أدرج الإسلام الكبر ضمن قائمة كبائر الذنوب التي لا يغفرها الله كالشرك إلا بتوبة. وتوعد الله المتكبرين بالطبع على قلوبهم، وبالصرف عن آياته في الأرض، وبإغلاق أبواب الرحمة في وجوههم، وأنهم سيدخلون جهنم داخرين وخالدين فيها أبدًا، وأنهم لا أمل لهم في دخول الجنة إلا بقدر أمل الجمل في ولوج سمّ الخياط.

ونظرًا للوعيد الشديد الذي توعّد الله به المتكبرين، فقد يتساءل البعض عن حكمة هذا التشديد على الكبر، والشدة على المتكبرين، ولكن إذا عرف السبب بطل العجب.

إن هذا الإسلام دين التوحيد الإلهي والوحدة الإنسانية، والمتكبرون يقومون بفصم عرى الأمرين، حيث يهدرون حقوق الحق والخلق، فيبددون الوحدانية والوحدة.

لقد جاء الإسلام من أجل إسعاد الناس وتحقيق خيرهم العاجل والآجل، بجلب المنافع لهم ودفع المضار عنهم، وإذا كان الله قد تساهل في حقوقه، رحمة منه وتفضلاً، سوى الشرك بالطبع، إذ بناها على المسامحة كما يقول الأصوليون، فقد بنى حقوق الخلق على المشاححة، لكن المتكبرين يحرقون بنيران كبرهم كل شيء.

نار الاجتياح

إن الناظر في حقيقة أعمال المتكبرين؛ سيجدهم يسلطون جوانحهم وجوارحهم على حقوق الناس، اجتياحًا وبغيًا وإفسادًا، حيث تصير شخصياتهم جرافات ضخمة تجتاح حريات الناس، وتستبيح حرماتهم، حتى لكأنها شعلة نار متقدة أو إعصار حارق، أو جحيم يتسعر ونار تتلظى، كما سيتضح من خلال هذه الجولة السريعة في الجوانح والجوارح.

عقول الازدراء

إن عقول المتكبرين تطير بأجنحة العجب والفخر والاغترار، وتكتظ بأفكار الزهو، وتمتلئ بطاقات العنجهية وتوتر الاستعلاء، وتعج بمزاعم احتكار الصواب وامتلاك الحقيقة المطلقة، في مقابل اتهام الآخرين بالسفه والطيش، وبالتبلد والغباء، وبالتخريف والتخريب، بل بالخيانة والعمالة، وبالضلال والكفر.

عجب القلوب

وتمتلئ قلوب المتكبرين بأهواء التميز والتفرد، ومشاعر العجب والاكتمال، مقابل انتقاص الآخرين واحتقارهم، والزراية بهم والنيل من محاسنهم.

وتعج هذه القلوب بانفعالات الحقد والحسد، وبأدخنة الكراهية لكل صاحب نعمة وذي موهبة.

أعين الازدراء

لا تنظر أعين المتكبرين إلى الآخرين إلا شزرًا، ولا تكف أبصارهم عن الإزلاق، ولا تتوقف مآقيهم عن الاحتقار، ولا تجد مقلهم متعتها إلا في انتقاص أصحاب المظاهر المتواضعة وازدراء ذوي الحاجات الخاصة، بل إن هذه الأعين ترى جميع الخلق معوقين.

وما زالت تلك الأعين تغض أبصارها عن محاسنهم، لكنها تطلق نظرات الازدراء والسخرية، وما فتئت تواصل التحليق في فضاءات التعالي، حتى إنها تنظر إلى الناس من أبراج عالية، فتراهم صغارًا يملؤهم الصغار، وتشاهدهم مجرد حثالات حقيرة وحشرات صغيرة، وتعتقد أنهم بدونها يغرقون في أوحال التخلف وينغمسون في أقذار الخطيئة.

تلصص الآذان

أما آذان المتكبرين فهي ليست استثناء من إعصارهم الناري، الذي لا يكف أذاه عن الخلق، ولا يتوقف عن غمط الحق والزراية بأهله.

إنها دائبة في التلصص على عورات الناس والتجسس على خصوصياتهم، والبحث عن مثالبهم ومناطق ضعفهم ومداخل قصورهم.

