حديث النفس جنون أم عبقرية؟

حديث النفس ليس ظاهرة مرضية تجعل صاحبها مثارًا للسخرية أو متهمًا بالجنون، بل هو مجال فسيح يعبر فيه كل واحد منا عن مشاعره وانفعالاته، ويبث آماله وآلامه. إن النفس أنيس لا يمل من الإنصات، ولا يفارق صاحبه في الحل والترحال. وقد يجري حديث النفس في الغالب على الصور الآتية:
1- لفظي، أيْ يكون الحديث منطوقًا.. فإذا رأيتَ شخصًا ما يتحدث مع نفسه بصوت مسموع، فلا تحكم عليه بالجنون؛ لأن هذا أمر طبيعي جدًّا، وهو صورة من صور حديث الإنسان مع ذاته، كما أنه عبارة عن أفكار منطوقة.
2- غير لفظي، أي غير منطوق.. يجول بداخلك على صورة أفكار صامتة غير منطوقة.
3- وقد يأخذ شكل المشاعر أو الانطباعات، بل وأحيانًا استجابات جسدية لا تصاحبها أية كلمات، واترك لخيالك المجال لتخيل ذلك.
أما من حيث الوعي به، فيكون بصورة واعية وإرادية وهو الأقل. ويكون بصورة غير واعية وهو الغالب، وهذا النوع غير ملاحظ، ويجري في الذهن بصورة تلقائية عميقة.
أما من حيث النوعية والمضمون، فإنه -وللأسف- الغالب الأعم من حديث الذات، هو من النوع السلبي (80%) الذي يعمل ضدك. من ثم لو تأملنا وأخذنا ندوِّن ما يتلفظ به الناس من كلمات وعبارات، فسنجد عجبًا؛ ستجد من يقول أنا ذاكرتي ضعيفة، أنا غير محظوظ، أنا دائمًا متوتر، أنا طبعي الغضب، أنا لا أستطيع، كل الظروف ضدي، ليس لي في الدنيا صديق، هذا مستحيل، أنا أكره وظيفتي.. وعدد ما شئت من عبارات سلبية تعمل كل يوم على برمجة أذهاننا، وتشكيل حياتنا.. هذه عينة من العبارات المنطوقة التي نتحفظ عادة في صياغتها، مراعاة للجانب الاجتماعي، فما بالك بالأفكار السلبية السوداوية غير المنطوقة التي تجول في دواخلنا!

