“سنن القرآن في قيام الحضارات وسقوطها” عنوان يحيلنا إلى كتاب بالغ الأهمية للباحث الجزائري محمد هيشور، وهو في أصله رسالة تقدم بها صاحبها لنيل شهادة الماجستير من كلية الآداب بجامعة عين شمس سنة 1988م، وقد نشرها المعهد العالمي للفكر الإسلامي ضمن سلسلة الرسائل الجامعية سنة 1996م. وتقع في 332 صفحة، تناول من خلالها الباحث سنن الحضارة في القرآن الكريم من خلال مقدمة وخمسة فصول وخاتمة.
استهل الباحث كتابه بمقدمة ركز فيها على أهمية الموضوع وخطورته مبينا أهم الدوافع التي دفعته إلى اختيار هذا الموضوع للبحث، ومذكرا ببعض المصادر التي اعتمد عليها وبالمنهج الذي اتبعه، ثم بالخطة التي صاغ بها البحث؛ فأما الفصل الأول فقد بين من خلاله معنى السنن ومفهوم الحضارة كما يصورها القرآن الكريم؛ حيث استعرض السياقات التي ورد فيها مصطلح السنن في القرآن الكريم، وكذلك في السنة النبوية، ثم في التداول التاريخي، ليخلص بعد ذلك إلى:
- أن جل استعمالات كلمة السنة في القرآن الكريم تفيد معنى واحدًا وهو الطريقة والقانون، وإن تشعبت تصريفاتها من حيث الإفراد والجمع.
- أن العلماء نظروا إلى السنة كمصطلح من مصطلحات العلوم الإسلامية كل من خلال اختصاصه واهتمامه فالسنة عند المحدثين ليست هي السنة عند الفقهاء وليست هي السنة عند الأصوليين.
- السنة في الفكر الإسلامي هي مجموعة القوانين التي يسير وفقها الوجود كله وتتحرك الحياة بمقتضاه، وتحكم جزئياتها ومفرداتها، فلا يشذ عنها مخلوق وما في الكون ذرة أو حركة إلا ولها قانون وسنة.
- أن السنة في القرآن الكريم أو في الفكر الإسلامي تنقسم إلى قسمين:
سنة اجبارية: تجري على كل الكائنات الحية بما فيها الإنسان وذلك كالولادة والموت والحياة وكالأوصاف الخلقية والحالات الفطرية للإنسان وكل ما في عالم الغيب بما اختصت به القدرة والمشيئة الإلهية من الأمور التي لا طاقة للإنسان بها.
سنة اختيارية: وهي القائمة على إدارة الإنسان الداخلية وما يمكن أن يناله الإنسان أو يسخره في الحياة باستخدام هذه القدرة العقلية وغيرها مما أوتي من الحواس لغرض تحقيق غاية خلقه وسبب وجوده في استعمار الأرض والاستخلاف فيها.
وفي هذا الصدد يؤكد هيشور أن الإنسان كلف “باستخدام قدراته العقلية وغيرها للكشف عن سنن قيام الحضارات وسقوطها وليكون كما أراد الله له ويحقق سنة التوازن في نفسه وفي الحياة من حوله، ويسير على دراية بأمره وبما أمر به، دون شعوره بذات قادرية، وأنانية متضخمة بالاستكبار والغرور، ونسيانه حالات ضعفه ومواطن عجزه، وينتهي به ذلك إلى حالة من التجبر والجحود والطغيان والتأله”. ويضيف قائلا أن السنن من حيث هي قانون رباني في الوجود متاحة لكل إنسان، فهي لا تنظر إلى عقيدة الإنسان؛ هل هو مؤمن أم ملحد؟ إلا ما كان من السنن الخاصة بالمؤمنين أو الكافرين. وهنا يورد نصا رائعا لمحمد قطب في كتابه “مفاهيم ينبغي أن تصحح”؛ حيث يقول: “وإنما السنن هي قانون الله العادل في الخلق، المؤثر في حياة الناس، لا يحابي أحدا، ويعز الله الأمم حين تأخذ بسنن العزة والتمكين، ويذيقها من جزاء ما عملت حينا تركن إلى الباطل والهوان؛ وهذا ما هو مشاهد في تاريخ الأمم، ولعل من ذلك الأمة المسلمة أو الإسلامية التي أنعم الله عليها بالتمكين والاستخلاف والتأمين وفتح عليها بركات من السماء والأرض كما وعدها خلال فترة من التاريخ، ويوم أن تخلت عن السنن التي وصلت إليها إلى هذا المقام تغير حالها من الاستخلاف والتأمين، وصارت إلى الضعف والهوان وصارت إلى الصورة التي هي عليها الآن”. ومما استنتجه كذلك أن أهم عامل في البناء الحضاري للأمم هو فقهها لسنن الله في الحياة، ومدى التزامها بالمنهج والشريعة التي وضعت لها، وهنا يضرب الأمثلة من الواقع؛ فيقرر بأن قانون الجاذبية ظل قرونا من الزمن يعيق حركة الإنسان وصعوده ويقلل نشاطه ويشل حركته دون أن يستطيع تحقيق شيء ضده، وأن الأمر بقي كذلك إلى يوم أن اكتشف الإنسان قانون الطاقة فحقق تقدما خدم أغراضه وسهل سبل الاتصال بين القارات فيما بينها وبين الأرض والسماء وبين الأرض وبعض الكواكب الأخرى، كما أن الإنسان ظل عصورا من الزمن في ظلام الليل الدامس لا يرى من النور إلا بصيصًا حتى يوم أدرك واكتشف قانون اكتشاف الكهرباء فأنار بذلك المساحات الشاسعة وزين الحياة بالمصابيح والأضواء المختلفة، وبعد هذا يثير إشكالا هو جدير بالطرح وهو أن الإنسان وإن استطاع أن يحقق قدرا كبيرا من النجاح الحضاري في ميدان اكتشاف القوانين المادية فإنه مازال يحس بأثر تخلفه في مجال المعنويات والروحيات، ومازال يعاني أثر فقدان التوازن، ولذلك ما يزال يعاني من ثقل مشكلات الحياة المعنوية وشدة القلق والحيرة والملل.
