تاريخ الفلسفة يزخر بكم هائل من أنماط التعبير الفلسفي، وقد تعددت هذه الأنماط بتعدد الحضارات الإنسانية، فنمط التعبير الأرسطي ليس هو الأفلاطوني، وهذا الأخير ليس نسخة طبق الأصل لأستاذه سقراط، وهكذا في كل الحضارات الإنسانية؛ بحيث لا يمكن الحديث عن النسخ المنهجي المتطابق نظرًا لخصوصية كل حضارة ومستجداتها.. وعليه فإن الحديث عن الفلسفة الإسلامية هو حديث عن خصوصية هذه الحضارة. ومما يعلمه الجميع أن هذه الأخيرة لها امتداد في التاريخ البشري، لكن خصوصيتها تتجلى في بعثة الرسول محمد بدين جديد يحمل لواء العلم والتعلم (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ)(العلق:1-4). وقد توسعت هذه الحضارة وعلا شأنها في عديد من المجالات بعد تحقّق فعل القراءة. وبما أن التعقل والبحث العلمي الدؤوب كان من سمات هذه الحضارة، فقد تُرجم في عزّها أعمال علمية عديدة؛ هندية وفارسية ويونانية.. وبالتالي فقد كان لزامًا أن يتأثر المسلمون بفلسفات مختلفة، أبرزها الفلسفة اليونانية؛ فقد ترجموا لأفلاطون وأرسطو وأفلوطين وغيرهم. ولم يكتفِ فلاسفة الحضارة الإسلامية بالترجمة فقط، بل شرحوا وعلّقوا وأضافوا وفق ما يناسب منهجهم في التفلسف.
إن مثل هذه الخلاصة السريعة تدفعنا إلى طرح سؤال منهجي قد يبدو بسيطًا لأول وهلة، لكنه عميق في جوهره يلخص الجدل الفكري الذي ما زال قائمًا حتى يومنا هذا، وهو هل هناك فلسفة إسلامية؟ أو بتعبير آخر، هل هناك نمط تعبير فلسفي جديد عند المسلمين؟ رغم أننا ندرك تمام الإدراك أن هذه الأسطر لا تُروي العطشان ولا توفي المطلوب حقه، غير أننا نعتبرها أرضية للنقاش المستفيض حول الموضوع قد تنير الطريق لمن أراد الاستزادة والتعمق.
الفلسفة الاسلامية بين الوجود وعدمه
إن كل باحث في تاريخ الفلسفة عندما يصل إلى مرحلة التفلسف عند المسلمين، سيجد نفسه أمام مسألة غاية في التعقيد، متمثلة في إشكالية فعل التفلسف عند المسلمين. فقد زعم في هذا الصدد كثير من المستشرقين بأن الفلسفة الإسلامية ما هي إلا تكرار لما قاله فلاسفة اليونان، والشيء الوحيد الذي فعله فلاسفة الإسلام، هو نقلهم التراث اليوناني إلى الثقافة العربية الإسلامية، بفعل الضرورة والحاجة التي فرضتها الظروف الثقافية والسياسية. ومن أبرز من نازع في وجود فلسفة إسلامية “إرنست رينان” (ErneSt Renan) (1823-1892) عميد حركة الاستشراق في فرنسا وأوروبا كلها في القرن التاسع عشر، حيث يؤكد في كتابه “تاريخ اللغات السامية” على أن التفلسف لا يمكن أن يكون بتاتًا من نصيب الشعوب السامية (نسبة إلى الساميين)، فهذه الأخيرة “لا تصلح للنظر العقلي الفلسفي، ولا لإنجاب الفلاسفة”. وقد ادعى أن الفلسفة العربية ليست سوى فلسفة يونانية نافيًا أصالتها، وأنكر على قاعدة الفهم الاستشراقي/العرقي أهلية المسلمين والعرب للتفلسف، وفي كتابه المذكور أعلاه جزم أنه “من العسف أن نطلق اسم فلسفة عربية على فلسفة لا تعدو أن تكون استدانة من اليونان، وما كان لها أي جذر في شبه الجزيرة العربية، فهذه الفلسفة مكتوبة بالعربية ليس إلا”. وهناك مستشرق آخر من ألمانيا اسمه ” تنمان” (Tennemann) (ت 1819) أثبت في كتابه “المختصر في تاريخ الفلسفة”، أن المسلمين لم يكونوا أصحاب إبداع فلسفي وخاصة في الجانب النظري منه.
