لا تستقيم الحياة إلا بالعمران بمنهج رشيد يجمع في طياته منافع الدنيا والآخرة. والسعي في تحقيق هذا العمران يعدّ عبادة يؤجر عليها الإنسان، حتى الذي لا يؤمن يطعم ويكافأ على إسهاماته العمرانية في الدنيا. ولقد طبّق المسلمون الأوائل المنهج العمراني الذي يجمع بين حسنة الدنيا والآخرة، امتثالاً لقوله تعالى: (هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا)(هود:61)؛ أي طلب منكم عمارتها.
إن خريطة العمران البشري كانت ممتدة عبر الأجيال عندما فهمت هذه الأجيال لب الإسلام وقواعده، وعلمت حقيقة التوكل على الله، وأن المتوكل على الله ليس هذا الإنسان الذي يعكف على لون واحد من العبادة، وتتورم قدماه من القيام، ويظهر عليه أثر الصوم والتبتل تاركًا غيره كادًّا كادحًا يبني ويشيد ويعمر وهو قابع في محرابه يظن أنه بلغ منزلة العابدين!
إن السعي الحضاري يجعل الأمة تعيش حياة سوية سعيدة، ولن يكون ذلك إلا عن طريق الفهم الصحيح والعمل الدؤوب والكفاح والإخلاص في العطاء للبشرية كلها.
إن المسيرة الحضارية كي تستمر لا بد من تضافر الجهود، وتعاون الجميع في شتى مجالات الحياة؛ لأن الإفادة الحضارية المتعاونة الرشيدة، تجلب الخير للكون كله وتقيه ويلات التخلف؛ من أجل ذلك كان المبدأ الأساسي لبناء الحضارات، التعارف والتعاون على ما فيه الخير والنفع: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا)(الحجرات:13)، (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى)(المائدة:2)؛ فالتعارف والتعاون بجانب التعمير أساس تَقدُّم الأمم، ولن تبلغ الأمة المجد إذا كان هناك قطيعة حضارية أو تواكل حضاري، ذلك التواكل الذي يتغنى أصحابه بأمجاد الأجيال السابقة وهم في سبات، كل واحد منهم يشاهد الحضارات تبنى من حوله، ويرى النهوض العلمي والثقافي والاقتصادي والاجتماعي والسياسي وهو يرفل في ظلمات التخلف، يستورد ولا يصدِّر، يتأثر ولا يؤثر، موقعه -دائمًا- في الجملة الفعلية التعمرية، مفعول به لا فاعل!
إن مداومة السعي تقتضي حتمية الوصول، هذه قاعدة من قواعد التوكل على الله طبّقت في كل القوانين الكونية والإنسانية، بل وفي قانون الحيوانات والطير، حيث عُلِم الطير أن السماء لا تمطر ذهبًا ولا فضة، وإنما الذهب يخرج من بطون الأرض وبالمشي في مناكبها، قال : “لو أنكم توكَّلون على الله حق توكُّله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خِماصًا وتَروح بطانًا” (رواه الترمذي)؛ تغدو خماصا؛ السعي في الوصول إلى الهدف، وتروح بطانًا؛ الوصول إلى الهدف.
فمتى يتعلم الدرسَ المتواكلون حضاريًّا من الطير الذي رفض أن يتواكل على غيره، وسعى بنفسه حتى وصل لهدفه؟ فكيف نريد أن نصبح أفضل البلاد، وحضارتنا أعرق الحضارات ونحن في سبات عميق نغطّ في النوم غطًّا؟!
إن التواكل الحضاري جريمة تظهر آثارها في واقعنا؛ لأن الأمة المتواكلة على حضارات الغير تظل متطفلة، بل من الممكن أن يصيبها الرق الاحتلالي، فتفكر بعقل محتلها وتتحرك بأوامره، فتصبح أمة مسلوبة الإرادة طاقتها معطلة.. كما أن التواكل الحضاري يؤدي إلى العنف ويجعل الإنسان فريسة لشهواته ورغباته؛ لأن مساحة الفراغ الزمني للمتواكلين ستملأ بما يضر، ومن هنا تسعى النفس المتواكلة في تدمير نفسها وتدمير أمتها، وذلك لأنها ستقع في شراك شياطين الفكر المنحرف والمتطرف، وستقع -أيضًا- في مصيدة الفكر المتسيب الذي يطلق لفكره العنان فيما لا يقدر عليه، ليصل في المحطة الأخيرة إلى الإلحاد.. كل ذلك لأن المساحة الزمانية والمكانية والفراغ الحضاري، لم يملأ بما ينفع ويخدم الإنسانية والكون من حولنا، لم يملأ بالعلم والعمل والقيم والأخلاق وتحقيق رسالة الخيرية التي أخرجت الناس من الظلمات إلى النور، أخرجت السكينة والطمأنينة، أخرجت الأمة الخيرية صورة طبق الأصل من الإسلام الذي فيه السلم والسلام، فيه سلامة القلب وطهارته، وسلامة اللسان وعفته، وسلامة الجوارح من العدوان والسباب والرمي بالكفر دون برهان.
إن السعي الحضاري يجعل الأمة تعيش حياة سوية سعيدة، ولن يكون ذلك إلا عن طريق الفهم الصحيح والعمل الدؤوب والكفاح والإخلاص في العطاء للبشرية كلها، لا فرق بين عربي وأعجمي إلا بالتقوى.
(*) عضو في مجمع البحوث الإسلامية / مصر.