ومن خصائص السنن الإلهية كما يستخلصها الكاتب من القرآن:
- سنة الله وحدة كونية مرتبطة بعضها ببعض أشد الارتباط؛ ذلك أن “النظم الاقتصادية والنظم الاجتماعية والسياسية والتربوية وغيرها كلها نظم جزئية أو أحداث صغرى داخل العملية أو النظام الحضاري والدائرة الكبرى، كما أن هذه الجزئيات ليست منعزلة التأثير بعضها ببعض؛ بل هي كالجسد الواحد محورها الإنسان وروحها العدل”
- أنها سنن لا تحابي أحدًا، وفي هذا يقول “وبقيت سنن الله من صار عليها من البشرية في أي جانب من جوانب الحياة فاز وظفر وإن كان ملحدا أو وثنيا مشركا ومن حاد عنها خسر وإن كان مؤمنا موحدا”.
- تشمل جميع جوانب الحياة الطبيعية والفزيائية والنفسية والاجتماعية. وقد بين أن علوم الفيزياء والكمياء والرياضيات لم تكتشف إلا نتيجة للبحث عن تفسير ظواهر الكون، وفي هذا الصدد يؤكد على حقيقة مفادها أن العلماء المسلمين كان لهم السبق في تدشين فروع العلوم الطبيعية والفزيائية. وهذه الاكتشافات كما يقول هيشور “كانت وليدة قراءة القرآن وتدبر معانيه وفهم أسرار لغته ومعرفة مقاصد العملية والتشريعية”. وفي هذا إشعار واضح بل حقيقة ثابتة بأن القرآن الكريم ليس كتاب هداية فحسب وإنما هو كتاب علم ومعرفة ومنهج.
وهو يتحدث عن أسباب تخلف الحضارة الإسلامية بعدما كانت لها الريادة والصدارة يرجع ذلك إلى:
أولاً:انشغال العلماء المسلمين بنظريات كلامية تسربت من خلال الفلسفة اليونانية.
ثانيًا: تحيز كل صاحب معرفة إلى معرفته واعتقاد أن الحياة كلها في تخصصه وفي العلم الذي يتقنه. وبعد هذه التوطئة النظرية في مفهوم السنن الإلهية في القرآن الكريم وأهميتها وخصائصها يستعرض الباحث نماذج من الآيات القرآنية التي يمكن أن تستنبط منها سنن القرآن الكريم في تقدم الحضارات وسقوطها، وعلى ضوء ذلك يناقش ثلاث نقط أساسية وهي: السنن والصدفة، السنن والصراع، والسنن والحتمية.
ولأن الحديث عن السنن الإلهية في الكتاب مرتبط بالحديث عنها في علاقتها ببناء الحضارة يختم الباحث هذا الفصل بتحقيق القول في مفهوم الحضارة من خلال دلالتها اللغوية والشريعة وكذا في تداولها التاريخي، ليخلص في الأخير إلى أن “الحضارة ليست منجزات مادية، أو كثرة علمية تراثية قديمة أو اجتماعية سياسية قائمة، كما أنها ليست كتل بشرية مكدسة في المجتمعات والمدن دون ترابط داخلي أو فعالية اجتماعية تميز الإنسان عن سائر التجمعات الحيوانية؛ وإنما الحضارة هي روح سامية من الفضائل والخصال الأخلاقية الطيبة تجري في نفوس أبناء الأمة وتزين سلوكهم وسائر نشاطهم، كما تتجسد في النظم السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية كما تشمل كافة جوانب الحياة”. ومجمل القول في ذلك أن “فكرة الحضارة في القرآن الكريم تؤكد أن الإنسان خليفة الله في الأرض ومكلف بإعمارها وبناء الحضارات على أساس من الوحي، ولكي يستطيع الإنسان أن يقوم بدوره هذا فلا بد له من اتباع سنن الله في البناء الحضاري والتعرف على الذات الإنسانية بفطرتها وطبيعتها الأولى، وتحقيق غاية الوجود الإنساني من الخلق وهي العبادة”.
الفصل الثاني
يورد الكاتب نماذج من المفكرين الذين اهتموا بدراسة التاريخ ودراسة الحضارة في العالمين الغربي والإسلامي؛ فأما الغربيين فيذكر منهم:
كارل ماركس: الذي يتأسس تصوره للحضارة على أساسين: المادية الجدلية والمادية التاريخية؛ الأولى تتضمن النظرة الفلسفية العلمية للعالم، والثانية تدرس القوانين العامة للتطور الاجتماعي الحضاري.
