التصحيف وأثره على النص “الحواثر والحوافر” نموذجًا

التصحيف هو تحويل الكلمة من الهيئة المتعارفة إلى غيرها[1]، ويعدُّ ذلك من المشكلات العلمية ذات الأثر الخطير في التشويش على النَّص، بطريقة لا ينتبه إليها كثيرٌ من الباحثين والمحققين، وأحيانًا ينساق بعضهم خلف اللفظ المصحَّف فيعوِّل عليه في بناء نظرية أو قاعدة أو حدثٍ تاريخيٍّ أو نحو ذلك بحسب ما يفرضه سياق الكلام أو موضوع البحث، ولا سيَّما إذا تواتر ذلك اللفظ بصورته المصحَّفة؛ والتواتر على التصحيف له أسباب كثيرة؛ من أشهرها سوء التعامل مع المخطوطات، التي يجب التعامل معها من خلال منهج استقرائي يمكن من خلاله استنباط ما يقع فيها من لبسٍ أو تصحيف بسبب طبيعة النَّسْخ وطريقة التدوين في عصور ما قبل الطباعة، ومنها أيضًا في عصر الطباعة متابعة طبعات سابقة مصحَّفة، دون تمحيص أو تدقيق في النقل، إضافة إلى الأخطاء المنهجية الأخرى التي يقع فيها بعض الباحثين والمحققين.

ومن أمثلة التصحيف ما وقع فيه بعض ناشِري كتاب «شرح المعلقات السبع» للزوزني؛ حيث نقلوا عنه مِن تقدِمَتِه لمعلقة طرفة بن العبد [ت: 564م][2] قوله: «ورأيت أنا مكتوبًا في قصته في موضع آخر؛ أنه لمَّا قرأ العامل الصحيفة؛ عرض عليه فقال: اختر قتلة أقتلك بها؛ فقال: اسقني خمرًا، فإذا ثملت فافصد أكحلي؛ ففعل حتى مات، فقبره بالبحرين، وكان له أخ يقال له معبد بن العبد؛ فطالب بدِيَته، فأخذها من الحوافر»[3]، فذكروا «الحوافر» -بالفاء- وهو خطأ، وقد أقرَّت إحدى الطبعات ذلك الخطأ، واعتبروه أصلًا، حيث علَّق الناشر بقوله في الهامش: «الحوافر: الخيل»[4]؛ وكان يجب على الناشر بدلًا مِن ذكرِ معنى «الحوافر» أن يستهجن اللفظة في موضعها هذا ليقف على التصحيف، وما فعله الناشر يعتبر إقرارًا منه بصحة المعنى المترتب على التصحيف، وهذا خطأ فاحش؛ لأن المعنى بهذه اللفظة المصحَّفة يوهم أن العرب كانت تَدِي القتلى بالحوافر، وهذا ليس بصحيح؛ وإنما كانت الدِّية عندهم من الإبل.

وأما موضع التصحيف في تلك اللفظة فهو حرف الفاء، وصوابه الثاء المثلثة، وأصل اللفظة «الحواثر»؛ قال في «الجمهرة»: «وقتل طرفةَ رجلٌ من الحواثر يقال له: أبو رشية؛ وقبره اليوم معروف بهجر، بأرضٍ لبني قيس بن ثعلبة، وودته الحواثر إلى أبيه؛ لِما كان مِن قتلِ صاحبهم إياه، بعثوا بالإبل حسبة»[5]

وقال في «الشعر والشعراء»: «وأما طرفة فمضى بالكتاب، فأخذه الربيع، فسقاه الخمر حتى أثمله، ثم فصد أكحله، فقبره بالبحرين، وكان لطرفة أخ يقال له معبد بن العبد، فطلب بدِيَتِه، فأخذها من الحواثر»[6]

ففي رواية «الجمهرة»، و«الشعر والشعراء» ذِكر «الحواثر» -بالثاء المثلثة- وهم بطن مِن بني عبد القيس[7]، وهذا هو الصواب؛ قال المتلمس [ت: 569م][8]

لن يَرْحَضَ السَّوآتِ عن أحسابِكم*** نَعَمُ الحواثرِ إذْ تُساقُ لمعبدِ[9]

و«النَّعَم» هي الإبل خاصة، وأحيانًا يدخل فيها البقر والغنم، لكن ليس منها الخيل أبدًا[10]، وهذا كله يؤكد أن ذِكر «الحوافر» -بالفاء- هنا لا وجه له، وأن الصواب «الحواثر» بالثاء المثلثة.

وكثيرًا ما يقع مثل هذا الخطإ بسبب سوء التعامل مع كتب التراث، وعدم مراعاة ما يقع من لبسٍ في النسْخ أو في القراءة، ويمكن للناقد البصير استنباط هذه الأخطاء، والرد عليها من خلال منهج استقرائي صحيح.

الفهارس:

[1] «فتح المغيث بشرح ألفية الحديث للعراقي» للسخاوي (4/ 57)، تحقيق: علي حسين علي، طبعة: مكتبة السنة- مصر، الطبعة الأولى 1424هـ- 2003م.

[2]  «الأعلام» للزركلي (3/ 225)، طبعة: دار العلم للملايين، الطبعة الخامسة عشرة 2002م.

[3] «شرح المعلقات السبع» للزوزني (ص 44)، تحقيق: لجنة التحقيق في الدار العالمية، طبعة: 1413هـ- 1992م، و(ص 81)، طبعة: دار إحياء التراث العربي، الطبعة الأولى 1423هـ- 2002م.

[4] «شرح المعلقات السبع» للزوزني (ص 81)، طبعة: دار إحياء التراث العربي.

[5]  «جمهرة أشعار العرب» لأبي زيد القرشي (ص 93)، حققه وضبطه وزاد في شرحه: علي محمد البجادي، طبعة: نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع.

[6]  «الشعر والشعراء» لابن قتيبة (1/ 186)، طبعة: دار الحديث- القاهرة 1423هـ.

[7] «لسان العرب» لابن منظور (4/ 165)، طبعة: دار صادر- بيروت، الطبعة الثالثة 1414هـ.

[8] «الأعلام» للزركلي (2/ 119).

[9] البيت من الكامل، في ديوان المتلمس (ص 150)، تحقيق: حسن كامل الصيرفي، طبعة: معهد المخطوطات العربية بجامعة الدول العربية 1390هـ- 1970م؛ ويرحض: يغسل. «لسان العرب» لابن منظور (7/ 153).

[10] انظر «لسان العرب» لابن منظور (12/ 585).