هناك قولة مشهورة “ومن العدل أن يكون الإنسان حرًا، كما أن الحرية لا تكتمل إلا بالعدل”، انطلاقًا من هذه الفرضية أقول إن العدل قيمة إنسانية كبرى، وحاجة بشرية أساسية لا يمكن الاستغناء عنها، وضرورة لا بد منها لضمان استقرار المجتمعات والحياة الإنسانية على وجه الأرض بشكل عام، فبالعدل تستقيم الحياة، وتحيا الأمم، وتستقر ولا تضطرب؛ وبدون العدل تنهار الأمم، وتسقط الحضارات، ويضطرب أمن الناس وأمانهم، وإذا كان العدل بهذه الأهمية والمنزلة والمكانة فإن الإسلام قد أولاه اهتمامًا غير عادي؛ وبوأه منزلة رفيعة سامية، فجعل العدل في قمة مبادئه وقيمه وثوابته الأساسية، ويكفي أن نذكر أن الإسلام اعتبر العدل الهدف الأسمى التي اشتركت في إرسائه جميع الرسالات السماوية، قال تعالى: (لَقَد أَرسَلنَا رُسُلَنَا بِالبَيِّنَاتِ وأَنزَلنَا مَعَهُم الكِتَابَ والـمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالقِسطِ) (الحديد: 25).
وفي العصر الحديث ازدادت شراسة العداء للإسلام والمسلمين بدرجة ترقى إلى ما وصل إليه الوضع في مرحلة ما بعد هجمات سبتمبر عام 2001 في الولايات المتحدة الأمريكية، لكن برغم الهجوم الشرس الذى يتعرض له الإسلام والمسلمون اليوم ورغم اتهام كثيرين في الغرب للدين الحنيف بالتحريض على العنف وكراهية الآخر، فإن بعضًا من أهم الشهادات المنصفة بحق الإسلام والرسول الكريم جاءت من علماء غربيين، أغلبهم غير مسلمين ممن يعرفون باسم المستشرقين، ولم تكن أقوال هؤلاء المستشرقين مجرد تعبير عن آرائهم في الإسلام وعدله، بل جاءت بعد دراسة متأنية للتاريخ الإسلامى، لاسيما الفترة التى عايشها النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وتناول مواقفه مع أعدائه قبل أصدقائه وأتباعه، وهى ما جعلت كثيرين منهم ينبهرون بأخلاق النبي الكريم، حتى أن بعضهم قال إنه يتسم بأهم صفتين، وهما العدالة والرحمة، وأما ما سمعنا أخيرا من جامعة هارفارد الأمريكية، العريقة والمرموقة باعتبار “القرآن” كأفضل كتاب للعدالة في تاريخ البشرية أيضا تعد كأهم شهادة الغربيين عن الدين وقسطه في وقت يتعرض فيه لأزمة سببها المتطرفون والمتعصبون.
مفهوم العدل من حيث المعنى والمبنى
العدل لغويًا: هي عبارة عن الوسط بين الإفراط والتفريط والاعتدال في الأمور، ويقابلها الظلم والجور، وعكسها الظلم، العدل مصطلح يرمي إلى المساواة بين النّاس والعدل فيما بينهم وإعطاء الحقوق دون تفرقة بين النّاس سواء كان لون أو نسب أو مال أو جاه، أنزلَ الله سبحانهُ وتعالى القرآن لأهداف سامية وربانيّة، ومن أهم سماه القرآن العدل بين النّاس، لأنّ العدل هو ميزان الله على الأرض، يقف مع الضعيف حتّى لا يأكلهُ القوي، ويكون مع المظلوم حتّى ينتصرَ على الظالم.
العدالة الإسلامية بين صفحات التاريخ
وإذا أمعنا أنظارنا إلى تاريخ الحكام المسلمين لوجدنا حياتهم مملوءة بالأمثلة الناضرة وضرب القدوة الفذة في تحقيق العدالة، قال أبوبكر رضي عنه في خطبته الأولى التى تعد بحق بمثابة دستور حكمه: “ولقد وليت عليكم ولست بخيركم.. الضعيف فيكم قوى عندي حتى آخذ الحق له، والقوى فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه”، وجاء رسول كسرى ورأى عمر بن الخطاب يحكى أروع الطمأنينة للحاكم العادل، وقال قولته الخالدة: “حكمت فعدلت فأمنت فنمت يا عمر” وتاريخ عمر كله سجل كامل للعدالة مع نفسه وفى بيته وفى مجتمع المسلمين، والفاروق الثاني عمر بن عبد العزيز رضى الله عنه وهكذا كان ولاة المسلمين العدل أساس الحكم، لا فرق بين حاكم ومحكوم، وبذلك كانت دفة الأمور العامة في الدولة تأخذ طريقها دواما نحو شاطئ الاستقرار والطمأنينة.
كيف يتلقى مفكرو الغرب ظاهرة العدالة الإسلامية السمحة؟
لقد شخص الكاتب والفيلسوف الأيرلندي (برنارد شو) حامل جائزة نوبل ذلك بقوله: الإسلام دين الديموقراطية وحرية الفكر هو دين العقلاء، ولكن هناك أمر مهم يجب ألا أغفله، وهو أن الإسلام شيء والمسلمون اليوم شيء آخر، الإسلام حسن ولكن أين المسلمون؟! وليس فيما أعرف من الأديان نظام اجتماعي صالح كالنظام الذي يقوم على القوانين والتعاليم الإسلامية وفي هذا كفاية لمن يدعي أن الإسلام الحقيقي يدعو إلى الإرهاب، إن الإسلام وتراث النبي محمد صلى الله عليه وسلم قد افتخر به علماء الغرب وفلاسفتهم ودافعوا عنه بل ومن تشريعاته اقتبسوا في أنظمتهم الاقتصادية والاجتماعية.