وفي معامل الكبر يتم تضخيم هذه المشاهد المسروقة وإعادة إنتاجها، بحيث تكون صالحة للزراية والانتقاص، ولتأكيد نظرية التميز والاستعلاء.

غطرسة الأنوف

إن الأنوف في الوضع الطبيعي، هي رمز الأنفة والتأبي على محاولات الإذلال الخارجي، والاستعلاء على رغبات الانخراط في السفاسف، والانحطاط في التفاهات.

أما أنوف المتكبرين فهي تشمخ غطرسة وكبرًا على الخلق، وبفعل من أفكار ومشاعر الغطرسة ما تزال هذه الأنوف تشمخ إلى الأعلى بطريقة مرضية، حتى تطاول عنان السماء، بل تكاد تنخلع من مكانها لتخلع كل ما بقي من تواضع الإنسان.

إن أصحاب هذه الأنوف يعتقدون أنهم كائنات مختلفة، تنحدر من أجناس راقية، وتتحدر من أعراق نقية، وأن في عروقهم تجري دماء زرقاء، وأنهم يتمتعون بقدرات خارقة، تجعلهم قادرين على مصاولة كل أحد ومطاولة كل شيء، حتى يظنون أنهم يسبحون فوق السحاب، بل يخيل لهم من كبرهم أن أوهامهم تسعى.

بغي الألسنة

إن ألسنة المتكبرين تنضح من أواني التكبر، وتفضح أماني المتكبرين والتي لا ترجو لله وقارًا، ولا تراعي للخلق ذمامًا.

فإن هذه الألسنة نار تحرق من لا يستهويهم المتكبرون، وتلذع من ينافسونهم على أي شيء من متاع الدنيا، وتستشيط غضبًا من أصحاب المواهب، وتنشط في بخس الناس أشياءهم، حيث تسرد مثالبهم الحقيقية والمتوهمة، وتنظم عيوبهم الواقعية والمتخيلة.

وتنطلق حدادًا تقطع بلا عقال من دين، أو زاجر من خلق، أو رادع من عقل، حيث تغمط أهل الكفايات وتبخس أهل الملكات، مسارعة إلى جلدهم بحبالها الصوتية، حبال الاحتقار والازدراء والانتقاص.

استطالة الأيدي

إن أيدي المتكبرين أطول من ليالي المسغبة الشتوية، لكنها تظل أقصر من أطماعهم التي تهفو إلى الاستئثار بكل المنافع واحتكار سائر الثروات.

فالمتكبرون من أشد المستطيلين على خلق الله، حيث تمتد أيديهم طولاً وعرضًا، يمنة ويسرة؛ لأن أصحابها يعتقدون أن كل ما ينهبونه ويسرقونه إنما هي بضاعتهم ردت إليهم أو استردوها، وأن غيرهم أحقر من أن تخلق هذه الآلاء والنعم من أجلهم.

ولا تتورع هذه الأيدي عن مقارفة سائر المظالم، من ضرب للأبشار، وهتك للأعراض، وغصب للأموال، وتدمير للبنيان، وتغيير للمعالم والحدود، وتعذيب للبرآء، وحرمان للناس من أبسط حقوقهم، بحجة أنهم أراذل وحثالات وسفهاء، مع تغير العناوين والشعارات والتفاصيل، من عصر إلى آخر.

اختيال الأرجل

وتسير أرجل المتكبرين في ركاب ظلمهم وتجبّرهم، حيث تسير بأصحابها في الأرض أشرًا، وتحملهم إلى مواطن الاختيال والتبختر بطرًا.

وإن أحدهم ليبدو كأنه يسير في الطريق على سجاد أحمر، وتحفه صفوف حرس الشرف، بل ويتوهم أن الجماهير تصفق له وتتهافت على الهتاف له، وتتسابق على التسليم عليه، حتى يعتقد فعلاً أنه سيخرق الأرض ويبلغ الجبال طولاً.

إن هذه الأقدام تستعير من الظباء خفتها، ومن الفهود سرعتها، ومن الأسود مخالبها، حيث تسارع إلى مواطن الظلم والفساد، وتسابق إلى مراعي الشرور والآثام.