أزفالد شبنجلر: الذي يرى أن الشعوب ثلاثة أنواع: شعوب أولية، شعوب الفلاحة والزراعة، ثم شعوب حضارية أو متحضرة. وفي إطار هذا التقسيم الذي يعده أزفالد قاعدة منهج التاريخ يدعو إلى دراسة واقع الأجيال الحضاري، ثم ينطلق إلى فلسفة الزمان والمكان في الوجود، ويحاول كشف الثابت والمتغير في حياة الأمم والحضارات.
أرنولد تويني: الذي درس تاريخ البشرية دراسة عامة واستنتج أن التاريخ يتكون من سلسلة من التجارب والأحداث يصل كل منها إلى قمته في صورة حضارة قائمة. وقد اختار تويني من حضارات العالم إحدى وعشرين حضارة، ومضى يدرس كل واحدة دراسة عميقة شاملة؛ ليخلص إلى أن حضارة كل أمة غنما هي استجابة لتحدي الظروف التي وجدت فيها هذه الأمة، وأن كل الحضارات التي درسها مرت بمراحل وأطوار متشابهة في النمو واستمرار التقدم.
أما المفكرون المسلمون الذين اهتموا بالحضارة فقد مثل لهم بكل من:
عبد الرحمان ابن خلدون: الذي نظر إلى المجتمع على أنه فئتان لا ثالث لهما؛ وهما أهل البدو وأهل الحضر، ورأى أن كلا منهما يختلف عن الآخر من حيث صفاته وعاداته وطبائعه، ومن ثم تساءل عن سر هذا الاختلاف وأسبابه، فراح يستنبط قوانين وسنن التطور والتحضر في الأمم والدول. ويرى ابن خلدون أن الحضارات تمر بثلاث مراحل: ففي الأولى تعيش عيشة البدو في الصحاري، وفي الثانية تصل إلى تأسيس الدولة، وفي الثالثة تنحو إلى حالة الحضر، ثم تنغمس في الترف والملاهي واتخاذ القصور والعروش.
مالك بن نبي: الذي يرى أن مشكلة الحضارة إما أن نحلها في نفس الفرد ذاته؛ وذلك بالنظر إلى ما يغير الذات الإنسانية وإما أن نحلها في نطاق ما يحيط به؛ وذلك بالنظر إلى ما يغير إطاره الاجتماعي. وتطور الأمم والشعوب في نظره مرهونة بهما معا؛ أي بالتغيرات النفسية والاجتماعية، ويؤكد الأستاذ مالك أن من شرائط قيام أي حضارة أن يكون لها نظام تربوي وثقافي جماعي يحسن استخدام كل الطاقات البشرية المادية. كما يشترط لقيام الحضارة أن نحل ثلاث مشكلات أولية؛ وهي مشكلة الإنسان، مشكلة الوقت، ثم مشكلة التراب، وهي عنده عناصر مركبة تتفاعل فيما بينها لبناء الحضارة؛ غير أن الحضارة لا يمكن أن تنشأ بمجرد توفر هذه العناصر؛ وإنما بوجود عامل يؤثر في مزجها وهو الفكرة الدينية. كما يرى ابن نبي رحمه الله أن الحضارة تمر بثلاث مراحل: مرحلة الروح، أو نقطة البداية في فجر كل حضارة مع ظهور فكرة دينية، ثم مرحلة الانحراف وفيها تبدأ بعض المظاهر السلبية تطفو على المجتمع، وأخيرا مرحلة التفكك النفسي وانطلاق الغرائز أو فترة السقوط والانهيار الحضاري.
أبو الأعلى المودودي: الذي عرض الكاتب تصوره للحضارة من خلال كتابيه: “الحضارة الإسلامية أسسها ومبادئها” و “نحن والحضارة الغربية”، وفيهما يذهب إلى أن كل حضارة تنبثق عن تصور للوجود وتصور عن الإنسان وعلاقته بالكون. ويركز في تصوره للحضارة على تصحيح مفهومها؛ حيث يذهب إلى أن كثيرا من المفكرين والفلاسفة لا يميزون بين الحضارة ونتائجها، ويظنون أن الحضارة هي العلوم والفنون والمعارف والصنائع… والحق –كما يقول- “أن هذه مظاهر الحضارة وأوراق وثمار لشجرتها، والشيء الجدير بالبحث في الحضارات هو ما تصور الحضارة عن الوجود، وما نظريتها عن الكون، وما منزلة الإنسان فيها، وما علاقته بالله، والكائنات الأخرى من حوله، وما غاية هذا الإنسان في الوجود، ولأي غرض هم يكدح ويسعى، وما العقائد والأفكار، وما الوسائل المعنوية والطرق التي تملكها لتكوين الإنسان وتحريكه للعمل”. ومن هنا كانت عوامل قيام الحضارات عند المودودي هي تصور الحياة الدنيا، غاية الوجود، العقائد والأفكار الأساسية، تربية الأفراد وإعداد الإنسان، ثم النظام الاجتماعي.
