولا يهتدي علم عقلي بدون علم الوحي. فبانقطاع العلم النقلي عن التفاعل الحي مع الواقع، تلاشت طبيعته الدينية الأصولية، لأن مجال التدين الحي هو الواقع والتفاعل بأصول التدين مع ابتلاءات الحياة وظروفها المتغيرة.

ضرورة تفاعل الفقه الإسلامي مع الواقع

إن رسالة الإسلام واقعية مع الإنسان في مختلف مواقفه الزمانية والمكانية والحضارية، والشأن في الفقه السياسي والاجتماعي والاقتصادي خاصة، أن ينشأ في مجابهة التحديات العملية لذلك الواقع.

وإن حركة الإسلام منذ أن تجاوزت العموميات النظرية التي طرحتها لأول عهد النبوة، ومنذ أن تقدمت إلى قضايا أكثر مساسًا بالواقع وأقرب إلى تناول الفروع والأحكام، أصبحت مدعوة إلى أن تعالج مسائل الفقه المفصل، وأصبح مسيرها لا يتقدم إلا بالتفقه الأدق بمقتضى دين الله عز وجل في مجتمعنا المعاصر. فالناس اليوم غدوا يطلبون من الدعاة بأن يوافوهم بالمناهج العملية لحكم المجتمع وإدارة اقتصاده وتنظيم حياته العامة، لهداية سلوك الفرد المسلم في ذلك المجتمع الحديث.

ولدى هذه المرحلة في الدعوة، أن الفقه الذي بين يدي الدعاة مهما تفنن حملته بالاستنتاجات والاستخراجات، ومهما دققوا في الحواشي والمراجعات، لن يكون كافيًا لحاجات الدعوة وتطلع المخاطبين بها، ذلك لأن منهج أصول الفقه الذي ورثناه بطبيعة نشأته، بعيدًا عن واقع الحياة العامة، وبتأثره بالمنطق الصوري وبالنزعة الإسلامية المحافظة والميالة نحو الضبط والتي جعلته ضيقًا، لا يفي بحاجاتنا اليوم، ولا يستوعب حركة الحياة المعاصرة.

فليست صورة التدين ولا مشكلاته التي عاشها الرعيل الأول هي صورة الإسلام الوحيدة ولا الجامدة، فالتحديات التي تطرحها أقدار الله في حاجات الناس وعلاقاتهم ومشكلاتهم تتجدد أبدًا، ولا بد أن تتبدل تبعًا لها صورة الحياة الإسلامية التي تستكمل استجابة المسلمين لتلك التحديات، انطلاقًا من أصول اعتقادهم ومعايير شرعهم الواحد.

ثم إن العلم البشري قد اتسع اتساعًا كبيرًا، وكان الفقه القديم مؤسسًا على علم محدود بطبائع الأشياء، وحقائق الكون وقوانين الاجتماع، مما كان متاحًا للمسلمين في زمن نشأة الفقه وازدهاره، أما العلم النقلي الذي كان متاحًا في ذلك الواقع فقد كان محدودًا أيضًا مع عسر في وسائل الاطلاع، وبالبحث والنشر، وبينما تزايد المتداول في العلوم العقلية والنقلية بأقدار عظيمة، أصبح لزامًا علينا أن نقف في فقه الإسلام وقفة جديدة لتسخر العلم كله لعبادة الله عز وجل، ولعقد تركيب جديد يوحد ما بين علوم النقل التي نتلقاها كتابة ورواية، قرآنًا وسنة، وبين علوم العقل التي تتجدد كل يوم وتتكامل بالتجربة والنظر.

ارتباط الواقع الفكري بالحياة

لا شك أن الفكرة ركيزة هامة في حياة الشعوب، ودليل على حيويتها وتقدمها أو على جمودها وتخلفها، وفي ميدانه تحسم نتائج مختلف أشكال الصراع، فمن ينتصر بأفكاره يضمن لنفسه الانتصار في مجال السياسة والاقتصاد وكل المجالات الحياتية الأخرى. وإن جمود الفكر وانطفاء تفاعله مع الواقع، يؤدي إلى جمود الحياة في كل مناحيها.

إن الجنوح إلى السكون وانفصال الفكر عن الحركة مع الكون والحياة، هو علة تخلفنا السياسي والاقتصادي، “إذ إن مجتمعنا أصبح يعاني في قيادته، أزمة أخلاقية وفكرية تجعله بصفة عامة لا يحقق للأفكار ثبوت حصانتها وفعاليتها فيه، حتى إنها تكون معرضة للدس إما لضعف أخلاقي يحيط بها، وإما لضعف فكري يخذلها.. غير أننا إذ ما فحصنا هذه الحالة على ضوء تجربة طويلة، فسوف نجد أن الضعف الفكري هو أقوى العوامل تأييدًا ومساعدة لمساعي الاستعمار في جبهة الصراع الفكري”. وبالمقابل يكون النجاح الفكري وسيلة للقضاء على النفوذ والسيطرة الاستعمارية، ولكن بشرط أن يكون الفكر انعكاسًا لقيم الواقع وتعبيرًا عن تواصل حضارة المجتمع السابقة.

