إن الإصلاح الفردي ضرورة حتمية للوصول إلى الإصلاح الاجتماعي، ومن هنا جاءت الشريعة الإسلامية لتجمع بين العبادة الفردية والاجتماعية. فهاتان العبادتان يكمل بعضهما بعضًا ولا يمكن الفصل بينهما بحال من الأحوال. وهذا الاندماج أمر ضروري لإقامة مجتمع وسطي متوازن. ولكن للأسف نرى انفصالاً عند بعض المسلمين بين العبادة الفردية والعبادة الاجتماعية؛ حيث نرى مصليًا صائمًا مزكيًا حاجًّا لبيت الله مؤديًا النوافل، غير أنه غائب عن مجتمعه ووطنه مضيع لحقوق الناس، يشيع شره ويعم فساده فلا يسلم منه أحد، يؤذي أهل بيته وجيرانه وزملاءه، إذا تولى في الأرض أهلك الحرث والنسل. من أجل ذلك وضع الإسلام عقابًا شديدًا لمن فصل بين العبادات الفردية والعبادات الاجتماعية، فقد كان هناك امرأة اعتنت بعبادتها الفردية -صوامة قوامة- لكنها أهملت العبادات الاجتماعية فأذت جيرانها فكان جزاؤها النار كما أخبر بذلك صلى الله عليه وسلم في الحديث الشريف. وكان هذا العقاب الشديد على إهمال العبادات الاجتماعية؛ لأن هذه العبادات لو تحققت لاستطعنا إنشاء مجتمع فاضل متماسك قوي كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضًا في الرخاء وفي وقت الشدة والأزمات، بعيدًا عن التناحر والفرقة.. مجتمع تعمه السكينة والطمأنينة والأمن والأمان والرخاء.

من أهم المقاصد الاجتماعية للعبادة

للعبادة في الإسلام  مقاصد اجتماعية كثيرة، لا نستطيع في  هذا المقال أن نحصرها، ولكن سوف نقف على أهمها، فهي تعد الأصول التي تتفرع منها جل المقاصد الاجتماعية، وهذه المقاصد هي:

1- مقصد التعارف والتعاون: إن الشارع عندما أمر المكلف بالعبادة، لم يأمره لذاتية العبادة ولكن لتحقيق عللها ومقاصدها وأهدافها.. فصلاة الجماعة التي تشبع الجانب الوجداني والفكري للإنسان الهدف الأسمى منها -كذلك- التعارف والتعاون، ليس بين المصطفين في المساجد فقط ولكن بين جميع الناس، وهذا ما أكد عليه الخطاب القرآني: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا)(الحجرات:13)، وهذا التعارف هو الذي يجلب التعاون: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ)(المائدة:2). وهذا التعارف والتعاون نراه في جميع الشعائر التعبدية، في الحج، وفي الزكاة، وفي الصوم، وصلة الأرحام، والبر والقسط.

2- تحقيق السلم المجتمعي والتعايش الإنساني: من مقاصد العبادات الاجتماعية في الإسلام، تحقيق السلم المجتمعي والتعايش الإنساني؛ ولذلك جاءت دعوة الإسلام صريحة وواضحة في دعوة الناس جميعًا إلى السلم والسلام والتعايش المشترك الذي يحترم الذاتية ويحافظ على الهوية. فأول عمل قام به نبي الإنسانية صلى الله عليه وسلم عندما دخل المدينة المنورة، الدعوة إلى السلام: “أفشوا السلام بينكم”، وكانت صحيفة المدينة تعد وثيقة تعايش بين جميع طوائف المجتمع على اختلاف ديانتهم وتوجهاتهم، وهذا يدل على أن الإسلام دين السلم والسلام والتعايش، ودينٌ يفتح آفاقه للجميع.

3- تقديم المصالح العامة على المصالح الخاصة: من المسالك المهمة لدى الفقيه والمسلم الواعي، النظر إلى المصلحة المعتبرة. فطريق المصالح المعتبرة أوسع طريق في التعامل مع الواقع، خاصة عند الالتباس والتشابك ووقوع الأزمات.. وإن إهمال هذه المصالح  وتركها، يؤدي إلى تعطيل شمولية الإسلام وصلاحيته لكل زمان ومكان، يقول ابن عاشور: “طريق المصالح هو أوسع طريق يسلكه الفقيه في تدبير أمور الأمة عند نوازلها ونوائبها إذا التبست عليه المسالك، وأنه إن لم يتبع هذا المسلك الواضح والمحجة البيضاء، فقد عطَّل الإسلام عن أن يكون دينًا عامًّا وباقيًا”.