الفصل الثالث
يناقش فيه المؤلف سنن القرآن في قيام الحضارات، من خلال ستة عناصر أساسية:
العنصر الأول: التصور عن الوجود
وقد يقول قائل ما علاقة الوجود بقيام الحضارات وبسقوطها فيجيب الكاتب بأن التصور عن الوجود في القرآن الكريم هو أنه كيان صادر عن إرادة الله المطلقة التي لا تحدها حدود ولا يقيدها عجز، وأن الوجود هو وحدة متكاملة متناسقة الأجزاء والمفردات، الكل يصلح لما خلق له ويعمل في طاعة وانقياد؛ فلا عصيان ولا تمرد من أي عنصر فيه، ولا عداء ولا صراع بين أي من مفرداته. والوجود بهذا المعنى مهيأ وصالح بل مساعد على قيام الحياة السعيدة وتحقيق الحضارة الراقية في أحضانه وبين جنباته. وبتعبير الكاتب فالكون ليس خصما عنيدا للإنسان يصارعه ويقارعه. ومن ثم فالنظرة إلى الوجود التي يأخذ بها الإنسان ويعتقد بها ويقيم عليها تصوره للحياة ويتخذ منها فلسفة هي الأصل الذي تنبثق منه جميع نظرياته الفكرية والاتجاهات الأخلاقية والسلوكية، وهي المحرك الخلفي لأفكاره وسلوكه، وهي أساس اختلاف الثقافات والحضارات، فكل حضارة وكل نظام اجتماعي أو سياسي أو حتى اقتصادي لا ينبثق إلا عن مفهوم وتصور للوجود. وعلى ضوء هذا المفهوم يقول المؤلف: “فالشيوعية عقيدة والوجودية عقيدة والديمقراطية عقيدة”.
العنصر الثاني: العبرة (الاعتبار)
ويقصد بها أخذ العبرة من التاريخ، فالتاريخ -كما يقول المؤلف- لا يجب أن يؤدي إلى نتائج نظرية فحسب؛ بل الأصل أن يؤدي إلى نتائج تطبيقية تتصل بسلوكنا في الحياة وتحدد مواقفنا من الأحداث وما ينجم عنها من مشكلات. والنظرة إلى التاريخ لا ينبغي أن تقتصر على كونه مجرد حوادث ووقائع تتعاقب على الأمم والمجتمعات دون إدراك السنن والوقائع التي تحكم حركة التاريخ. كما أنه لا ينبغي أن ننظر إلى حركة التاريخ على أنه من القضاء والقدر، وأن الإنسان لا يسعه فيها إلا الاستسلام ومسايرة ظروف الواقع؛ بل ينغي أن ننظر إليها على أنها من صنع الإنسان، لأن حركة المجتمع والتاريخ لا تتحركان إلا بفعل قوة إرادة الإنسان، فإذا تحرك هذا الإنسان تحرك المجتمع والتاريخ، وإذا سكن سكن معه المجتمع والتاريخ. ونحن حينما نرجع إلى القرآن الكريم ندرك مدى أهمية هذا الكلام؛ فالقصص التاريخية في القرآن الكريم دائما ما تركز على العبر والعظات والدروس المستفادة، ولا تركز على الأحداث والأشخاص والأماكن؛ لأن ذلك ليس مقصودًا. ومع كامل الأسف كثير من المفسرين شغلوا أنفسهم وضيعوا جزءًا كبيرًا من وقتهم من أجل البحث عن عصا موسى من أي الشجر هي، والبحث عن اسم الكلب في قصة فتية الكهف، والبحث عن أسماء أصحاب الكهف… وكان الأولى الاهتمام بالدروس والعبر المستفادة من هذه القصص.
العنصر الثالث: العقيدة والإيمان
خلص فيه المؤلف بعد نقاش مستفيض إلى أن التوحيد أصل عقيدة البشرية، وأن التصور الحضاري في القرآن الكريم قائم على أن علاقة الإنسان بالكون علاقة تسخير وإعمار واستمتاع بالطيبات. ويؤكد هاهنا أن القرآن الكريم أحدث حركة إبداع ونشاط في الجزيرة العربية بدلت الحالة النفسية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية للإنسان والقبيلة بتبديل التصور العقدي والبناء الفكري للإنسان، وأحدث القرآن في الأمم ذات الحضارات العريقة السابقة حركة مماثلة حين حررها من عبادة الأصنام والأوثان والأرباب البشرية المصطنعة. وقد يقول قائل إننا اتفقنا منذ البداية على أن سنن الكون ونواميسه وقوانينه لا تحابي أحدا فكيف يقول الباحث الآن بأن العرب حققوا حضارة راقية بعدما تمسكوا بعقيدة الإيمان، فيكون الجواب بأن الحضارة ليست هي التطور الصناعي أو التقدم في البحث العلمي، وإنما الحضارة هي بناء الإنسان بما هو إنسان؛ أي بما هو ذات عاقلة وبما هو قلب نابض وبما هو قيمة عليا؛ ومن ثم فلا عقيدة تضمن للإنسان حريته في التفكير والقول والفعل إلا عقيدة التوحيد. ويضيف الكاتب أن ضعف الإيمان والاعتقاد يؤدي إلى الاضطراب والتردد والتناقض وانحلال الروابط الأخلاقية، ثم يفضي إلى ضعف القوة العاملة فتؤول كل مقومات الحياة المادية والمعنوية إلى التدهور التلقائي والتداعي الداخلي حتى تصير الحضارة إلى الانهيار والسقوط.
