التأمل… تلك العبادة المفقودة

من أرقِّ العبادات وأجملها، ذو قيمة علمية عالية وراقية، فهو صفاءٌ للنفس والروح والقلب… يشعرك بجلال الله وعظمته وعزّته… فتعالوا معنا إذن لنركب زورق التأمل فنخوضُ عُبابَ البحر لنحظى بنفيس ذخائر هذه العبادة، ونستخرج لآلئها البراقة، ونتعرف على قيمتها ومليح عِبرها.

بداية يجب أن تتحول نظرتنا من الظاهر المشهود إلى الباطن المحجوب كما ذكر د. راتب النابلسي، ومن معرفة المخلوق إلى معرفة الخالق؛ الذي أنشأه وأبدع له النظام الذي يسير عليه.

ماذا نتأمل.. وفيم نتفكر؟ تفكر في مخلوقات الله في هذا الكون الفسيح (السموات، الأرض، الكواكب، المجرات، البحار، الأنهار ، الأسماك، الطيور، النباتات، الحيوانات…. تفكر في جسم الإنسان وحواسه وعقله وقلبه وقدمه ورجله وذراعه وشعره… الخ، إنها عبادة صامتة… هل مارست هذه العبادة في حياتك ؟

لقد جلست مع نفسي فوجدت أن هناك مخلوقات كثيرة، وعجائب مثيرة، وأعماقها مهيبة، فتركت التأمل في الأرض وما فيها من حيوان، ونبات، إذ الوصول إلى شأوها، أو حصرها، من رابع المستحيلات. وبعد التأمل، والتدبر رجعت إلى نفسي وقلت لها: ألم تفكري لحظة في الإنسان هذا المخلوق العظيم؟ فكري وتأملي فيه، في تكوينه، وهيكله، في حركته وسكونه في ما ينطوي عليه من أسرار، فإنه أعمق من البحار، وأوسع من امتداد الأرض لن تصلي إلى حقيقته بفكر ولا سحر، كفاك هو، خوضي معركة تأمل في باطنه وظاهره في عروقه ودمه في مخه وكبده، ففيه مجال واسع للتأمل والتدبر. هذا الإنسان الذي تهيأت له أسباب الحياة، تأملي وتدبري في الإنسان لتعرفي حقيقته؛ ومن هو؟ وكيف جاء إلى هذا العالم؟ وما هو مصيره بعد انتهاء حياته؟

ما أن يبدأ الإنسان باستكشاف قدرته على التأمل واستخدامها، حتى يتبدى له الكثير من الحقائق التي لم يستطع أن يسبر أغوارها من قبل…

فتأملت كثيرًا في الإنسان، وما ينطوي عليه، وقرأت عنه كثيرًا، ولكن ما زال كثير من الغموض يكتنف هذا المخلوق، ولم أكتف بالتدبر والتأمل، بل قرأت كثيرا عن هذا الإنسان، وخرجت بحقائق لا يعتورها شك، ولا ريب .

فجسم الإنسان كما اكتشفه العلماء أعقد آلة، وأعقد جهاز على وجه الأرض فهو يرى بهذا الجسم، ويسمع ويتنفس ويمشي ويركض ويتذوق الأطعمة. ويملك هذا الجسم -بمخه وعظمه، وشحمه ولحمه، وعضلاته وشرايينه، وأوردته الدموية، وأعضائه الداخلية- نظامًا دقيقًا وتخطيطًا عجيبًا، وكلما تعمقنا في الدقائق والتفصيلات لهذا النظام ولهذا التخطيط قابلنا من الحقائق ما يدهش ذوي العقول .

التأمل في خلق الإنسان

انظر إلى النطفة وهي قطرة الماء المهين التي لو تركت ساعة فيضربها الهواء فسدت وأنتنت، كيف أخرجها رب الأرباب من الصلب والترائب، وكيف جمع بين الذكر والأنثى، وألقى بينهما الألفة والمحبة، ثم خلق المولود من النطفة وسقاه بماء الحيض وغذاه حتى نما وكبر، وكيف جعل النطفة وهي بيضاء علقة حمراء، ثم جعلها مضغة، ثم قسم أجزاء النطفة وهي متساوية متشابهة إلى العظام والأعصاب والعروق والأوتار واللحم.

ثم كيف ركب من اللحوم والأعصاب والعروق الأعضاء الظاهرة، فدور الرأس وشق السمع والبصر والأنف والفم، وسائر المنافذ ثم مد اليد والرجل، وقسم رؤوسها بالأصابع، وقسم الأصابع بالأنامل، ثم كيف ركب الأعضاء الباطنة من القلب، والمعدة، والكبد، والطحال، والرئة، والرحم، والمثانة، والأمعاء، كل واحد على شكل مخصوص، ومقدار مخصوص لعمل مخصوص؟ ثم كيف قسم كل عضو من هذه الأعضاء بأقسام أخر، فركب العين من عشر طبقات لكل طبقة وصف مخصوص، وهيئة مخصوصة، لو فقدت طبقة منها، أو زالت صفة من صفاتها تعطلت العين عن الإبصار…

وانظر إلى العظام وهي أجسام صلبة قوية كيف خلقها من نطفة رقيقة، ثم جعلها قواماً للبدن، وعماداً عليه، ثم قدرها بمقادير مختلفة وأشكال مختلفة، فمنها الصغير والكبير، والطويل والمستدير، والمجوف والمصمت، والعريض والدقيق، ولما كان الإنسان محتاجًا إلى الحركة جعل فيها المفاصل حتى تتيسر الحركة، وربط بعضها ببعض بأوتار أنبتها من أحد طرفي العظم وألصقه بالعظم الآخر كالرباط له، ثم خلق في أحد طرفي العظم زوائد خارج منه وفي الآخر العظم المقابل حفرة غائصة موافقة لشكل الزوائد، لتدخل فيها وتنطبق عليها، فصار العبد إذا أراد تحريك جزء من بدنه لم يمتنع عليه، ولولا المفاصل لتعذر ذلك…

كل ذلك صنع الله من قطرة ماء مهين، فما ظنك بصنعه في السماوات، وكواكبها، لو ذهبنا إلى معرفة ما في آحاد هذه الأعضاء من العجائب لانقضت فيها الأعمار، ولم نبلغ. والحيوانات وبقية المخلوقات وما أدراك ما هي وما فيها ؟ منها من يطير ومن يمشي، والماشي على رجلين وعلى أربع وعلى أربع وأربعين، وعلى ما يشاء سبحانه وتعالى… مختلفة في المنافع والصور والأشكال والطبائع.