هذا بالنسبة لاعتبار المصالح، أما في الموازنة بين المصالح فهذا شأن أكبر وفقه أوسع وأرحب. ومن الموازنة بين المصالح  تقديم المصلحة العامة المتعلقة بالمجموع على المصلحة الخاصة الفردية عند عدم الجمع بينهما. وقد حثنا الإسلام في نصوص متكاثرة على تقديم مصالح الناس على مصالح الأفراد عند التعارض، ومن أكبر الأدلة على ذلك دعوة الإسلام -في أمر مباشر- إلى إعمار الأرض حتى آخر لحظة في الحياة عند قيام الساعة، حيث لم يأمر بعبادة فردية والإنسان مقبل على الآخرة ومدبر عن الدنيا، بل أمر بعبادة جماعية: “إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة، فإن استطاع ألا تَقوم حتى يَغرسَها، فليَغرِسْها” (رواه الإمام أحمد).

4- تحقيق العدالة الاجتماعية: العدالة الاجتماعية تعني: “أن كل إنسان يجب أن يأخذ صفة من الحياة بشكل متلائم مع شخصيته الإنسانية، وأن يسود أبناء المجتمع لون واحد من التعامل، وتهيئة الفرص الكاملة للمشاركة في جميع الأصعدة والاستفادة من خيرات البلاد.. وهذه العدالة ليست في خصوص التوزيع العادل للثروة فحسب، بل يشمل المساواة أمام القانون والأمور الحقوقية، ومحاربة التمييز العنصري والطبقية. فالعدالة الاجتماعية هي إعطاء البشر حقوقهم في كل مجالات الحياة، وعدم التمايز بينهم بأي لون من ألوان التمايز، ومعاملتهم على أساس العدل الذي هو أساس العدالة، أي إعطاء كل ذي حق حقه وفق الحاجة والكفاءة والقدرة “. فالعدالة -إذن- في أبسط مفهوم، هي إعطاء كل ذي حق حقه، وفق الحاجة والكفاءة والقدرة. وهذا ما أمر به صلى الله عليه وسلم حيث قال: “فأعطِ كل ذي حق حقه” (رواه البخاري).

وفي سبيل تحقيق العدالة الاجتماعية على أكمل وجه، أوجب الإسلام تكريم الإنسانية لذات الإنسانية: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً(الإسراء:70). فالإسلام لا ينظر إلى الفوارق في اللون والجنس والنسب، ولا إلى الجاه والمال والمنصب، فالناس كلهم لآدم، وآدم خلق من تراب.. وإنما التفاضل فيه بتقوى الله والعمل الصالح، وما يقدمه الإنسان لخدمة الإنسانية.

5- الاجتهاد الجماعي: من مقاصد العبادات الاجتماعية، مقصد متعلق بأمر مهم تحتاجه الأمة، خاصة عند النوازل وهو الاجتهاد الجماعي. فدواعي الاجتهاد الآن قائمة وملحة أكثر من أي عصر مضى، والعلماء مطالبون -في ظل المستجدات والقضايا المعاصرة والقضايا العامة- باعتماد هذا اللون من الاجتهاد. فالقضايا الفردية يمكن لعالم أن يفتي فيها وحده، لكن القضايا العامة -أو بعبارة الفقهاء ما عمت بها البلوى- الأصل فيها أن تحال إلى العقل الفقهي الجماعي، ويكون ذلك باستصحاب ذوي العلم في التخصصات الشرعية على اختلاف مذاهبهم الفقهية، والتخصصات العلمية، مثل الطب والفلك والاقتصاد والاجتماع والسياسة والقانون، وغير ذلك.. وهذا الاجتهاد الجماعي في هذا العصر، متيسر بفضل تطور وسائل الاتصالات، فيجب تفعيله، ولا عذر لتأخيره أو تعطيله.

(*) كاتب ومفكر مصري.