العنصر الرابع: العبادة
والعبادة التي يتحدث عنها الكاتب ليست العبادة بمعناها الطقوسي الضيق، بحيث لا ينبغي أن يفهم من هذه النقطة أن مجرد الصلاة والزكاة وأداء الحج بمعنى بمجرد أداء شعائر معينة يضمن للأمة حضارة راقية، وإنما المقصود هو أن العبادة هي شريعة وهي قانون ينظم علاقة الإنسان بربه وعلاقته بنفسه وعلاقته بالمحيط الذي يعيش فيه، بما فيه من كائنات وجمادات ومرافق ومؤسسات… فالعبادة بهذا المعنى الواسع هي قانون ينظم حياة الإنسان، ينظم حياته السياسية والاقتصادية والتربوية والاجتماعية والأسرية، وبالتالي لا يكون هناك ظلم ولا يكون هناك طغيان فتكون عندنا سياسة معتدلة، واقتصاد قوي، وتعليم هادف، وعلاقات اجتماعية وطيدة مبنية على أسس أخلاقية ومبادئ راقية؛ وبهذا تستطيع الأمة أن تصنع الحضارة من اقتصادها وسياستها وتدبيرها وحسن أخلاقها وحسن تعاملها مع الآخرين.
والخلاصة أن العبادة قضية شاملة لكل مناكب الحياة والغاية التي خلق من أجلها الإنس والجن، وبأداء شعائرها يقام الحق وينصر ويحارب الباطل وينهزم. والصلاة والصيام والزكاة والحج عوامل بناء للنفوس ووسائل تعمير الأرض وتحقيق الاستقامة على الطريقة التي بها تطرد العوامل والأسباب المدمرة للأمم والحضارات.
العنصر الخامس: السلوك الإسلامي (الأخلاق)
ويستهل الباحث حديثه عن هذا العنصر بالقول بأنه لا يريد دراسة الأخلاق من الزاوية التاريخية أو الفلسفية، وإنما الذي يسعى إلى بيانه هو أثر الأخلاق ودورها من الناحية النفسية والاجتماعية في تكوين الأمة وإعدادها للبناء الحضاري. وهنا يفترض أن لو كل واحد في الحياة يسعى ويجري لإرضاء نزعاته وشهواته وتحقيق منافعه الخاصة به دون أي قيد أخلاقي؛ من حياء أو توبيخ ضمير. فلا شك أن الحياة تتحول إلى فوضى فيتعذر بل يستحيل قيام أية بادرة حضارية أو تكوين وحدة أمة، ومن هنا جاءت ضرورة سيادة الروح الأخلاقية بين أفراد الأمة والمجتمع وأفراد الإنسانية عامة. ونحن اليوم حينما نناقش علاقة الإسلام بالغرب لا ينبغي أن نخشى تقدم بعض الدول في الصناعة والتجارة والخدمات، بقدر ما ينبغي أن نخشى الدول التي ترفع من شأن القيم والأخلاق وتعتبرها أكثر أهمية من البنيان ومن السلاح. فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يبني حضارة الإسلام في الجزيرة العربية التي لم تكن إلا صحراء قاحلة بالصناعة والتجارة والابتكار وامتلاك الأسلحة؛ وإنما بناها بالأخلاق. والمواقف في ذلك أكثر من أن تعد وتحصى. وجملة القول أن الباحث في تاريخ الحضارات والدارس لطبيعتها وسنن قيامها وازدهارها يتبين له أن جوهر الحضارة الأخلاق. وإن كان تقرير هذه الحقيقة قد يدهش الذين اعتادوا التعلق بالاعتبارات المادية، بل قد يثير الاشمئزاز في نفوسهم من الذين يؤمنون بدور الأخلاق في التماسك والازدهار الحضاري.
العنصر السادس: عنصر الجمال
والجمال في القرآن تعبير موح عن قيم إنسانية وحقائق علمية، وعن علاقة الجمال بالحضارة يقول المؤلف بأنه من العبث تجريد الحضارات من الصور الجمالية، وأن الصور الجمالية في القرآن تدفع الإنسان إلى الإنشاء والإبداع والانطلاق والارتفاع والنمو في كافة مجالات الحياة الإنسانية، كما أن الصور الجمالية تؤكد الصلة بين الخالق والمخلوق، وبين مفردات الوجود. لأن الجمال يولد الشوق والحب في النفوس وكل شوق وحب هو قوة إلى تحقيق غاية أو إلى نيل هدف.
ومن ثمة فنظرية الجمال في ظلال القرآن لا تملأ فراغ مشاعر الإنسان بأطياف اللذائذ الحسية أو بالتشهي الذي يخلق القلق والحيرة؛ وإنما تهتف بالإنسان بأشواق الاستعلاء، وتملأ فراغ حياته ومشاعره بالأهداف الإنسانية التي تطور الحياة وترقيها.
الفصل الرابع
يناقش الكاتب سنن القرآن في سقوط الحضارات، ويطرح من خلاله سؤالا جديرا بالطرح وهو كيف يمكن الوصول إلى نظرية أو رؤية إسلامية نعلل في ضوئها كيفية سقوط الحضارات وزوال الأمم والإمبراطوريات ونعلل أسباب تقلبات التاريخ؟ وقبل أن يشرع في بيان أهم العلل التي أدت إلى سقوط كثير من الحضارات أكد هيشور على أن أدق العلل وأصغرها قد تؤدي إلى أعظم النتائج وأخطرها، وأن من النتائج التي ماتزال تعاني منها ثقافتنا وفكرنا هي أننا دائما نبحث في تفسيرنا للظواهر عن العلل الكبرى وعن العوامل الخارجية، وقل أن نلتفت إلى العلل الصغرى والعوامل الداخلية. وفي هذا يقول: “والثابت تاريخيا أنه ما انتصرت أمة أو انهزمت إلا بفعل العوامل والأسباب الداخلية، وما العوامل الخارجية إلا مكملة ومتممة للداخلية”. ولعل هذا ما كان يقصده مالك بن نبي رحمه الله عندما يتحدث عن القابلية للاستعمار ويبين أنه العامل الأكبر في هزيمة المسلمين في العصر الحديث. كما يلفت الكاتب أنظار القراء إلى مسالتين مهمتين: الأولى هي أن باعث الدمار والهلاك لا يكون فسادًا فرديًا وإنما يكون فسادًا جماعيًا وظلمًا عامًا يشمل كل العلاقات الإنسانية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية.
