الامتحانات واللطف الإلهي

يقول القدماء: “بقدر الكدّ تُكتسب المعالي”؛ أي إن جميع النجاحات -المادية والمعنوية- تكون متناسبة مع المشقات المبذولة في سبيلها. فمن يدري مقدار الألم والمعاناة التي تتحملها البَذرة تحت التربة حتى إبراز رأسها كنبتة فوق التراب، إذ تنشق وتتحمل آلام اختراق التربة وتستعدّ لاستقبال أشعة الشمس وتتهيأ لها، فكل هذه الجهود والآلام هي آلام الولادة والنضال في سبيل الوجود والانبعاث، لذا فهي مهمة للغاية.

كلما انهمرت علينا نعم الله تعالى وأفضاله، زادَ ثقَلُ مهمتنا واشتدت الامتحانات، وعلينا أن ندرك تمامًا أن هذه المرتبة العالية التي خصّنا بها الله تعالى بكرمه، لا تعود لفضيلة أو قابلية شخصية فينا أبدًا، وإنما يجب أن ننظر إليها كَلُطْفٍ إلهي ونقيّمها على ذلك. إن صور الجمال والخير تمرّ بنا دائمًا، وعندما تمرّ تقوم بطَرْقِ أبوابنا؛ لأننا في حاجة إليها أكثر من الآخرين ولا نستطيع أن نكون مظهرًا لهذا الجمال بأشخاصنا، وكلّ هذه الجماليات تنعكس علينا كانعكاس أشعة الشمس على قطرات المياه.

حبُّ المال من صور الامتحان

حبُّ المال والمنفعة المادية من صور الامتحان في حياة الجماعة، والنـزاعاتُ والخصومات الموجودة بين السياسيين تنبع من هذه الناحية ومن هذه الأفكار السلبية والمخرّبة التي تستند إلى النـزاع حول المنافع المادية؛ ذلك لأن هناك أعينًا كثيرة ترنو إلى مناصب معينة، وهناك أصحاب أهواء وشهوات لا يعرفون الشبع يلهثون وراء منافعهم ومصالحهم الشخصية؛ الأمر الذي يؤدي إلى أن تنقلبَ الوحدة إلى اختلاف، والاتحاد والتعاون إلى تفرقة وخصام، بينما يجب أن تؤدَّى جميع الأعمال وجميع التضحيات لوجه الله تعالى دون انتظار جزاءٍ أو شكورٍ من أحد، ولو تم هذا لاجتاز الكثيرون امتحان المنافع المادية المؤدية إلى الشقاق والخصام.

هل تعرّض الصحابة إلى امتحان بعضهم ببعض؟

يسأل السائل عما إذا تعرّض الصحابة الكرام إلى امتحان بعضهم ببعض، لذا فلنقِفْ هنا قليلاً ونقول:

ما كان من الممكن إعفاءُ الصحابة من مثل هذا الامتحان؛ ذلك لأنهم نالوا أعلى المراتب في الحياة المعنوية، فكان لزامًا عليهم أن يتعرضوا إلى أصعب امتحان، ولا سيما أن الاجتهادات التي ظهرت فيما بعد حول إدارة الدولة قد صعّبت من تلك الامتحانات وجعلتها أشد وطأة. ولكن مع ثقل الامتحان، لم ينحرف صحابي عن التماس طريق الحق، وعندما تبين لبعضهم أنهم لم يكونوا على الحق، أغمدوا سيوفهم في ظرفٍ لم يكن من السهل إغمادها.

لقد أدركت أمُّنا عائشة رضي الله عنها خطأها عندما وقفت أمام الإمام على بن أبي طالب رضي الله عنه، وتذكّرت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أشار بشكل ضمني إلى هذا الأمر قبل انتقاله، فركبت دابّتها ورجعت وهي نادمة أشد الندم. (صحيح ابن حبان).

كان الزبير بن العوام رضي الله عنه رجلاً شجاعًا وشهمًا، فلقد أَسْلَم وهو ابن ثمان سنين، وهاجر وهو ابن ثمان عشرة سنة، وكان عمّه يعلّقه في حصيرٍ، ويدخّن عليه بالنار، ويقول: ارجعْ إلى الكفر، فيقول الزبير: لا أكفر أبدًا” (رواه الطبراني)، فكان صلى الله عليه وسلم يقول: “إن لكل نبي حواريًّا وإن حواريّ الزبير بن العوام” (رواه البخاري)، ملفتًا الأنظارَ إلى شجاعته.

(*) “الاستقامة في العمل والدعوة”، محمد فتح الله كولن، سلسلة أسئلة العصر المحيّرة (3)، ترجمة: أورخان محمد علي، د. عبد الله محمد عنتر، دار النيل للطباعة والنشر، ط1، 2015. وعنوان المقال من تصرف المحرر.