تكمن أهمية كتاب «محو الأمية البصرية» للكاتب سعدني السلاموني؛ في تناوُلِه لحاسَّةٍ من حواس الإنسان، ذكرها الله تعالى كثيرًا في القرآن الكريم في مواضع تدل على مكانتها الخاصة؛ وهي حاسة البصر، كما أن أهداف الكتاب تتوافق مع دور هذه الحاسة التي تمثل نعمة عظيمة من نعم الله التي لا تعد ولا تحصى؛ وهو الدور الذي يدعو إليه الله تعالى في مواضع عديدة من القرآن الكريم؛ منها قوله جل شأنه: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ)[القصص: 72]، وقوله تعالى: (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ)[الذاريات: 21]؛ حيث تدعو هذه الآيات الكريمة إلى إعمال حاسة البصر، في أسلوب استفهام استنكاري، يوضح الله تعالى به أن إعمال البصر يؤدي بالضرورة إلى معرفة نعم الله تعالى وتدبُّر آياته، وهو الأمر الذي يدعو إليه الله جل شأنه.
وإذا كان الإبصار يقود إلى معرفة الخالق سبحانه وتعالى؛ فإن عدم معرفته جل شأنه؛ معناه «الجهل البصري»، وعلاجه يكون من خلال «محو الأمية البصرية» وهو عنوان الكتاب الذي تدور حوله هذه الدراسة.
وقد عرَّف سعدني السلاموني بمشروعه فقال: «فهذا المشروع في الأول والأخير يستهدف المخزون البصري وإعادة هيكلته، هذا المخزون الذي يكمن في الذاكرة البصرية، ويقوم بحذف مشاهد العنف والتلوث البصري، كما يقوم بزرع مشاهد الوعي والجمال عن طريق المشاهد العلمية والمشاهد الإبداعية؛ حتى يتحول الإنسان من بشري يحنُّ كل حين للغابات وقانونها الشرس الذي يقوم على الدم، هذه الغابات التي جاء منها؛ إلى إنسان ينتمي للجمال ويضيف إلى دولة الإنسانية.
وما قاله السلاموني عن مشروعه هذا يعني التنقيح والتهذيب، من خلال طرح المشاهد الخبيثة من الذاكرة، والتَّشبُّث بالمشاهد الطيبة والعمل على الإفادة منها، بالقياس على قول الله تعالى في السمع: (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ) [الزمر: 18]؛ ويعرض السلاموني نظريته فيقول: «كادت النظرية العلمية أن تشبه جسد الإنسان؛ تقوم على أقدام وأذرع وقلب وروح وعين ورأس، وأهم ما فيها رأسها، وأي جسد يعيش بدون رأس فهو ميت» إلى أن يقول: «ونحن هنا نطرح للعلماء رؤوس النظريات ونترك لهم الأجساد.
ثم يذكر السلاموني رؤوس نظريته، مصدِّرًا بمحو الأمية البصرية، التي يقول عنها بعد ذلك: «ويؤكد علم محو الأمية البصرية أن هناك موجات خيالية، حين يتم اكتشافها سوف نكتشف بأن سرعة الخيال أسرع من سرعة الضوء بملايين السرعات؛ لأن الخيال هو الذي حمل الفكرة والسرعة والضوء.
ثم ينتقل إلى اللغة البصرية فيقول عنها: «اللغة البصرية هي كل ما تقع عليه عين الإنسان ويشكل حرفا بصريًّا أو مفردةً بصرية، وحين يتلاحم الحرف البصري بالحرف البصري يشكلان مفردة بصرية، والمفردة مع المفردة تشكلان جزءًا من اللقطة، والجزء مع الجزء يشكلان اللقطة، واللقطة مع اللقطة تكوِّنان المشهد البصري، والكون ما هو إلا مشاهد وصور بصرية، وهذه المشاهد الكونية التي يتحدث عنها السلاموني قد ذكرها الله تعالى في قوله: (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ) [ق: 6- 8).
وبعد ذلك ينتقل السلاموني إلى الوعي البصري، فيقسم الذاكرة البصرية إلى ثلاثة مشاهد؛ هي: «المشاهد البصرية، المشاهد اللفظية التي تشكِّل صورًا، المشاهد الصوتية»، ويشبِّهها بالبناء، ثم يقول: «من هنا نؤكد أنه حين يحدث خلل في البناء؛ ينعكس هذا الخلل على سلوكيات الإنسان، وبالطبع كما يحدث هذا الخلل للإنسان؛ يحدث للجموع، ثم ينتقل للمجتمع، والكل يتعامل معه وبه على أنه سلوك طبيعي، إلا المتخصصين المعدودين على الأصابع، الذين يواجهون هذا العقل الجمعي المضطرب.
