جمالية التناسب في حديث: “إن من الشجر شجرةً لا يسقط ورقها”

عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها، وهي مثل المسلم، حدثوني ما هي؟) فوقع الناس في شجر البادية، ووقع في نفسي أنها النخلة، قال عبد الله: ))فاستحييت(( فقالوا يا رسول الله، أخبرنا بها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هي النخلة )[1] قال عبد الله: فحدثت أبي بما وقع في نفسي، فقال: ((لأن تكون قلتها أحب إلي من أن يكون لي كذا كذا)).

إن الألفاظ النورانية التي ينطق بها من لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، لهي كما يقول الرافعي: “ألفاظ النبوة يعمرها قلب متصل بجلال خالقه، ويصقلها لسان نزل عليه القرآن بحقائقه.. وكأنما هي في اختصارها وإفادتها نبض قلب يتكلم، وإنما هي في سموها وإجادتها مظهر من خواطره”.

ووصف الجاحظ كلامه عليه الصلاة والسلام بأنه: “هو الكلام الذي قل عدد حروفه، وكثر عدد معانيه، وجلّ عن الصَّنعة، ونزه عن التكلف” وبالمقارنة لفصاحته مع فصاحة العرب يقول مصطفى صادق الرافعي: “فإن العرب وإن هذّبوا الكلام وحذفوه، وبالغوا في إحكامه وتجويده، إلا أن ذلك قد كان منهم عن نظر متقدم، ورويَّة مقصودة، وكان عن تكلف، يستعان له بأسباب الإجادة.. بَيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أفصح العرب، على أنه لا يتكلف القول، ولا يقصد إلى تزيينه.. ولا يجاوز به مقدار الإبلاغ في المعنى الذي يريده، ثم لا يعرض له في ذلك سقط ولا استكراه” والمتتبع للأحاديث النبوية يدرك ذلك، ويتذوق من الجواهر البلاغية المكنونة بقدر طاقته واستطاعته، ويدرك من أسرارها مقدار دلوه، ولذا ستكون السطور التالية شرحًا وجيزًا وبيانًا لجمالية التناسب في حديث: “إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها”

يوضح هذا الحديث النبوي الشريف الحال التي كان عليها المسلم من الثبات والرسوخ والاستقرار والنفع المستمر، بحيث أتى سياق الحديث الشريف على سبيل ضرب المثل من الواقع المعاش.. وقد وظف النبي عليه الصلاة والسلام مقومات البيئة الحسية كوسائل تعبيرية وتعليمية لتقرير المعاني وتثبيتها، واستعمل أيضًا الأسلوب الحواري الشيّق، حيث يحاور النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بطرح أسئلة وتقريبها إليهم بقوله: “إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها”.

والأسلوب الحواري الذي استعمله النبي عليه الصلاة والسلام، هو من بين الوسائل التي كان يستعملها في العملية التعليمية مع أصحابه، وهو من أقوى الوسائل الناجعة في التعليم في كل زمان ومكان.

