الوجود الإنساني يختلف في تركيبه وتعاملاته عن الموجودات الأخرى ،وأكثر ما يميز الوجود الإنساني تفاعله وتعايشه مع الآخر سواء أكان هناك اتفاق في الأيدولوجيات أم لا، وسواء أكان هناك قاسمًا مشتركًا في الطبائع والأفكار والثقافات أم لا، ولكن لا بد من وجود أمر مهم لا غنى عنه كي تستمر الحياة في مسارها الطبيعي، وهو تبادل الآراء بين البشرية في مختلف القضايا لإيجاد قاعدة مشتركة تؤدي بنا إلى نتائج إيجابية نافعة دينيًا ودنيويا، وهذا ما يعرف بالحوار، فالحوار تبادل أراء وأفكار وثقافات ومعارف، وهو لغة التواصل والتفاهم، ولغة التحضر والرقي، ولغة التقارب والتلاحم، وتبادل الخبرات، فمن خلال تقبل الطرف الآخر والتحاور معه يمكن التوصل إلى حماية وتعزيز القيم الإنسانية، وكفالة الحرية للناس جميعًا، والعمل على عمارة الأرض؛ تحقيقًا لاستخلاف الإنسان في الكون، والتعايش في سلم وسلام، فالحوار من الوسائل الأساسية لتنمية الآفاق الفكرية، والحفاظ على الحضارات ونقلها عبر العصور.
وإذا أردت أن تعرف حضارة أمة ما فانظر إلى قيمة الحوار في حياتها، ومدى اهتمامها بتطبيقه، والحرص على توريثه للأجيال القادمة؛ ولكي يكون الحوار ناجحًا مؤديًّا لدوره في المجتمع فلا بد أن يبنى على أسس ومبادئ؛ لأن غياب هذه الأسس والمبادئ يضيع الأوقات والثمرة المرجوة، بل يحدث تناحرًا فكريًّا وافتراقًا اجتماعيًّا، ومن أهم أسس ومبادئ الحوار البناء:
- الإيمان بمشروعية الحوار، وأنه ضرورة إنسانية حياتية، وقد بدأ الحوار قبل وجود البشرية، وسجل القرآن الكريم ذلك: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ) (البقرة:30)، وهناك حوارات دارت بين الرسل -عليهم السلام- وأقوامهم، وهناك حوارات مع أهل الكتاب، ومع مشركي العرب، حتى إبليس استخدم معه لغة الحوار ولكنه أبى واستكبر.
- أن يكون الحوار مستنيرًا بنور القلوب السليمة، والعقول المستقيمة، وهذا يحتم علينا ضرورة الالتزام بالفطرة الإنسانية، فطرة الله التي فطر الناس عليها، وعدم الجنوح بها إلى دائرة الشهوات الحيوانية، وعدم تعطيل العقل أو استخدامه فيما لا يجدي وإقحامه فيما لا يطيقه.
- الالتزام بالمعطيات الكونية والحقائق العلمية، والثوابت التي جاءت بها الشرائع السماوية، وعدم التعرض لها بالسخرية والازدراء؛ لأن هذه الأمور ليست مجالاً للحوار.
- استخدم لغة “وقولوا للناس حسنا”، ولغة “وجادلهم بالتي هي أحسن” في حوارنا، فالتراشق بالألفاظ والخروج عن اللياقة في الأسلوب يؤدي إلى معارك كلامية نتائجها وخيمة على الجميع.
- أن يكون حوارنا قائمًا على الأدلة والبراهين والاقناع، فكل نقاش بني على الخرافات والأوهام لا ينتهي بنا إلى حقيقة.
- معرفة حقيقية الحوار وجوهره وأنه ليس معركة فكرية للوصول إلى الغلبة والانتصار بل هو عملية تبادلية للأفكار والآراء بين المتحاورين بعيدًا عن التعصب؛ للتوصل إلى مفاهيم مشتركة أو متقاربة.
- عدم التشبث بالرأي والتعصب له، فالمحاور الذي يطلب الحقيقة يتمنى أن يصل إليها وإن جاءته من غيره، يقول الإمام الشافعي: “رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب”.
- الالتزام بالجانب الأخلاقي واحترام الطرف الآخر الذي أتحاور معه، والتأدب معه في الحديث، والبعد عن الثرثرة الكلامية والتفريعات والشطحات التي تبعدنا عن الفكرة الأساسية للحوار، والهدف الرئيسي الذي نريد تحقيقه، وأن يخلص كل منا نيته لله تعالى ويتجرد لطلب الحق دون سواه، وأن يلتزم الرفق واللين، وعفة اللسان، والهدوء والسكينة، واجتناب رفع الصوت، وأن يحسن الاستماع والفهم، وأن يكون متواضعًا صادقًا أمينًا.
- أن يتحاور كل منا في تخصصه وفيما يعلمه ويتقنه، فغير المتخصص يأتي بالأعاجيب، ويتعب الطرف الآخر ولا يصل أبدًا إلى نتيجة، ويحدث تشويشًا عند من يسمع هذا الحوار.
- كما يجب على من يدير الحوار أن يلتزم بالموضوعية ولا يميل إلى طرف ويجور على الآخر، وأن يترك مساحة كافية متساوية للطرفين المتحاورين للتعبير عن آرائهم.
- أن يكون المحاور عالمًا ملمًّا بالقضية التي يتحاور فيها، وأن ينطلق في حواره من نقاط الاتفاق، وأن يعترف بالآخر(محاوره)، وهذا لا يعد إيمانًا بما يقوله المخالف بل هو إيمان بوجود من يتبنى هذا الرأي المخالف وعدم تجاهله.