وبعد ذلك ينتقل المؤلف إلى بيان بعض عوامل أو علل سقوط الحضارات.
العامل الأول: الابتلاء والاختبار
ومن النصوص القرآنية التي تؤكد هذا المعنى وتقويه قوله تعالى في سورة آل عمران (وما أرسلنا في قرية من نبيء إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء لعلهم يضرعون ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة حتى عفو وقالوا قد مس آباءنا الضراء والسراء فأخذناهم بغتتا وهم لا يشعرون).
العامل الثاني: الظلم
والظلم كما يقرر المؤلف سنة من سنن الله في إهلاك الأجيال، وسبب رئيس في سقوط الحضارات وإبادة المدنيات. وهذه الحقيقة لم يدعيها الباحث من تلقاء نفسه أو باجتهاد من عنده وإنما هي حقيقة قررها القرآن الكريم وأكدتها السنة النبوية؛ ولذلك نجده يحشر لها من النصوص القرآنية العشرات. وكلها تؤكد أن الأقوام السابقة لم تهلك إلا لأنها كانت ظالمة، من ذلك مثلا قوله تعالى في سورة هود: (وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون) وقوله تعالى: (ذلك من أنباء القرى نقصه عليك منها قائم وحصيد وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم) قوله تعالى: (فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ). قوله تعالى: (فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ).
العامل الثالث: التكذيب
وفيه يشير صاحب الكتاب إلى أن التكذيب يكاد في أشمل معانيه أن يساوي معنى الإلحاد في لغة العصر الحديث، غير أنه استفاض في مناقشة تكذيب الاقوام السابقين لأنبيائهم دون الحديث عن التكذيب المعاصر أو الإلحاد بلغة العصر. وقد استعرض من خلال هذا العامل نماذج لحضارات كثيرة طواها الزمان وأتى عليها الدهر، وكانت قد اشتدت وامتدت وعلا نجمها، واتسع أفقها حتى سادت وقادت. ومن ذلك يذكر قوم نوح لما كذبوا الرسل، ويذكر كذلك بشكل مستفيض قوم عاد الذين كانت لهم القوة المادية، وكانت لهم الصناعة والاقتصاد، وهذا مما اعترف لهم به القرآن.
العامل الرابع: الانحلال الأخلاقي والفساد الاجتماعي
فالقرآن الكريم يقرر أن ظهور المعاصي وانتشار الفواحش في المجتمعات وتفشيها في كل الأماكن مع سكوت الناس عن تغييرها سبب من أسباب الهلاك والسخط. وقد سجل القرآن الكريم نماذج ممن أهلكهم بسبب تفشي الفواحش وظهور الفساد. وقصة قوم لوط عليه السلام أشهر من أن تروى وتقص، فبسبب انحلالهم الأخلاقي وشذوذهم الجنسي خسف الله بهم الأرض. وقد علق المؤلف على هذه الظاهرة بقوله: “وقد يعلل أصحاب التفسير المادي للتاريخ تلك الحادثة بأنها زلزال أو بركان عابر كالذي مازال يحدث في الأرض نتيجة تفاعلات جيولوجية أو عوامل جغرافية أو صناعية، ولكن التفسير الإيمان الإسلامي يبعد هذه التأويلات وإن كان قد يقبل تعليلاتها وإنه يرجع أسبابها إلى عصيان القوم وانحرافهم”. وإلى جانب قوم لوط يذكر الكاتب الفساد الاقتصادي الذي كان يهدد الأمن الاجتماعي في أهل مدين قوم شعيب عليه السلام، الذين استحقوا غضب الله وسخطه، فذهب مجدهم وأبيدت حضارتهم. وكإجابة عن سؤال كيف لهذه المفاسد أن تكون عوامل وأسباب لتدمير الأمة، يجيب الكتاب بأنها تولد الأحقاد والبغضاء وتشيع مشاعر اليأس والقنوط في النفوس، وتفقد الثقة، وتفكك الروابط الاجتماعية والعلاقات الشخصية بين الناس، وتقوى الغرائز الذاتية وحب الأنانية.
الفصل الخامس
وهو الفصل الأخير يتحدث فيه المؤلف عن سنن التجدد والاستبدال الحضاري في القرآن وينطلق فيه من مسلمة مفادها أنه كما للحضارات سنن القيام والسقوط لها سنن التجدد والانبعاث وسنن التداول والاستبدال. وقد صاغها في خمسة أصناف.