فلسفة الكبر ومنظومة التبرير

لقد رأينا أن الكبر يجعل الكائن كتلة صلدة من الشر المستطير ومن الظلم المستطيل، بل يجعله إعصارًا يحمل في جوفه نارًا تحرق الأخضر واليابس، وتهلك الحرث والنسل، وتدمر العمران وتشيع في الأرض الفساد، وتحيل الأرض إلى بلاقع يبابية.

غير أن الأفظع من كل هذه الجرائم، هو الفلسفة التي يتكئ عليها المتكبرون ويتدرعون بها، ومن خلالها يصنعون منظومة شاذة للتبرير.

فالمتكبرون خريجو مدرسة إبليس الذي تكبر ثم برر، فكان كبره دافعًا لرفض أمر الله بالسجود لآدم، ثم دفعه الكبر مرة أخرى للبحث عن ذريعة يبرر بها هذا التمرد والعصيان، فكانت مقولته الأشنع من المعصية نفسها، والتي نسب الغواية فيها إلى الله تعالى، فقال بكل وقاحة: (رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي((الحجر:39).

وما زال المتكبرون في كل العصور يستثمرون الدين بكل ضعة، وينسبون جرائمهم إلى الله تعالى بكل وقاحة، ويلومون كل أحد إلا أنفسهم العليلة، وما زالوا يذرون الرماد في عيون الضحايا، بتسخير الدين لتأصيل انحرافهم، وتبرير فسادهم، والظهور بمظهر المتمسك بأهداب الدين، الحريص على تطبيق تعاليمه، وفي مقدمتها بالطبع معاملتهم كأنهم أبناء الله وأحباؤه، أو أبناء الرسول صلى الله عليه وسلم وأولياؤه المصطفون.

وفي إطار الفلسفة المنحرفة لهؤلاء، فإنهم يعتبرون هذا الجنوح الشديد تجنيحًا في إطار تطبيق هذا الدين العظيم، ويسمون غطرستهم شموخًا، وتكبرهم إباء، وتسلطهم سموًّا، وطغيانهم عزة، وقهرهم قوة، وبطشهم منعة، وإجرامهم جهادًا.

الاعتصام من الخلق

من استقراء حالات كثير من المتكبرين، يتضح أنه لا يتكبر إلا من تعتريه مشاعر النقص ويعاني من عقدة الدونية، ومن ثم فإنه يعوض هذا النقص بالتكبر، كأنه يوهم نفسه أنه كبير، ويقنع الآخرين أنه قوي، وذلك بمقارفته لصور من التكبر، وممارسته لمظاهر تجسد الاستعلاء. وفي ذات الوقت فإنه يعاني من الخوف، الذي يتعاظم نتيجة ردود فعل الناس الرافضة لتكبره وتجبره عليهم.

وعلى العموم فإن هذا الصنف من الناس يعانون من تركيبة نفسية عليلة، حيث تجتمع في هذه التركيبة عدد من العلل أهمها ضعف الثقة بالذات والخوف الهستيري، مما يضاعف عنده المخاوف والهواجس التي تحرمه السكون والسكينة.

إن رعبه يحسسه بأن الناس يكرهونه ويحتقرونه، ولكي يتجنب مشاعر الصغار والهوان التي تستحوذ عليه، فإنه يقنع نفسه أن هؤلاء يحسدونه على تميزه وذكائه، ويحقدون عليه لقدراته ومواهبه، وأنهم لذلك يتربصون به الدوائر ويحيكون له المؤامرات.

إنه ما يفتأ يواري جبنه تحت قشرة الجبروت، ويخفي خوره تحت مظاهر الاختيال، ويخبئ صغاره تحت أردية الكبر، ويضع التياعه تحت ثياب التبختر.

فهو دائم الشعور بأن الآخرين يستهدفونه، ويتحينون الفرص للانقضاض عليه، ولذلك يندفع بهواجة إلى الاحتماء في أبراج التكبر وقلاع التجبر، والتي يعتقد أنها ترفعه مكانًا عليًّا يقيه من الأخطار، ويلبس بجانب ذلك دروع الغطرسة، ويستعير كثيرًا من أدوات التوحش بحجة الدفاع عن النفس، فيأخذ الشوك من القنافذ والأنياب من الضبع، والمخالب من الأسد.