وفي الواقع العربي والإسلامي يشكل الفكر الإسلامي بروحه القرآنية الفعالة، وبثوابت القواعد التشريعية المنزلة فيه، وبأحكامه العامة المرنة التي تتجاوز حدود الزمان والمكان، يشكل هذ الفكر الإسلامي منهج المفكر العربي المسلم في تعامله مع الواقع، كما يشمل الفكر الإسلامي التجربة الحضارية التي تركت بصماتها على المستوى العالمي الشامل. واليوم حتى يتحقق التحرر والنهوض، لا بد من حل مشكلة الأفكار وربطها وتفاعلها مع الواقع، وذلك “بأن نستعيد أصالتنا الفكرية واستقلالنا في ميدان الأفكار، حتى نحقق بذلك استقلالنا الاقتصادي والسياسي”.

فهم الواقع من مقومات العمل التغييري

إن مدى نجاح أي حركة تغيير في مقولاتها ومنهجها، يرتبط أشد الارتباط بمدى فهم العاملين فيها للواقع المراد تغييره، ذلك لأن التغيير يبتدئ بنقد الواقع نقدًا يفضي إلى الحكم عليه كليًّا أو جزئيًّا بالبطلان، وينتهي بإلغائه وإحلال صور أخرى محله، فهو بهذا المعنى يتنزل منزلة السبب بالنسبة للعمل التغييري، ولا بد لفهم المسبب من فهم عميق للسبب.

وإن تغيير الواقع الإنساني في الفكر والاجتماع والسلوك، عمل يبلغ من الصعوبة والعسر ما يجعل الكثير من حركات التغيير تبوء بالفشل في تحقيق ما رامت من أهداف، ذلك لأن الواقع سطوة على النفوس ينشأ منه الاستمراء والألفة، فينزع إلى الاستقرار والثبات ويتأبى على الإزالة والتغيير.

فنقطة البداية في كل عمل تغييري، هي فهم الواقع والظروف المحيطة به والإمكانات المتوفرة فيه، ولا شك أن ما من حركة تغييرية إلا واحتاجت إلى قضية رئيسية، وكلما كانت هذه القضية رامية الجذور في الواقع متجاوبة مع آمال الناس وتطلعاتهم موجهه إلى صميم الأزمة الواقعية، توافرت عوامل النجاح والتواصل لتلك الحركة، ذلك أن نجاح أي عمل تغييري وفاعليته في الحياة، مرتبط بما يكتب له من التنزيل في الواقع المعاش لا بما يتحقق له من الوجود في الأذهان فقط.

وإن الحركات الإصلاحية التي ظهرت عبر التاريخ، كانت مترددة بين الفشل والنجاح بقدر ما تستوعب من الواقع، وما تحسن من الحوار معه، وما تأخذ به من الأسباب الناجحة في تغييره.. وقد ثبت أيضًا أن عنصر الإخلاص وحده ليس يكفي لإزالة الباطل وإحلال الحق، لأن انحراف الواقع أكثر عنادًا من أن يتغير بالإرادة المخلصة. فلا بد من أن تتوفر أيضًا عناصر الحكمة والانسجام الإيجابي مع هذا الواقع تبنى عليها منظومة متكاملة لمنهجية التعامل معه بقصد التغيير والإصلاح، وإن عدم الاهتداء إلى تلك العناصر لإقامة منهجية التغيير عليها، كثيرًا ما يوقع في الارتكاس بالواقع إلى أسوأ مما كان فيه من الاختلال.

إن البرامج التغييرية الحقيقية لا يمكن أن تولد إلا في أحشاء المجتمع استيعابًا للواقع وتمثلاً للتاريخ وتبصراً بالدليل والمنهج، ولا يجوز لأحد أن يضع الحلول والمناهج مغفلاً مكان أمته ومركزها، بل يجب عليه أن تنسجم أفكاره، وعواطفه وأقواله وخطواته مع ما تقتضيه المرحلة التي فيها أمته.. أما أن يستورد حلولاً من الشرق أو الغرب، فإن ذلك تضييع للجهد ومضاعفة للداء، إذ كل تقليد في هذا الميدان جهل وانتحار، فالفرق شاسع بين مشاكل تدرسها في إطار الذروة الزمنية الغربية، ومشاكل أخرى تولدت في نطاق الذروة الإسلامية.

إن الحلول لمشكلات أي واقع، لا تكون باستيراد التعريفات والمناهج الغربية عن ذلك الواقع، وإنما بالوصول إلى الحلول من خلال فهم الأرضية التي يجب أن تنطلق منها عملية النهضة، وبدراسة دقيقة لخصوصيات التركيبة الثقافية والسياسية والاقتصادية والتربوية، حتى يتيسر بعد ذلك اقتراح الأفكار للحلول، وتحديد الأهداف المنقذة من الواقع المتردي.

وخلاصة القول، إنه لا بد للدعوة الإسلامية من تنظير لإستراتيجيتها تخرج بها من الدوامة، وتستجيب للتحديات الكبرى التي تواجهها الأمة في واقعها الراهن.

(*) كاتب وباحث مصري.

المراجع

(1) الإمام عبد الحميد بن باديس، محمود قاسم.

(2) الصراع الفكري في البلاد المستعمرة، مالك بن نبي.

(3) إنتاج المستشرقين وأثره في الفكر الإسلامي الحديث، مالك بن نبي.