الصنف الأول: سنن النشوء والتجدد الحضاري
وفيه يبين أنه لابد للحضارة إذا أرادت أن تتجدد وتقوم مرة أخرى أن يكون ذلك في منطلقها الأول وخصائصها الذاتية، وأن تستحضر ماضيها وتربطه بحاضرها، ثم يتحدث عن أمر مهم وهو أن التجدد الحضاري عملية ذاتية داخلية، وهي عملية تحدث عن تفاعل عوامل وعناصر كثيرة، كما أن التجدد سنة ثابتة في كل الكائنات الحية، فالحيوانات تتجدد أشعارها وأوبارها والشجرة تتجدد أوراقها والإنسان ذاته تتجدد خلايا جسمه باستمرار في ضوء قانون الهدم والبناء والموت والحياة.
كما يشير إلى أن سنن الله في القرآن للتجدد الحضاري والخروج من التخلف سنتين: التغيير الذاتي والإعداد الذاتي، وأنه بدون الأخذ بهاتين السنتين لن تبدأ حركة التاريخ سيرتها ولن تستأنف الحضارة دورها في التعمير وتحقيق الاستخلاف والتمكين والدفع بالأمة إلى المواقع الأمامية التي تجاوزتها فيها قيادات الأمم الأخرى.
الصنف الثاني: سنن التداول والاستبدال الحضاري
يناقش من خلاله كيف أن الله عز وجل يداول أيام التاريخ على الحضارات. وينطلق في ذلك من قوله تعالى في سورة آل عمران: (وتلك الأيام نداولها بين الناس)، وقد جاءت تفسيراتها في كثير من الآيات القرآنية التي تحدثت عن الحضارات الإنسانية؛ وقد جرت عليهم دورات حيث علو في الأرض المقدسة وكان لهم سلطان وقوة ثم أفسدوا فيها فبعث الله عليهم عبادا له أولي بأس شديد ثم كانت الغلبة لهم وأمدهم الله بأموال وبنين، ثم عادوا إلى عادتهم فسلط الله عليهم أمما وقادة ظالمون، وعادوا الآن إلى الفساد والظلم في انتظار وعد الله فيهم، ووعد الله فيهم حقيقة أثبتها القرآن.
الصنف الثالث: سنن الاستخلاف في الأرض
والاستخلاف في الأرض هو أن الله جعل البشر في الأرض خلفاء له، وذلك بمقتضى قوله تعالى: (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة) ومجل ما استخلف فيه البشر في الأرض هو طاعة الله والحكم بالحق والعدل وعمارة الأرض. غير أن الكاتب يتحدث عن الاستخلاف بمفهوم غير المفهوم المتداول في كثير من الكتابات الإسلامية وفي أغلب تفاسير القرآن على أن المقصود به أن الإنسان جعل في الأرض خليفة لله ونائبا عنه في التصرف في هذا الكون وفي نعم الله. والمعنى الذي يعطيه الكاتب للاستخلاف استنادا إلى بعض التفاسير هو أن بني آدم جعلهم الله خليفة لقوم كانوا من قبلهم. وقد استند في هذا إلى كلام لابن عباس والطبري والقرطبي، حيث يرى ابن عباس أن أول من كان في الأرض قبل آدم هم الملائكة الذين خاطبهم الله في بقوله: (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة) خليفة: أي بدلا منكم. أما الطبري فيرى أن أول الأقوال بالتأويل أن الأرض كان يسكنها الجن فأفسدوا فيها وأسفكوا الدماء وقتل بعضهم البعض فبعث الله عليهم إبليس وجنوده فقتلهم حتى ألحقوهم بالبحار، ثم خلق الله آدم فأسكنه إياها واستخلفه مكانهم. أما القرطبي فيرى أن الله خاطب الملائكة لا للمشورة ولكن لاستخراج ما فيهم من رؤية الحركات والعبادة والتسبيح والتقديس. كما استند كذلك إلى قول للإمام محمد عبده، والشيخ القاسمي في تفسيره “محاسن التأويل”، كلهم يؤكدون أنه كان في الأرض أقوام قبل بني آدم. وعلى هذا الأساس يكون الاستخلاف سنة من سنن قيام الحضارات الإنسانية، حيث أن الله عز وجل ينزل قوما إلى الأرض فإن حققوا مقتضيات الاستخلاف تركهم، وإذا انحرفوا عن مقتضياته أذهبهم الله وجاء بقوم آخرين. وهذا ما تؤكده كثير من الآيات القرآنية؛ ومنها خطاب الله عز وجل للأمة قائلا: (وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ).