ورغم هذا التشويش على وجود الفلسفة الإسلامية وما قدمه هذا الفريق من حجج يزعم أنها عائق أمام تفلسف المسلمين، إلا أنها لم تصمد أمام النقد العلمي الرصين، فقد ردّ “غوستاف دوغا” (G. Dugat) على المنكرين للفلسفة الإسلامية بالقول: “إنما هي أحكام تذهب في الإطلاق إلى حد الشطط.. وما مصدرها سوى سوء التحديد للفلسفة الإسلامية، يضاف إليه جهلنا بما للعرب من مصنفات فلسفية غير شروحهم على مؤلفات أرسطو. وما أسوق إلا شاهدًا واحدًا، فهل يظن ظان أن عقلاً كعقل ابن سينا لم ينتج في الفلسفة شيئًا طريفًا ولم يكن سوى مقلد لليونان؟”.
وسيرًا على هذا النهج يقف “فول مونك” (Full Monk) مدافعًا عن وجود الفلسفة الإسلامية، معتبرًا أنها مرت بأطوار متعددة مثلها مثل الفلسفة في العالم المسيحي، إذ يقول: “وعلى العموم يمكننا أن نقول إن الفلسفة لدى المسلمين لم تتقيد بمذهب المشّائين صرفًا، وإنما هي توشك أن تكون قد تقلبت في جميع الأطوار التي مرت بها الفلسفة في العالم المسيحي، فنحن نجد فيها مذهب أهل السنة الواقفين على النصوص، ومذهب الشك، ومذهب الفيض، بل ونجد فيها مذاهب شبيهة بمذهب “سبينوزا” (Spinoza)، ومذهب وحدة الوجود الحديث”.
إن أحكامًا كثيرة تغيرت بفضل البحوث الجادة التي اعترفت للفلسفة الإسلامية بجدتها، وطابعها الخاص في البحث والتحليل وعلاج القضايا، ومن بين الفلاسفة الذين انتهجوا لأنفسهم طريقة خاصة في البحث الإمام “أبو حامد الغزالي”، فقد قال عنه “رينان”: “إنه الوحيد بين الفلاسفة المسلمين الذي انتهج لنفسه طريقًا خاصًّا في التفكير الفلسفي”. وتعزيزًا لهذا الطرح فقد ذكر الباحث المصري “مصطفى النشار” في كتابه “مدخل إلى الفلسفة”: “والجدير بالاعتبار أن نعرف أن الإمام الغزالي (450-505هـ) كان من أعظم الشخصيات الإسلامية وأكثرها عمقًا وأصالة، رغم أنه قاد تلك الحملة المزعومة على الفلاسفة”.
منهج الغزالي في البحث تجديد أم تقليد؟
في التراث الإسلامي إذا ذكر الغزالي فأنت أمام علَم من أعلام الحضارة الإسلامية بدون منازع، هذه حقيقة لا ينكرها إلا معاند، مع العلم أن كل باحث يجد ضالته في الغزالي لسبب بسيط، وهو أنه كان عالمًا موسوعيًّا رافعًا شارة البحث عن الحقيقة والنقاش العلمي الرصين، فقد ناقش المتكلمين والباطنية والفلاسفة والمتصوفة، وكتب في الأصول والفروع.. ومن ثم فمن أراد قراءة الغزالي، فعليه أن يقرأ حياته أولاً، لأنها تخبر بكثير عن الأسرار العلمية والمنهجية على الخصوص.
