جمالية العبادة الشوق إلى الله تعالى

تختزن العبادة في الإسلام معاني عظيمة، وتكتنز في أعماقها دررًا جليلة.. فهي كمياء السعادة الحقيقية التي تمدّ قلوب السالكين بمعاني القرب والأنس بالله عز وجل، وتشحن هممهم بالتعلق به وملازمة أعتابه، وتُلهب نار الحب والشوق إلى لقائه.. إنه مقام القرب والمشاهدة الذي قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: “أنْ تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك” (رواه البخاري). فمن تحقق به وذاق برد حلاوته فهو الفائز بالنعيم الأبدي، والحياة الطيبة.. فحياة المشتاقين إلى الله تعالى، كلها لذة وجمال؛ فهم بذكر حبيبهم يتلذذون، وإلى مشاهدة جماله وجلاله يتنعّمون.. قد أحرق الشوق أضلعهم، وألهب أفئدتهم، فلا يقرّ لهم قرار، ولا يهنأ لهم بال؛ حتى يتملوا بالنظر في وجه حبيبهم وقرة عينهم.. لذلك يتمنون لو يسرع بهم أجلهم للقاء بهجة روحهم وإثمد عيونهم.. قال أبو الدرداء رضي الله عنه: أحب الموت اشتياقًا إلى ربي.. وكان عبد الله بن أبي زكريا يقول: لو خيّرت بين أن أعمّر مئة سنة من ذي قبل في طاعة الله، أو أن أُقبض في يومي هذا، أو في ساعتي هذه، لاخترت أن أُقبض في يومي هذا، أو في ساعتي هذه؛ شوقًا إلى الله، وإلى رسوله، وإلى الصالحين من عباده.. قال أحمد بن حامد الأسود لعبد الله بن المبارك: رأيت في المنام أنك تموت إلى سنة، فلو استعددت للخروج، فقال له عبد الله بن المبارك: لقد أجلتنا إلى أمد بعيد، أعيش أنا إلى سنة؟ لقد كان لي أُنس بهذا البيت الذي سمعته من هذا الثقفي (يعني أبا علي):

يا من شكا شوقه من طول فرقته

اصبر لعلك تلقى من تحب غدًا

ففي “المواعظ” لابن الجوزي، أن بعض العابدات كانت تقول: والله لقد سئمت الحياة، حتى لو وجدت الموت يباع، لاشتريته شوقًا إلى الله وحبًا للقائه، فقيل لها: على ثقة أنت من عملك؟ قالت: لا والله.. لحبّي إيّاه وحسن ظني به، أَفَتراه يعذبني وأنا أحبه:

يا ناظر العين قل هل ناظرت عينى

إِليك يومًا وهل تدنو من البين

الله يــعــلــم أَنـــــــي بعـــد فــــرقــتــكـــم

كطـائـر ســـلبوه مـــن الجـناحيــن

ولـــو قدِرت ركبت الريح نحوكـم

فــإِن بعــدي عنكم قد حنا حيـن

فلولا أنهم يتعللون باللقاء، لقطعت أكبادهم شوقًا، ولاشتعلت قلوبهم نارًا من فرط حبهم وهيامهم بحبيبهم.

قال أحدهم: لولا التعلل بالرجاء لقطعت

نفس المحب صبابة وتشوقًـا

ولقــد يكــاد يــذوب منه قلبه

ممـا يقاســي حســرة وتحرقًــا

حتى إذا روْح الرجاء أصابه

سكن الحريق إذا تعلَّل باللقا

هذا الشوق الحار والحب الوقاد، الذي فاضت به قلوب السالكين وسالت بها أقلامهم، يبعث في النفوس همة عالية، وشعور جميل يسري في الروح، ويروي القلوب المتعطشة لزلال الحضرة العلية.. هذه التجربة السلوكية القلبية تغرينا حقًّا بأن نخوض غمارها ونسلك طريقها.