فبادئ ذي بدء، قام الرسول عليه الصلاة والسلام بتقريب الشجرة عن طريق وصف رائع، ثم طرح سؤاله بأسلوب حواري شيق، يختبر به ذكاء الحاضرين وأفهام المخاطبين، وخطابه في أولِ عبارةٍ منه توكيد يُبعد التردد عن المخاطبين، وفي ذلك إبعاد لأفكارهم عن التوهم لاتصاف الشجرة بالوصف الذي سيطرحه عليهم، فهي بالتأكيد متصفة به، وما يراد منهم هو التأمل في الإجابة، وتلك الشجرة المسؤول عنها ليست كبقية الأشجار، فهي تتميز بميزة تغاير بها بقية الأشجار وهي أنها لا يسقط ورقها، ولذا فهي مثل المسلم في ثباته ورسوخه الإيماني، ونفعه المستمر، ولكنه بهذا السؤال الشيق الذي ينتقل بعقولهم وأفكارهم في جولة حول أشجار البادية، للبحث عن الشجرة التي يبين الرسول عليه الصلاة والسلام من خلالها حال المسلم.. ما هي هذه الشجرة التي لا يسقط ورقها؟ فوقع الناس في شجر البادية، كلٌّ منهم يذكر ما يخطر بباله، باستثناء عبد الله بن عمر رضي الله عنه الذي وقعت النخلة في نفسه، ولكنَّ حياءه منعه عن البوح والإجابة، فلما عجز الناس عن الجواب -وكأنهم اشتاقوا لسماع الجواب- فقالوا يا رسول الله: أخبرنا بها؟ وفي هذه الحال صار لسان حالهم وكأنه يقول: كلنا آذان صاغية، وتم الاستعداد التام للتلقي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “هي النخلة” أما عبد الله فأخبر أباه بما وقع في نفسه، فقال: “لأن تكون قلتها أحب إلي من أن يكون لي كذا وكذا”

ونلمح في الحديث بأنه لم يركز على جوانبها الأخرى مثل الثمر والظل الظليل وغير ذلك مما ينتفع به الناس؛ لأنه ظاهر ومعروف لدى الناس، ندركه يوميًّا على أرض الواقع، فالمسلم خير في جميع أحواله، ولكنه ركز على الجانب الذي لم ينتبه له الناس، فعرفهم بحالةٍ خاصة لا يعرفونها، في شجرة خاصة يعرفونها، والحالة هي أنها لا يسقط ورقها، والشجرة هي النخلة، وقام بتقريب حال المسلم من خلالها، ولم يفصل القول أو يطنب فيه، بل أوجز المقال، لمقتضى الحال، وليطلق عنان تفكيرهم وخيالهم للسياحة في أوجه الشبه بين الشجرة والمسلم.

ومن سياق التشبيه: “وهي مثل المسلم” ندرك بأن الشجرة مشبه والمسلم مشبه به، والمشبه به أوضح وأبين من المشبه، فالمسلم خيره أبين وأكثر وأشمل من النخلة، لأنه خير في جميع أحواله، وكأنه يربي الصحابة رضوان عليهم، وسائر المسلمين على الثبات على الخير، عن طريق بيان حقيقة حال المسلم، وحال الشجرة التي لايسقط ورقها.

وعندما نتأمل قوله: “هي النخلة” نجد الجملية اسمية، والجملة الاسمية تدل على الثبوت والاستقرار، فالبيان النبوي الشريف ناسب بين النخلة والمسلم والجواب النهائي.

والخلاصة هي أن هذا الحديث النبوي الشريف يوضح لنا حال المسلم الثابتة الراسخة عن طريق تشبيه الشجرة التي لا يسقط ورقها بالمسلم ذاته في أسلوب حواري شيق، ثم يجيب بجملة اسمية تدل على الثبات والاستقرار “هي النخلة”.

المراجع:

·                   أبو عثمان عمرو بن بحر(الجاحظ)، البيان والتبيين، تحقيق عبد السلام هارون، مكتبة ابن سينا، القاهرة، 2010م

·                   مصطفى صادق (الرافعي)، تاريخ آداب العرب، دار الكتب العلمية، بيروت-لبنان

·                   السيد أحمد (الهاشمي)،جواهر البلاغة، عالم المعرفة، القاهرة

·                   حديث “إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها” www.alukah.net

·                   محمد بن إسماعيل (البخاري)،صحيح البخاري، دار ابن كثير، بيروت-لبنان

·                   بدر الدين أبو محمد محمود بن أحمد (العيني)، عمدة القاري شرح صحيح البخاري، دار الكتب العلمية

·                   علي بن أحمد بن حجر (العسقلاني)، فتح الباري شرح صحيح البخاري، دار الكتب السلفية


[1] .  صحيح البخاري، حديث رقم 61