يظهر ذلك جليًّا عندما تطالع بعضًا من كتبه، مثل “مقاصد الفلاسفة”، أو “تهافت الفلاسفة”، أو “المنقذ من الضلال”.. كان مبدعًا مجددًا، فقد وظف منهجًا دقيقًا في البحث والتحليل، وكان -رحمه الله- من منهجه أن لا ينتقد مذهبًا إلا بعد أن يستوعبه وزيادة. لهذا فقبل أن يكتب “تهافت الفلاسفة” الذي شن فيه الحملة المزعومة، كتب “مقاصد الفلاسفة”، فلم يكن من أولئك الذين يهاجمون الفلاسفة عن جهل، ودون أن يعرفوا ما هي الفلسفة وماذا قال هؤلاء الفلاسفة. ففي كتابه “مقاصد الفلاسفة” أكد على هذا النمط الفكري في البحث والتمحيص، إذ يقول: “فإن الوقوف على فساد المذاهب قبل الإحاطة بمداركها محال، بل هو رمي في العماية والضلال”، مدشنًا بذلك، السبق المنهجي المُتغنّى به حديثًا. فإذا كان “ديكارت” تصدّر منهجه الشكي دون الإشارة إلى الغزالي فإن مصداقية الباحث الحريص على الدقة ونسبة المعلومة إلى أهلها، تجدها واضحة عند الغزالي في كل كتبه، فهو لا يفتأ ينوّه بالمناطقة والمتكلمين والفلاسفة والمتصوفة، وكتاب “مقاصد الفلاسفة” أوضح دليل على هذا النهج. يقول في “المنقذ من الضلال”: “ثم إني ابتدأت بعلم الكلام، فحصَّلته وعقلته، وطالعت كتب المحققين منهم، وصنفت فيه ما أردت أن أصنف، فصادفته علمًا وافيًا بمقصوده غير وافٍ بمقصودي.. وابتدأت بعد الفراغ من علم الكلام، بعلم الفلسفة، وعلمت يقينًا أنه لا يقف على فساد نوع من العلوم من لا يقف على منتهى ذلك العلم، حتى يساوي أعلمهم في أصل ذلك العلم، ثم يزيد عليه ويجاوز درجته، فيطلع على ما لم يطلع عليه صاحب العلم من غور وغائلة، وإذ ذاك يمكن أن يكون ما يدعيه من فساده حقًّا”.
نختم بالقول إن منهج الاستيعاب والتمحيص والبحث الدقيق هذا، هو الذي بوّأ الغزالي عاليًا في سماء البحث العلمي. إنه بمنهجه -الذي يقوم على الشك كمدخل للحقيقة- استطاع أن يهدّم البناء الذي أنشأه فلاسفة الإسلام على أنقاض الفلسفة اليونانية، ويعدّ -بناء عليه- الفيلسوف الوحيد الذي لم يكتف مثل علماء الكلام باقتباس بعض مسائل الفلاسفة، بل قام بشرح وتمحيص جميع نظرياتهم، وحاول من ثم إظهار ضعف براهينها وفساد نتائجها، مستندًا في كل ذلك إلى نظرية خاصة في المعرفة تدل على دقة المشاهدة، وعمق النظر، وقوة التفكير. وعليه، فإن قوة منهج “الغزالي” تظهر بشكل واضح في قوة نقده للنظريات الفلسفية، وفي الشك الذي انتهجه طريقًا للوصول إلى الحقيقة، فقد بحث في نظرية المعرفة، ومعيار اليقين، وتوصل بعد الشك إلى بيان حقيقة العلم، بطريقة الحدس الباطني وبأسلوب يذكرنا بأساطين الفلسفة الحديثة.
من هذا المنطلق نقول إن نمط التعبير الفلسفي عند فلاسفة الإسلام، يختلف جذريًّا عن نمط فلاسفة اليونان، وفيه من الغنى والسعة والاختلاف ما نجده عند أساطين الفكر في كل الحضارات الإنسانية، فـ”ابن رشد” ليس هو “الغزالي” فيما يخص المنهج رغم التقاطعات التي يمكن ملاحظتها، فلو كان الأمر يتعلق بالتطابق المنهجي والفكري، لما شاهدنا هذا التنوع الحضاري البديع الذي يؤكد مسألة أساسية؛ وهي أن الإنسان ما إن يحقق فعل التعلم والعلم، حتى يصبح ذلك هو القوة الهائلة التي سخّرت من أجل تحقيق غاية أكبر منه يجد نفسه ضمنها، “إن قامت على أحدكم القيامة، وفي يده فسيلة فليغرسها” (رواه أحمد).. هذا دأب الإنسان؛ “خدمة الإنسانية”.
(*) كاتب وباحث مغربي.
المراجع
(1) محاضرات في الفلسفة الاسلامية: نظرية المعرفة في ثوب جديد، محمد مجمد الحاج حسن الكمالي، المؤسسة الجامعية للنشر والتوزيع، ط1 1993.
(2) الغزالي أبو حامد المنقذ من الضلال، تحقيق وتقديم: د. جيل صليبا، ود. كامل عياد، دار الأندلس بيروت، ط7.
(3) مدخل إلى الفلسفة النظرية والتطبيقية، النشار مصطفى، دار قباء الحديثة، القاهرة 2010.