لقد كان فلاسفة العصور الوسطى يقولون إن للعمل مهمة مزدوجة: لأنه لا بد للعامل من أن يحقق شيئًا من جهة، كما أنه لا بد من أن يصنع ذاته -حين يعمل- من جهة أخرى. فالعمل ينصب على الطبيعة ويتجه نحو العالم الخارجي من جهة، ولكنه يرتد إلى الإنسان وينعكس على الفرد نفسه من جهة أخرى. ولا بد للعامل من أن يجد نفسه مضطرًّا إلى الخضوع لشريعة العمل، أو النزول على حكم الشيء المصنوع أو الأثر المتحقق نفسه.
والسبب في ذلك أن “العمل” يلزمنا بالموضوعية، ويضطرنا إلى “نسيان الذات” ما دام المهم في “الإنتاج” هو”الناتج” نفسه، لا نية الفاعل، أو أخلاقياته؛ ومن هنا فإننا سنستشير الطبيب الماهر،ونتعامل مع الصانع الممتاز، ونرقي الموظف الكفء، بغض النظر عن ميوله السياسية، أو اتجاهاته الحزبية، أو مذهبه الديني، أعني لمجرد أنه يتقن عمله، ويجيد حرفته، ويقوم بأداء واجبه على الوجه الأكمل، ولعل هذا ما حدا بالفنان “رودان Rodin” إلى تمجيد “العمل الجيد” أو “الصناعة المتقنة” باعتبارها صورة من صور الفن.
ويعتبر العمل واجبًا إسلاميًّا على كل فرد، حيث أن قواعد الإسلام، وسلوك الأنبياء والصالحين تشير إلى وجوب العمل فى مختلف أشكاله، فقد كان إدريس عليه السلام خياطًا، وزكريا عليه السلام بحارًا، وموسى عليه السلام أجيرًا، ومحمد صلى الله عليه وسلم تاجرًا مع عمه أبي طالب، ثم لحساب خديجة بنت خويلد قبل أن يتزوجها وكذلك كان راعيًا للغنم ولا يجوز لنا أن نستهين بأي مهنة أو حرفة مهما بدت ضئيلة القيمة، فإنها فى النهاية لها أهميتها فى حركة الحياة، ولا تستقيم الحياة بدونها، والتوجيه النبوي يقول:”اعملوا فكل ميسر لما خلق له”.
الحاجة إلى تحقيق الذات
إذا تصورنا حياتنا وقد خلت تمامًا من كل المشكلات التي تتطلب الحل، وانمحت منها شتى الصعوبات التي تستلزم المواجهة، وارتفعت عنها سائر المعضلات التي تحتاج إلى المعالجة، وانعدمت فيها كل المخاطر التي تحفزنا إلى المجاهدة … فهل ستكون مثل هذه الحياة حياة سعيدة، ترتاح إليها نفس الإنسان، ويقنع بها عقله، ويطمئن إليها قلبه؟ ألن تكون هذه الحياة رتيبة مملة، تخلو من كل قيمة، ولا تحقق لصاحبها أدنى سعادة؟
إن الإنسان ـ كما أكدت دراسات الروح المعنوية فى الصناعة، ودراسات الإشباع الاجتماعي المهني ـ لا يعمل لمجرد الحصول على الأجر أو لمجرد الحصول على الطعام والمأوى، وإنما بجوار ذلك الهدف فهو يعمل لإشباع مجموعة من الحاجات، كالحاجة إلى الأمن والاحترام والتقدير، والحاجة الفسيولوجية، والحاجة إلى تحقيق الذات وسعادتها.
إن الإنسانية ممثلة بمجتمعاتها المختلفة خلال تاريخها كانت تعيش أغلب حياتها بلغة العمل، وكان علماء الآثار يقيسون مدى التطور الذي بلغه الإنسان الأول بالفحص الدقيق لأدواته البدائية المُكتشفة، وعلماء الأجناس والأنثربولوجيين يستعينون بالعلاقات المختلفة للمجتمع بالعمل لتحديد أوجه التباين فى المميزات الثقافية لمجموعة مختارة من البشر.
إن “العمل” ليس المصدر الرئيس للدخل فحسب، وإنما هو أيضًا مصدرًا فى تقدير الذات ومنحها الإحساس بالسعادة.
ونحن لا نقصد هنا بالعمل القيمة المطلقة للعمل فحسب، كشيء فطري فى الخلق، وإنما نعني بالعمل ارتباط الفكر بساحات الأداء البشري المفصل، واتصال المعارف بالتجربة والتطبيق، فالواقع الراهن يؤمن بالحركة العملية فهو لم يعد شغوفا بالفلسفة النظرية والتأملية الخالية من المعنى، بل إن العمل يُعطي للأفكار قيمتها، وإشعاعها، ويبرهن على عبقرية الجهد الإنساني الواقعي؛ وقد كان هذا طابع العمل فى الحضارة العربية والإسلامية، بخلاف كثير من الحضارات السابقة، التى نظرت إلى العمل نظرتها إلى شيء دنئ ومنحط، ولذلك أعلت من شأن الفكر وحياة التأمل وأعرضت عن حياة العمل والممارسة والتجربة بخلاف التوجه الإسلامي الذي دعا الإنسان إلى الاهتمام بالصناعات بقدر اهتمامه بتحصيل العلوم النظرية والسعي إلى فهم الكون والوجود فهما عقليًّا وروحيًّا.
