الصبا ولى وراح، وزمان الأماني واللهو واللعب في النهاية محض سراب، صار خبرًا من الماضي، وما عاد لهُ من عذر! فقد راعهُ ما تصنع الأيام بالأعمار، وصار لا يملك سوى هـذا الحاضر، ويخشى على خطاه فزمان الجد لاح، ليزهد في وتره، وليضع أقنعتهُ ويقـفزَ من غفلته ونومه، ويجمع حقائبهُ، قبل أن تكبر الخسائر والجراح، ويلف أمتعتهُ، ويسير في وضوح، إن تسنى له أن ينسى، ليمتلئ بحاضره ولقد عزم، اختار وشمر، لينتقي بدايته الجديدة، على أن غـدي سيبدأ الآن، فلن يعود كما كان، الماضي ذهب إلى الماضي سريعا.. وأوراقهُ تتساقطُ اتباعا، يحسُّ بأنَّهُ على مشارف النهاية، ولن يعود كما كان، فما كان مجتمعا تفرق، والثلاثة حلَّتْ مَحَل الإثنين، والشَّيْبُ غزا الرأس، وما كان قريبا صار بعيدا، وإنَّهُ يَتساءل: لم وجوهٌ تتغير بشكل كبير، وأخرى تبقى على حالها إلا قليلا؟ وعموما ها هُو صارَ يعرفُ الآن ما تصنع الأعوام بالإنسان…! لذا سينطلَق مع أول خيط أبيض من الفجر….
قطع كل التلال، لا شيء غير البرد والثلج، مصاب بخيبة أمل، أجج سخطه على حظه وعتبه على زمانه ونقمته، صحبته الخيبة سنوات، ومع ذلك لم تكثر شكواه وثورة نفسه، لم يرتفع عن هذه الحال، لم ينتكس ولم يَنْـدُب حظه، أجل اضطربت أمـوره بمشاعر الخيبة، وكل من يسأله يزيـح عنه الطرف…تعب كثيراً فكثير من الأمور لم يستطع أن يجد لها تفسيراً، ذلك أن الأشياء التي يريدها لا تتحقـق أبدًا، وما لا يريده يتعقـبه ويلاحقه باستمرار. “الغـول” في رأسه يصورهُ كما يشاء…! يصالحه تارة، ويخاصمه طورا، ثم ها هو يسير مرفـوعَ الهامة موفور الكرامة، واثقاً راضياً متيقناً في صمود، مكابراً ومعانداً ليس لديه ما يخسرُهُ، يحمل أسراه، ولاَ يهمهُ شيء.. يقول في قرارة نفسه: “آه! من ويلات هذا الزمان، فلا شيء سوى الضياع.. ووجع الأمكنة، والجرح عميق، صحيح أنني تعبت…لكن نار الاشتياق تحركني، لازالت تضرم داخلي… فاشهر سيفك، فحيث تجئ الضربة فتمة أعداء، لن أستسلم! أبدا، لن أستسلم! وسأواجه…أجل سأواجه!!
ثم سمع هاتفًا…! يولد الإنسان، ويموت الإنسان، وبداخله محيطات من الحزن…”ومهما كان أو كبر هذا “الغول”… واجِهْه، واجِهْه..! بالإصرار والعزيمة والصدق.