قواعد تحدد المصير

1- التقبل السلبي (أنا لا أستطيع): وهذا النوع هو في أسفل القائمة، وفي نفس الوقت هو أشدها خطورة؛ إنه التقبل السلبي الذي تعبّر من خلاله بأشياء سلبية أو سيئة عن نفسك وتَقبَلها وتوافق عليها. وهذا النوع سهل الملاحظة، وعادة ما يأتي على شكل عبارات “أنا لا أستطيع، يا ليتني أقدر، أتمنى لو كنت أستطيع ولكني لا أستطيع”.. وهذا النوع من حديث الذات يعمل ضدك، وهو للأسف أكثر الأنواع استعمالاً لدى الناس، كما أنه عبارة عن شكوك ومخاوف وتردد ويأس.
ولك أن تتصور النفس التي تتبرمج على مدى سنوات بمثل هذا النوع السلبي من حديث الذات. ولعلك الآن أدركت سبب انتشار مشاعر الفشل والإحباط والصراعات والأحقاد والكراهية بين الناس.
عقلك الباطن يستمع إليك وينتظر تعليماتك، ولا يهمه ما تقول له، إنه فقط ينفذ، وإنه خادمك المطيع، ولكن لا تبرمجه بالتعليمات السلبية فينقلب ضدك.
2- الاعتراف والحاجة إلى التغيير (أنا محتاج أن): وهذا النوع من حديث الذات محير نوعًا ما، فهو يبدو في الظاهر أنه يعمل لصالحك، ولكنه في الحقيقة يعمل ضدك، ولكن كيف؟
أنت من خلال هذا النوع تعترف بحاجتك إلى التغيير إلى الأفضل وهذا شيء جيد، ولكن كيف يعمل ضدك وقد بدأت بالاعتراف بوجود المشكلة؟
نعم، أنت تعترف بالمشكلة ولا تقدم الحل، والعبارات الآتية ضمن هذا النوع تنتهي بتأكيد وترسيخ المشكلة في عقلك الباطن: أنا أريد أن أترك التدخين ولكني لا أستطيع، أعترف أن وزني زائد ولكن لا يمكنني تخفيضه، أتمنى لو أستطيع ولكن لا فائدة.
3- القرار بالتغيير (أبدًا لن): وهذا المستوى هو النوع الأول من حديث الذات الذي يعمل لصالحك، فمن خلاله تعترف بالحاجة إلى التغيير، وتتخذ القرار لعمل شيء ما، ومن خلاله تحدد قرارك في صيغة الفعل المضارع وكأن التغيير يحدث الآن فعليًّا. وأما العبارات التي تتردد في هذا النوع: أنا لا أدخن، أنا لا آكل كميات من الطعام أكثر من الحاجة، أنا لا أغضب، أنا لا أتضايق عند ذروة المرور، أنا لا أؤجل عملي.
وعندما تنتقل إلى هذا المستوى من حديث الذات أو النفس، فإنك بصورة تلقائية ستجد نفسك قد بدأت في إعادة صياغة ما كنت سابقًا تبدؤه عادة بقولك “لا أستطيع”، وترمي ذلك خلف ظهرك، وتبدأ في إعادة صياغة الجمل بصورة إيجابية، وكأنك تقول لعقلك الباطن “قم واستيقظ وأحدث التغيير”.
وباستخدام هذا النوع الجيد من حديث النفس، تتحقق تغييرات إيجابية في جوانب نفسية معينة، لأنه بنّاء وإيجابي ومحدد.
4- هذا ما تستحقه (أنا): وهو النوع أو المستوى الأعظم أثرًا إيجابيًّا من حديث الذات، ولكنه -للأسف- الأقل استعمالاً والأندر لدى غالبية الناس، وهو أحوج ما تكون إليه. فمن خلال هذا النوع ترسم صورة جديدة تمامًا لذاتك وكيانك، ترسمها كما تريدها وتسلمها لعقلك الباطن، ثم تقول له “هذه هي الشخصية التي أريد، انسى كل البرمجة السلبية التي كنتُ أغذيك بها في الماضي، هذا هو برنامجك الجديد، ودعنا منذ اليوم نبدأ العمل بموجبه”.
وأما العبارات التي تتردد عادة في هذا المستوى من حديث الذات فهي: “أنا سعيد، أنا منظم لأموري وحياتي، أنا بصحة طيبة”، أنا متحمس، أنا أختار الأفضل دائمًا”.
وإذا بدأت تتحدث مع نفسك بهذا المستوى، فستجد أنك قد بدأت تتعامل مع المشاكل والفرص بطريقة بناءة وفاعلة جديدة. إن هذا النوع من حديث الذات أو النفس، هو حديث النفس الإيجابي الذي يسهم في إحداث التغيير نحو الأفضل في حياتك النفسية والاجتماعية والعملية. إنه عكس النوع الأول؛ لأنك من خلاله تستبدل “أنا لا أستطيع” بـ”أنا أستطيع”. كما أن هذا النوع يحفزك ويلهمك ويشجعك، ويلامس قلبك وأمنياتك، ويرسم الصور الملونة لأحلامك، ويدفعك إلى الأمام، ويمنحك العزيمة الصلبة، ويملؤك بالثقة والطمأنينة.
ابدأ من اليوم في استعمال هذا النوع من حديث النفس، واجعله بديلاً للأنواع السلبية التي تثقل حياة الناس بالآلام والهموم والمرارة، جرّب وسترى النتيجة المرضية، قم بصياغة العبارات والجمل الإيجابية التي تناسب حاجاتك النفسية ونوعية التغيير الذي توده في حياتك، اكتبها وكررها أكثر من مرة في اليوم وسترى التغيير بنفسك. وطبّق، لأن الذي يطبق هو فقط الذي يستفيد، ودع جانبًا اليأس واحرص على التغيير الإيجابي في حياتك.

(*) كاتب وباحث مصري.