الإسلام والعمل
يكاد يكون من المعلوم من الإسلام بالضرورة أن العمل شيء يُطلب، ويُحث عليه، وتحصل بسببه المثوبة وقد نوه القرآن الكريم ببعض الصناعات الهامة على عهد نزوله، بالنسبة للمجتمع الإسلامي تنويها يشير إلى عظيم أثارها وجليل فضلها، وإلى أنها من أكبر النعم التى يمن بها الله على عباده فقد نوه بمختلف الصناعات والحرف البشرية، مثل صناعة الحديد والنسيج، والرعي والتجارة وبناء السفن وغيرها من الحرف والصناعات.
ومن الحقائق المستفيضة أنه كان من كبار فقهاء المسلمين عمال يأكلون من عمل أيديهم، وممن يُذكرون فى هذا المقام على سبيل المثال: الفقيه الكبير أبو الحسن أحمد بن محمد القدوري الذي كان يشتغل بصناعة القدور. والفقيه الكبير أيضًا أحمد بن عمر الخصّاف الذي ألف كتبا عظيمة فى الفقه، ومنها كتاب “الخراج “، كان يعيش من خصف النعال. والثعالبي رأس المؤلفين فى زمانه نسب إلى”الثعالب” لأنه كان يعمل فى خياطة جلودها، أو قيل له ذلك لأنه كان فرّاء.
ولا ننسى كثيرا من أسماء العلماء والفلاسفة والمتكلمين التى اقترنت بحرف وصنائع فى التراث العربي والإسلامي مثل الغّزالي إمام أهل السنة الذي نسب لصناعة الغزل، وأبو الهزيل العلاف المعتزلي والذي ينسب لتجارة العلافة، وكذلك الإسكافي الذي هو إمام المعتزلة فى عصره أشتهر بصناعة الأحذية والنعال وغيرهم كثير كالبزّاز الذي اشتهر بصناعة الملابس والأردية، والنسّاج، والزجّاج عالم اللغة المشهور، كما اشتهر أبو حيان التوحيدي ومن قبله أستاذه الجاحظ بالورّاق أي نسخ الكتب والمخطوطات من أجل تأمين ضروريات الحياة رغم اشتهارهما بالأدب واللغة وبروزهما كعلماء موسوعيين فى عصرهما.
ولا نتوقف هنا عند العمل الجسدي فقط، بل إن النشاط الذهني للإنسان لا بد أن يستحيل إلى نشاط عملي”هادف”، وإلا أصبح حلمًا واهيًا، أو سرابًا خادعًا، أو صورة من صور “الهروب فالمعيار الأوحد الذي نستطيع عن طريقه أن نحكم على “الحقيقة” التي يؤمن بها أي مفكر، إنما هو مدى قدرتها على تغيير العالم وإصلاح الإنسان، خصوصا وأن الفكر الصادق هو بلا شك ذلك الذي يرتد إلى نفسه فيغير من طبيعة صاحبه، ويلزم بالانصياع لمبادئه. إن الذات الإنسانية تتحقق في العالم الخارجي من خلال الأعمال التي تنجزها، والأفعال التي تؤديها، بحيث أنها لتصبح مركز إشعاع ذاتي في العالم الذي نعيش فيه. ولذلك فهناك سمة عامة تميز كل نشاط أخلاقي، وتلك هي الرغبة الملحة التي تفرض على الناس أن يتواصلوا، ويتفاهموا، ويتقاسموا عواطفهم ومشاعرهم وأفكارهم، بحيث يمتد كل منهم بذاته إلى الآخرين، أملاً من وراء ذلك أن يطبع صورته في نفوس الآخرين، حتى يكونوا له شهودًا ومعاونين إن لم نقل شركاء ومقلدين! ومهما يكن من شيء فإن “العمل” الذي نقوم به لابد من أن يترك أثره في حياتنا الخاصة من جهة، وحياة الآخرين من جهة أخرى، وحين تحدث”مونبييه (زعيم النزعة الشخصانية في فرنسا) عن أبعاد الفعل الأربعة، فإنه كان يعني أن الفعل يعدّل من الواقع الخارجي، ويصنع ذواتنا، ويقربنا من الناس، ويثري عالم القيم.