وهذه العبارة مستوحاة من الواقع المجتمعي عبر التاريخ؛ فالانحراف أحيانًا يبدأ بشخص واحد، ثم يقلِّده جماعة من الناس، ثم ينتشر انحرافهم في المجتمع حتى يصبح عادة، تصل أحيانًا إلى حدِّ الطقوس والشعائر؛ كما في قصة عمرو بن لحيٍّ، الذي انحرف عن عبادة الله تعالى إلى عبادة الأصنام، ثم انتشرت الوثنية بين العرب حتى قضى عليها الإسلام، وقد كان ينصحه ويحذره سحنة بن خلف الجرهمي.
ويستنكر السلاموني مسميات «اللاوعي واللاشعور» مقسمًا الوعي إلى مشاهد إجرامية، ومشاهد جمالية، موضحًا أنه حين تنتصر المشاهد الإجرامية؛ يقوم الإنسان بجريمته، التي يرى السلاموني أنها تتم تحت تأثير تلك المشاهد الإجرامية، أو ما يمكن تسميته بالوعي الإجرامي؛ ثم يمضي السلاموني في توضيحه مشيرًا إلى الذاكرات الثلاث: ذاكرة السمع، ذاكرة الشم، ذاكرة البصر؛ ودور كلٍّ منها في تشكيل الوعي عند الإنسان، والذي يقصده السلاموني هنا هو القدح في إحالة جرائم بعض الناس إلى ما يسمى في علم النفس باللاوعي واللاشعور.
وينتقل السلاموني بعد ذلك إلى الحديث عن الجهل البصري، الذي يصفه بأنه «أكبر جرثومة بصرية تقضي على الجمال البصري الذي تقدمه لنا الطبيعة عن طريق أعظم شاشة كونية وهي شاشة السماء»()، ثم يتكلم عن الصورة والألوان، مقسمًا الصورة إلى قسمين، على غرار تقسيم المَشاهد في بداية الكتاب، واصفًا إياها بقوله «وإذا انتبهنا لقوة الصورة لوجدناها أضعاف وأضعاف قوة الصواريخ والرصاص؛ فالرصاصة دورها أن تقضي على الجسد الآدمي، جسد واحد فقط، أما الصورة تلتقطها العين لتنشرها لجميع أنحاء الجسد؛ لتُنهي على الإنسان وتحوِّل الجسد إلى مجرم دموي، وخطورتها ليست في مفعولها الفوري؛ تكمن خطورتها في انتشارها للملايين، وعمرها الذى ليس له نهاية، فهي الوحيدة القادرة على بناء الملايين أو تدميرهم، والصورة البصرية عنده تتكون من: النقطة البصرية ثم الحرف البصري ثم المفردة البصرية ثم الجملة البصرية.. لينتج في النهاية الخطاب البصري، الذي يرى السلاموني غياب لغته -لغة الخطاب البصري- بين المبدع والمتلقي، ثم يتطرق إلى التوازن البصري، الذي يعرِّفه بأنه هو جهاز مناعة الخطاب البصري.
وقضية الجهل البصري هي التي أشار إليها القرآن الكريم في قول الله تعالى: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ) [الأعراف: 179]؛ وذلك أنهم لو استثمروا تلك النعم العظيمة التي وهبها الله لهم، ففقهوا بقلوبهم وأبصروا بأعينهم وسمعوا بآذانهم؛ لما استحقوا العذاب الذي أَوْعدهم الله تعالى به في بداية الآية الكريمة؛ لأنهم لو فعلوا ذلك لتجنَّبوا ما يوجب عليهم العقاب، لذلك نجد نبي الله لوطًا -عليه السلام- كما يقول الله تعالى عنه في القرآن الكريم: (وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ) [النمل: 54]؛ فهو يتعجب من فاحشتهم تلك بالرغم من أنهم يبصرون.
ويقترح السلاموني مشروع مجمع اللغة البصرية، متطرقًا إلى تقهقر مكانة الكِتاب أمام وطأة الصورة في عصر التكنولوجيا، داعيًا إلى تخصيص يومٍ يكون عيدًا للكِتاب، محاولًا وضع خطة للحفاظ على مكانته.
ويختم السلاموني مشروعه الذي اقترحه في هذا الكتاب، بوضع قاعدةٍ للغة البصرية، تدور حول سبعٍ وأربعين مفردة، تطرَّق بعدها إلى نظرية الانفجار العظيم؛ وقد نتفق أو نختلف مع سعدني السلاموني حول بعض نقاط هذا الكتاب، اختلافًا كليًّا أو جزئيًّا، في أهميتها أو طريقة عرضها، لكن يهمنا في النهاية فكرة هذا الكتاب، التي تستمد جوهرها من القرآن الكريم، على النحو الذي ذكرناه في السطور السابقة.