دعني أوضح هذه الحقيقية الغضة الطرية وذلك أن موضوع اعتناق الإسلام من قبل مفكري الغرب وفلاسفته مازال بعيدًا عن متناول الباحثين والمؤرخين والمفكرين، فما زالت الدراسات الإسلامية تتجاهل هذا الموضوع، وفي الواقع تتزايد ظاهرة اعتناق الإسلام في الغرب بشكل ملحوظ، ومازالت أنباء من يعتنقون الإسلام تجد لها مساحة واهتماما في الإعلام الإسلامي، وبشكل بسيط في الإعلام الغربي إلا في بعض الحالات، عندما يكون من اعتنق الإسلام شخصية معروفة أو ذا مركز علمي أو سياسي.
ولا أحد يعلم كم هو عدد المعتنقين للإسلام في الغرب، ولا توجد إحصاءات دقيقة بل هناك تخمينات وأرقام غير دقيقة تعتمد على الخبرة والتعامل مع المعتنقين. ففي فرنسا مثلاً، يتراوح عدد المعتنقين بين 50 ألف معتنق حسب تقدير أحد الباحثين الغربيين، إلى أكثر من 200 ألف معتنق حسب مصدر إسلامي في باريس، هذا التفاوت يعود إلى مبالغة المصادر الإسلامية من جهة وإلى محاولة التقليل من أهمية الموضوع من قبل الغربيين من جهة أخرى، وفي هولندا يقدر عدد المعتنقين للإسلام أكثر من 15 ألف شخص.
“القرآن” أفضل كتاب للعدالة في التاريخ البشرية
تعتبر جامعة “هارفارد” الأمريكية، العريقة والمرموقة “القرآن” كأفضل كتاب للعدالة في تاريخ البشرية، وعلقت آية قرآنية من سورة “النساء” عن “العدالة والقسط”، وتحتل جامعة هارفارد المرتبة الثالثة على مستوى العالم وفقًا لتصنيف “QS” العالمي لعام 2019، فهي إحدى أعرق المؤسسات التعليمية في الولايات المتحدة الأمريكية، وقالت صحف بريطانية وجمعيات إسلامية: إن جامعة هارفارد استشهدت بالقرآن، وكلماته الربانية، باعتباره “الوحي الأخير”، وأنه من خالق هذا الكون ويوجهنا على الطريق الصحيح للمعيشة والعدالة في حياة البشر، وقالت الجامعة في أسباب اختيارها للقرآن كأفضل كتاب للعدالة: إنه “يعطي الأولوية للقواعد والعدالة في الإسلام”، وإن القرآن “مليء بالقوانين الأساسية للإنسان، وليس لديه أي مجال للظلم”.
آية من سورة “النساء”: بصيص أمل من هارفارد
ومنذ عدة سنوات، وضعت جامعة هارفارد نقشا عن آية من سورة “النساء” في القرآن على حائط أحد مباني كلية القانون في الجامعة، ضمن عبارات عظيمة قيلت حول العدالة، والآية هي الـ135 من سورة “النساء”: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوْ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا)، وكان الوصف الملحق بها بأن كلية القانون اختارتها “كأعظم عبارة عن العدالة في التاريخ”، وبأنها “نقشت على مدخل كلية القانون في جامعة هارفارد”، مع أنها كانت على حائط داخل أحد المباني في الكلية.
وتقول سارا مارستون، مسؤولة الإعلام العام في كلية القانون في جامعة هارفارد لموقع “راديو سوا”: “هذه الآية هي واحدة من 35 اقتباسًا منقوشاً على الجدران الداخلية لمباني كلية القانون البالغ عددها 19 مبنى، وهذه المقولات جميعها، عبر جميع وجهات النظر السياسية والأيديولوجية والدينية والثقافية، تهدف إلى الاستشهاد على السعي الإنساني الخالد للعدالة والكرامة من خلال القانون”.
وتضيف مارستون أن مشروع جمع واختيار الاقتباسات المنقوشة على الجدران شارك فيه طلاب وموظفون وأساتذة، جمعوا 350 مقولة منذ عام 600 قبل الميلاد، مشيرة لأن “المعرض يضم اقتباسات من العهد القديم والجديد للكتاب المقدس، ووثيقة الماغنا كارتا، ومقولات لمارتن لوثر كينج، ونيلسون مانديلا، ومصادر أخرى كثيرة منذ العصور القديمة حتى عصرنا هذا.
وأفاد موقع “ستب فيد” بأن سورة النساء “معروفة بتعزيز (حقوق) النساء. والإسلام بشكل عام دافع عن حقوق النساء منذ اليوم الأول. فقد تصدر هذا الدين في مواجهة وأد الإناث، وشجع النساء على العمل، ونشر المساواة بين الجنسين في الزواج والمهام الإسلامية. كما يسجل له أنه أول دين منح حقوقا للنساء بالميراث”، رغم إشارته إلى انتقادات للمسلمين في عالم اليوم.
ففي نهاية المطاف لا بد من القول بأنه من العدل والإنصاف الاعتراف بوجود عدالة نسبية في محاكم الدول الغربية مقارنة بمثيلاتها في الدول العربية والإسلامية، إلا أن ذلك لا يعني مقارنة مبدأ العدل الشامل المقرر في دين الله الخالد مع العدل الغربي النسبي القاصر.