لقد بقي “العمل” موضوعًا يستأثر باهتمام علماء الاقتصاد ورجال السياسة، وعلماء الاجتماع، وأهل الأخلاق، بينما ظل الفلاسفة يوجهون معظم انتباههم إلى دراسة “الفكر”، دون العناية بالخوض في بحث”الفعل” والعمل، ولم يلبث أهل الفكر المعاصر أن فطنوا إلى هذا النقص في دراستهم للموقف البشري، فاتجهوا بأبصارهم نحو معنى النشاط العملي وراحو يدرسون دلالاته وانعكاساته على حياة الإنسان.
فلسفة التربية الحياتية وأهميتها
وفى الحقيقة نشأت حركة التربية الحياتية نتيجة لمشاكل اقتصادية واجتماعية أجبرت القائمين على المؤسسات التربوية على البحث فى إيجاد مجتمع يلم أفراده بالمهارات والخبرات المعيشية كما أن الاهتمام الذي تبديه المجتمعات المتطورة بالحركة يرجع أيضًا فى أساسه إلى الافتراض القائل بأن شباب العصر الحالي لم يعد يرغب بالقيام بشتى الأعمال بدرجة الأجيال السابقة.
ويشير المربون التربويون بأنه عند مناقشة أولياء الأمور حول طموحاتهم فى تعليم أبنائهم ـ خاصة فى العالم العربي ـ تبرز أسطورة مهنية وراء الأسباب التى تدفعهم إلى متابعة واستمرار تعلم الأبناء وهي الحصول على الشهادة الجامعية في حين يرى الاقتصاديون والسياسيون ورجال الأعمال المهتمون بالإنتاجية بأنه يجب ألا يمنع التعليم فى الجامعة، غير أنه ينبغي ألا يستمر فى إعلانه الطريق المقبول الفعلي والوحيد للتهيئة للحياة الوظيفية والمهنية، وبأنه ينبغي عدم التشديد على أن الشهادة الجامعية شرط أساس للنجاح المهني فى الحياة، حيث إن ذلك يتجاهل العلاقات الوثيقة المتزايدة بين التربية والعمل.
إن الذات الإنسانية تتحقق في العالم الخارجي من خلال الأعمال التي تنجزها، والأفعال التي تؤديها، بحيث أنها لتصبح مركز إشعاع ذاتي في العالم الذي نعيش فيه.
وينتقد هؤلاء الافتراض السائد بأن أفضل طريقة لتهيئة التلاميذ للعالم الواقعي هو بقاؤهم منعزلين عن ذلك العالم، ويؤكدون على أهمية أن تقوم المرحلة الابتدائية بتدريس المهارات الأساسية اللازمة للنجاح فى كل أنواع الوظائف باعتبار أن التعليم أداة لإكساب المهارات والخبرات الحياتية، ولذلك يؤكد الباحث “سعد الهاشل” على ظهور “التربية الحياتية” فى العالم المتقدم بشكل واضح فى أواخر الستينات وأوائل السبعينات من القرن الماضي، وتدور حول ربط مناهج التعليم بالواقع الوظيفي والحياتي، وبإبعاد العزلة القائمة بين التعليم النظري وبين التعليم التطبيقي العملي، وبإعداد التلاميذ سواء من يكمل الدراسة الجامعية أو لا يكملها، لمجالات حياتية مختلفة بتركيز المقررات التدريسية الحالية حول تلك المجالات
هنا تأتي أهمية التربية الحياتية، والتى تبدأ مع تنشئة الطفل العربي فى مراحل دراسته الأولى، خاصة وأن فلسفة هذه التربية ـ كما ذكرها “كينيث هويت” فى كتابه عن “التربية الحياتية “، تقوم على أساسين:
أولاً: أن جوهر السعادة البشرية هو الشعور بالقيمة الشخصية، مع عمل يكون المقوم الأساسي لهذا الشعور عند الأفراد.
ثانيًا: إن النجاح فى الحياة العملية لا يتطلب المهارات الضرورية للقيام بحرفة من الحرف فقط، وإنما يتطلب بالإٌضافة إلى ذلك الاتجاهات والقيم والقدرات العامة التى تؤثر فى مقدرة الفرد عند العمل وتقوده إلى أن يكون شخصا منتجا على مدى الحياة.
ومن هذا يتبين أن “العمل” ليس المصدر الرئيس للدخل فحسب، وإنما هو أيضًا مصدرًا فى تقدير الذات ومنحها الإحساس بالسعادة، وبحكم أن السعادة تعتمد اعتمادًا كبيرًا على القيمة الشخصية والتى تعتمد بدورها على الإنجازات الحياتية، لذا أصبح دور التربية فى إعداد الأفراد للإنجاز الذي يشكل مصدر السعادة هدفًا ذا أهمية بالغة، يتطلب من المدرسة والمؤسسات الوظيفية والمجتمع أن تكرِّس كامل طاقاتها لبلوغه، ولهذا أكد “فرانك براترند” فى بحث قدم فى مركز التعليم الفني والمهني فى جامعة أوهايو الأمريكية على أن أحد أهداف وظائف النظام التربوي هو مساعدة الفرد على تحقيق ذاته بطرق مقبولة اجتماعيًّا.