كل هذا أيها الإخوة مجال للتدبر والتفكر والتأمل فمن الذي يقوم بهذه العبادة؟ هي تحتاج إلى خلوة وتركيز لتصل بعد ذلك إلى مغاليق يفتح الله بها عليك، تزيد إيمانك وتثبتك على الدين…

بماذا يجعلنا هذا العالم المتعدد الألوان نتفكر؟

عندما ننظر من شباك السيارة يطالعنا عالم متعدد الألوان، فنتساءل: لو لم يكن هذا العالم متعدد الألوان كيف كان سيبدو كل شيء فيه..؟ هل ستكون بهجة المناظر الطبيعية من جبال وبحار وحقول وأزهار هي نفسها دون ألوان.؟ وأي متعة سنستقيها من مشاهد السماء والفاكهة والفراشات والثياب ووجوه الناس بغياب الألوان.؟

فضل من ربنا تعالى أننا نعيش في عالم متعدد الألوان نابض بالحياة.  فمهرجان الألوان الذي نشاهده في العالم، وهذا التناسق الكامل في ألوان الكائنات الحية آيات شاهدة على إبداع الله الذي لا يضاهى وتفرده في الخلق .

لا شيء من مشاهد الطبيعة يؤذي العينين، فالتفاعل الدقيق بين الألوان، وتناسق الألوان في الكائنات الحية من أزهار وطيور وبحار وسماوات وأشجار وغيرها يورث السكينة في النفس ويعطي الراحة للعينين. وكل هذا يدل على الكمال في خلق الله.

بماذا تجعلنا مظاهر الجمال  في الطبيعة نتفكر؟ 

خلال التنزه في الطبيعة، يصادف الإنسان المزيد من الجمال، فمن القشة إلى الأقحوان الأصفر، ومن الطيور إلى النمل… كل شيء مفعم بالتفاصيل التي تحتاج إلى التفكير فيها، فالفراشات مثلاً ذات جمال بديع جداً، فبأجنحتها المتساوقة وتصاميمها المزركشة بتماثل تام وكأنها مرسومة باليد وألوانها الفوسفورية، تشكل الفراشات دليلاً على إبداع الله وقدرته العظيمة على الخلق.

لا شيء من مشاهد الطبيعة يؤذي العينين، فالتفاعل الدقيق بين الألوان، يورث السكينة في النفس ويعطي الراحة للعينين، ويدل على الكمال في خلق الله.

الوردة لها عبير قوي دائم التجدد، ورغم أحدث التطورات التكنولوجية لم يستطع العلماء أن يصنعوا رائحة تضاهي تماماً عبير الورود، فالأبحاث المخبرية التي تحاول تقليد هذا العبير لم تثمر عن نتائج مرضية . وبشكل عام فالعطور التي صنعت أساساً برائحة الورود حادة ومزعجة في حين أن رائحة الوردة الأصلية لا تزعج!.

إن الإنسان هو المخلوق الذي أنعم الله عليه بملكة التفكير، ومع ذلك فإن معظم الناس لا يستخدمون هذه الملكة المهمة كما يجب، حتى أن بعض الناس يكاد لا يتفكر أبداً!.

في الحقيقة أن كل إنسان يمتلك قدرة على التفكر، وهو نفسه ليس على دراية بمداها، وما أن يبدأ الإنسان باستكشاف قدرته هذه واستخدامها، حتى يتبدى له الكثير من الحقائق التي لم يستطع أن يسبر أغوارها من قبل، وهذا الأمر في متناول أي شخص، وكلما استغرق الإنسان في تأمل الحقائق، كلما تعززت قدرته على التفكر.

إن التفكر والتدبر لا يستدعيان مكانًا أو زمانًا أو شروطًا محددة، فالإنسان يمكن أن يتفكر ويتدبر خلال المشي في الشارع، عند توجهه الى مكتبه، خلال قيادته لسيارته، أو خلال عمله أمام شاشة الكومبيوتر، أو خلال جلسات السمر مع أصدقائه، وربما خلال مشاهدة التلفزيون أو حتى خلال تناول الطعام.

بدون شك من المستحيل الادعاء أن هذه الأشياء السالفة الذكر تحدث بمحض الصدفة، ومن المستحيل أيضًا للخلايا التي يتأسس منها جسم الإنسان والذرات غير العاقلة التي تتألف منها الخلايا أن تتخذ مثل هذه القرارات، لذلك فإنه من الواضح أن كل ما ذكرناه هو من إبداع الله تعالى الذي خلقنا في أحسن تقويم.

المصادر

عبادة التأمل والتفكر والتدبر- بصائر

نَظْرَةُ تَأَمُّلٍ فِي مَلَكُوْتِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ

د. عبد الرحمن بن عبد الرحمن شميلة الأهدل

كتاب فن التأمل لهارون يحيى

تأملات في خلق الله تعالى للبحار-الكلم الطيب

العبادة المفقودة – موقع محمد صالح المنجد