ولذلك فإن هذا الصنف يعيش في حالة استنفار دائمة، كأن الحياة بالنسبة لهم حرب لا هدنة فيها ولا مداهنة، وأنه إن لم يتذأب أكلته الذئاب.

طغيان المتكبرين

من يتمعن في تأريخ الطغاة سيجد أن حجر الزاوية في هذا التوحش هو الكبر، فهو الذي يرديهم ويجعلهم في طغيانهم يعمهون.

كأن الكبر رافعة إلى الطغيان، حيث يجعل أصحابه جلامد صخر تنحط بثقلها المدمر من شواهق الغرور وقمم العلو، حتى لكأنهم من حجارة الجحيم أو دوامات إبليسية، صنعها الشيطان الرجيم على عينه، وأرسلها للانتقام من أبناء آدم عليه السلام الذي تسبب في غوايته وإخراجه من الجنة، وإلحاق اللعنة الإلهية الأبدية به وبنسله من الشياطين.

ولما كان الكبر القشة التي قصمت ظهر إبليس، فإنه يدرك خطورته، ولذا يستخدمه كسلاح فتاك، إذ يتسلل إلى احتناك ذرية آدم عليه السلام من الكبر المنبثق عن طباع الفجور، الناتجة عن أوضار التراب.

إن الكبر الذي ينفخه أباليس الجن والإنس في نفوس البشر حتى تنتفخ أوداجهم، هو الذي يجعلهم ظلمة جبارين، فيظلم كل واحد منهم على قدر طاقته، غير أن الذين يجدون أتباعًا وأموالاً وجنودًا يستغني بهم، يندفعون إلى مستنقع الطغيان بسرعة الشيطان، قال تعالى: (إِنَّ الإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى)(العلق:6-7).

ولهذا تجد الطغاة، مع وجود فروق ذاتية وموضوعية، يندفعون إلى معاقرة سائر صنوف الجور والجبروت، واجتراح شتى أساليب القهر والقسر ضد أهاليهم وشعوبهم، بكل لذة ونشوة وابتهاج.

الطغيان وليد الكبر

الطاغية هو الوليد الطبيعي للكبر، ولا سيما إذا عاش في بيئة عليلة، اجتمع فيها الجهل المعرفي، والضعف النفسي، والارتخاء الخلقي، والترهل الاجتماعي، ولذلك تجد الطاغية حربًا شاملة على كل ما هو جميل وحسن حيثما وجد.

فالطاغية لا يكف عن إطفاء مصابيح الضياء وقناديل النور، وعن إشاعة الدياجير المتخفية، وتشجيع الظلمات الزاحفة، والاستكثار من الحوالك التي تتوالد كالحيوانات، وتنقسم كالخلايا السرطانية.

إن الطاغية الذي تربى في حجر الشيطان وتغذى على الكبر، هو فاشل بكل المقاييس، لكنه يبدع في صناعة الأغلال والأصفاد، وينجح في بناء المعتقلات والسجون.

ولا يتوقف عن تجريع كل من لم ينضم إلى قطيعه الأعمى مرارة الويلات وعلاقم الذل والهوان، دافعًا إياهم إلى خفض رؤوسهم ورفع رايات الاستكانة والاستسلام، وبيارق الاستخذاء والاستجداء، والدخول إلى بيت الطاعة وحظيرة العبودية.

ولا يجد الطاغية ذاته إلا في الهيمنة على مقاليد البلاد، والسيطرة على مقادير العباد، وفي الهيمنة على مقدرات الشعب، والاستحواذ على ثروات الوطن، وكل ما زادت طبائع القطيع في رعيته زادت طمأنينته.

المخرج والحل

إن إطفاء هذا الإعصار الشيطاني، يحتاج إلى جملة من الأمور التي تتضافر، حتى تجتث الشجرة الزقومية التي تشعل أواره وتذكي عصفه، وهي أمور مرتبطة بالتوازن بين العقل والقلب، أو الجوانب الفكرية والجوانب النفسية، وتستحق هذه الأمور أن تفرد في مقالة وافية، ستكون بإذن الله بين أيدي القراء الكرام في العدد القادم.