الصنف الرابع: سنن التمكين الحضاري
فبعد أن انتهى المؤلف من مناقشة الاستخلاف كبديل ذي صلاحية للبقاء والاستمرار الحضاري وبين توابع ومقتضيات هذا المفهوم، انتقل إلى مفهوم يتصل به اتصالا وثيقا؛ وهو مفهوم التمكين كمستوى ثاني بعد الاستخلاف في التحضر، وهو الآخر له سنن وشروط لا يتحقق إلا وفقها ولا ينال إلا بمقتضاها، وهي مبثوثة في آيات القرآن كما في أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم. وبعد وقفة طويلة مع مجموعة من الآيات التي تحدثت عن التمكين للحضارات والتمكين للأمم والتمكين للأفراد، يستخلص الباحث جملة من شروط التمكين للمؤمنين من خلال تمكين الله ليوسف عليه السلام ومنها الصبر والثبات ثم العلم والحكمة. وكجواب عن سؤال قد يواجهنا وهو كيف مكن الله لأهل الباطل والكفر في حقب مختلفة من تاريخ الإنسانية إذا كان من سنن الله في التمكين الإيمان والعدل؟ يجيب الكاتب بآية قرآنية يقول فيها الله عز وجل لنبيه: (لا يغرنك الذين كفروا في البلاد متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد). والآية كما يقول: تبين سنة من سنن الاستدراج للباطل، ويربط ذلك بواقع الغرب اليوم قائلا: “وهاهم أهل الغرب يعيشون اليوم حياة الضنك التي أنذروا بهاح وهو ضنك نفسي لا يخفف من آثاره التقدم المادي ولا التكنولوجي والاقتصادي، ولعل الذين يعيشون في مجتمع الوفرة والتخمة أكثر من غيرهم تعاستا وقلقا”. ويضيف قائلا: ولعل التمكين للغربيين في العصر الحديث وهم على ضلال يجري وفق سنتين من السنن الربانية. الأولى: في قوله تعالى: (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ). والثانية: في قوله تعالى: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ). وتفاعلا مع هذه النقطة بالذات أقول بأن الغرب اليوم وإن كانوا من ناحية منحرفين عن الدين منتهكين لحرمة الله إلا أنهم من ناحية أخرى خاصة في بعض دول أوروبا يقبلون على الدين ويلتزمون به أكثر من التزام المسلمين العرب بمبادئه. فألمانيا على سبيل المثال تشهد اليوم تقدما ملحوظا على مستوى اعتناق الإسلام وبناء المساجد، ومن أبناء ألمانيا اليوم من يدافع عن الإسلام ويكتب عن قضاياه أحسن بكثير مما يكتبه أبناء الإسلام أنفسهم.
الصنف الخامس: سنن وراثة الأرض
وفيه ينطلق المؤلف من نصوص القرآن ليثبت أن الأرض ستؤول وراثتها للصالحين وأن من سنن وراثة الأرض الاستعانة بالله والصبر وأن الوراثة تكون لعباد الله. والملاحظ هنا أن صاحب الكتاب لم يميز بين مفهوم الوراثة وبين مفهوم الاستخلاف، ولذلك جاء في آخر هذه النقطة فجمعهما في سياق واحد فقال بعدما أورد قوله تعالى: (أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ). حيث قال: والمراد أن هو ينبغي للمستخلفين في الأرض والوارثين لها جيلا بعد جيل أن يتقوا ولا يكونوا من المفسدين… وفي تقديري أن ما أدى إلى هذا الاضطراب أو هذا الخلط بين المفهومين هو ما وقع من اجتهاد في مفهوم الاستخلاف من كونه جعل الانسان خليفة لله في الأرض إلى كونه استبدال قوم بعد قوم آخرين.
خلاصات وملاحظات:
من الخلاصات والنتائج التي يمكن تسجيلها بعد هذه القراءة السريعة للكتاب:
- أن الكتاب يعتبر قيمة مضافة للمكتبة الإسلامية، لأنه أعطى نفسا جديدا للدراسات القرآنية، من خلال استثمار القرآن الكريم في بحث السنن الحضارية.
- كما أنه يحاول في كل فصل من فصول الكتاب أن يتحدث عن واقع الأمة ومشكلاتها اليوم سواء على المستوى الإسلامي أو الغربي، وإن كان ذلك بنسبة قليلة جدا.
- من النتائج التي يمكن أن يتوصل إليها قارئ الكتاب أن آية واحدة من كتاب الله تصلح أن تكون قانونًا اجتماعيًّا أو سياسيًّا أو نظرية اقتصادية، أو منهجًا تربويًّا، أو عبرة تاريخية.
- أن الحضارة التي يسعى القرآن إلى إقامتها ليست حضارة المادة، وإنما حضارة الإنسان.
- أن أي حضارة لها بداية ونهاية، وأن قيام الحضارة أو سقوطها يكون بفعل عوامل ذاتية وداخلية.
- أن قضية السنن في منهج التحضر في القرآني تقوم على أساسين: وهما اليقين بوجود الله ووحدانيته، ونفي مزاعم المذهب المادي الإلحاد المرتكز على وهم الاكتفاء الذاتي للكون أو الطبيعة.
- نظرية السنن في القرآن تنفي فكرة الجبر التي ترى أن الإنسان ليس حرا في الوجود، وأنه ليس بإمكانه إلا الإذعان والاستسلام للقضاء والقدر.
ومن الملاحظات التي سجلتها وأنا أنجز هذه القراءة في الكتاب:
- إقحام الكاتب لموضوع (نماذج المفكرين في تصورهم للحضارة) في موضوع الكتاب، وتخصيص فصل كامل لذلك،. ولو أدرجه في الفصل الأول ضمن مباحث أخرى لكان ذلك أفضل.
- يغلب على الكتاب طابع الوصف، خاصة وأنه في الفصل الأخير من الكتاب صرح في بدايته أنه سيبين سنن التجدد الحضاري التي يمكن لأي حضارة أن تأخذ بها إن هي أرادت النهوض من جديد، لكن الملاحظ أن كل ما قدمه في هذا الفصل لم يكن إلا وصفا وتتمة لما قبله.
- هناك خلط في الكتاب بين سنن التداول وسنن التجدد
- كما أن هناك اضطراب واضح في تحديد مفهوم الاستخلاف
- أحيانا ينتقل من فصل إلى فصل دون أن يربط بين الفصل السابق واللاحق، وهذا يظهر كثيرًا داخل أجزاء كل فصل
- من الملاحظات المنهجية أن الكتاب لم يهتم بتبويب الكتاب تبويبا يشمل كل أجزائه، ويسهل الربط بينها.