فيا لها من معاني ورقائق، لا يستشعرها إلا من هبت نسمات القرب عليه بعد طول الانتظار، ففاض قلبه وأرواحه حبًّا وعشقًا، وبُشر بنيل الوطر ولسان حاله يقول: من ذا يبشرني بيوم اللقاء

أعطيه مــن فــرط الســـرور ردائـــي

لـــولــم أكــن عبــدًا لكــنت

وهبته روحي وتلك هدية الفقراء

ويقول أحد الهائمين:

نسيم القرب هب على الندامى

فأسكـرهم وما شربوا المدامة

ومالــت منهــم الأعــطاف ميــلاً

لأن قلـــوبهـــم مـلـئـــت غـــرامًـــا

ونـــاداهــم عـــبادي لا تــنـامـــــوا

ينـــال الوصل من هجر المناما

وما مقصـودهــم جــنات عــدن

ولا الحور الحسان ولا الخياما

سوى نظر الجليل فذًا مناهـــم

فيــا بشــــــرى لهـــم قــــوم كــــرامًا

هذا الشوق الكبير إلى الحبيب لا يمكن وصفه؛ فهي عبرات لا يفهمها إلا المشتاق، وأحاديث وترانيم لا تروق إلا للعشاق، بل هي أذواق يعيشها المحب، وتسري في قلبه وروحه ووجدانه وجسمه، فيستسهل كل صعب، ويسترخص كل غال ونفيس، ويبذل في سبيل حبه كل مجهود.. ويستعذب الموت، ويستطيب الفوت لما عاين جمال حبيبه، ولم ير طعم الراحة إلا في جنبات أعتابه، ولا يذوق الطمأنينة إلا في رحاب حبيبه.

لولا مدامعُ عشاق ولوعتهـم

لبان في الناس عز الماء والنار

فكل نار فمن أنفاسهم قدحت

وكــل مــاء فمــن دمــع لهــم جار

فهذا حال المشتاقين وحال المحبين؛ لا يفترون لحظة عن ذكر حبيبهم وقرة عينهم وبهجة نفوسهم، لا يعزب عنهم محبوبهم طرفة عين.. فإذا تكلموا نطقوا به، وإذا سكتوا أمعنوه بقلوبهم وفكرهم.. قال سلطان العاشقين ابن الفارض:

فإن حدثوا عنها فكُلي مسامع

وكلي إن حدثهم ألسُن تتلو

وقال أحدهم:

ما عنك يشغلني مال ولا ولد

نســــيت باسمـــك ذكـــر المـــال والـــولـد

فلو سفكت دمي في التـرب

لانكتبت به حروفك لم تنقص ولم تزد

وقد ذكر ابن الجوزي أن أحد الهائمين -وهو أبو العباس أحمد الرفاعي- مات بسبب أبيات أُنشدت بين يديه، وهي أبيات كلها شوق حارق، ومعنى فياض نابع من قلب متعلق بالملأ الأعلى.. فتواجد الشيخ أحمد الرفاعي عند سماعها تواجدًا كان سبب مرضه الذي مات فيه، وكان المنشد لها الشيخ عبد الغني بن نقطة حين زاره، وهي:

إذا جــن ليلــي هــام قلبــي بذكــركــم

أنــوح كما ناح الحمام المُطوق

وفوقي سحاب يُمطر الهم والأسى

وتـحتــي بـحـار بالأســـى تتدفــق

سلـوا أُمَّ عمـرو كيـف بات أســيرها

تُـفَكُ الأسارى دونه وهو مُوثق

فــلا هــو مقتــول ففــي القتــل راحـة

ولا هـــو مأســـور يُفــك فيُطـلــقُ

فهذه المعاني الروحية التي ينتعش لها القلب وتطرب لها الروح، تغرينا بخوض غمار التجربة الروحية، والغوص في أسرار العبادة، وتذوق جماليتها، والعيش في أحضانها.. لعلنا نصيب من نفحاتها ما يجعلنا نسعد ونحيا حياة أهل النعيم في الحال والمآل.

 

(*) كاتب وباحث / المغرب.