هل النسيان ظاهرة مرضية أم صحية؟

“خانتنى الذاكرة”…  ” الصغير لا ينسى ” … ” العلم في الصغر كالنقش على الحجر”  مقولات وحكم سمعناها من أفواه أجدادنا تحمل بين طياتها العديد مما توصل إليه العلم في تفسيرها، فطالما تذكرنا أحداثًا في طفولتنا البعيدة وعجزنا عن تذكر ما حصل بالأمس القريب. ماهو السبب العلمي وراء ذلك؟  لماذا نذكر أزمانًا مرت عليها عشرات السنين وننسى زمنًا لم يمضي عليه سوى أشهر.  لقد قيل أن الإنسان سمي بهذا الاسم لأنه كثير النسيان ، وكما يقول الشاعر:

وما سمي الإنسان إلا لنسيه                      ولا القلب إلا أنه يتقلب

والسؤال الآن هو : هل يجرى النسيان طبقًا لقانون ؟ وهل يكون النسيان كاملاً؟ وما هي عوامل النسيان؟

لقد اختلف العلماء في أمر النسيان فذهب بعضهم إلى أن كل ما يدخل في خبرة المرء ويتأثر به لا يزول أبدًا ولا يمحى، وذهب البعض الآخر إلى أن الإنسان لا يمكن أن يحتفظ بكل شيء، وقال بعضهم الثالث أن الأشياء التي سبق حفظها حفظًا جيدًا وثبتت مع التكرار هي التي لا تنسى ويمكن استرجاعها في حالات خاصة مثل الهذيان أو التنويم المغناطيسي   .

مفهوم النسيان

لا يستطيع الإنسان أن يعيش بدون ذاكرة تنظم حياته وعلاقته بالناس، أيضًا لا يستطيع أن يعيش من دون مستودع للنسيان في الدماغ، لكي يمحو المآسي والأحزان فلا تتراكم. فالذاكرة مهمة للأفراد كما هي مهمة للشعوب… إنها تصنع التاريخ، والنسيان كذلك مهم حتى لا ينفجر الإنسان نفسيًا من تراكم الأحزان.

ولتحديد مفهوم النسيان فسر العلماء النسيان تقليديًا على أنه اختفاء للمعلومات من الذاكرة بحيث نصبح عاجزين عن تذكرها. أما وجهة النظر الحديثة فتشير إلى أن المعلومات لا تختفي من الذاكرة إلا أننا نفشل في استرجاعها أو التعرف عليها.
فالنسيان شيء عادي، فلسنا مطالبين بتذكر كل شيء، بل هو وسيلة لتفريغ الذاكرة من كم معين من المعلومات حتى تتمكن من استقبال كم آخر.

أنواع النسيان

يميز علماء النفس بين نوعين رئيسين من النسيان هما :

1-النسيان الطبيعي: وهو حالة عادية موجودة عند جميع الناس بدرجات متفاوتة، يؤثر إيجابًا على وظيفة الذاكرة وعلى حياة الإنسان بصفة عامة حيث يخلص الذاكرة من الصور غير المفيدة حتى تستطيع اكتساب صور جديدة، فلو بقي الماضي ماثل في الذهن بكامله لما كانت لدينا القدرة على تخزين معلومات جديدة .

2- النسيان المرضى: وهو حالة غير طبيعية وخاصة موجودة عند من يعانون من أمراض الذاكرة، وهو يعرقل وظيفة الذاكرة ويؤثر سلبًا على السلوك الإنساني فيجعله غير قادر على التكيف مع المواقف المختلفة.

النسيان ضروري للحياة النفسية

ومع أهمية الذاكرة وفوائدها الكثيرة في حياتنا العامة تأتي كذلك أهمية النسيان، فالنسيان مفيد في كثير من الأحيان بل قد يكون ضرورياً. فالذاكرة في واقع الأمر مزيج من التذكر و النسيان ولا تعجبن من قولنا أن النسيان ضروري للحياة النفسية، فقد تمر بالإنسان ذكريات فاجعة كلما استعادها أحس بالألم الشديد كالذي ذهبت ثروته أو فقد ابنه الوحيد فإذا لم يستطيع هذا الشخص النسيان بإرادته فضل الموت على حياة مملوءة بالألم فأقدم على الانتحار والشواهد على ذلك كثيرة في التاريخ نذكر منها مأساة كليوباترا ومارك أنطوان.  وللنسيان ايجابيات وسلبيات…

هل تختلف درجة النسيان الطبيعي من شخص لآخر؟

نعم، وهذا يعتمد على شخصية الفرد وعلى نوعية المعلومات وعلى الظروف المحيطة؛ فبالنسبة للشخصية وجد أن الشخصيات الشكاكة (البارانويه)  والشخصيات الوسواسية والشخصيات الانبساطية تكون ذاكرتها للتفاصيل أقوى ونسيانها أقل. يضاف إلى ذلك أن المعلومات ذات الأهمية الخاصة  والمصحوبة بمشاعر عميقة يكون نسيانها أصعب وخاصة إذا كانت الظروف المحيطة تساعد على ذلك من حيث الحالة الصحية للشخص وعدم وجود وسائل تشويش أو تداخل.

كيف يحدث النسيان؟

يحدث النسيان بسبب مرور الزمان، لكنه يحدث بسرعة أكبر في البداية، أي عقب التحصيل مباشرة ثم ينخفض معدل الفقد. فلو قرأت موضوعًا ما الساعة الخامسة مساء فإنّ نسبة الفقد والنسيان تكون عالية في الدقائق والساعات التالية مباشرة للساعة الخامسة ثم ينخفض معدل النسيان. من هنا تبرز المراجعة اللاحقة مباشرة وبعد نهاية اليوم الدراسي وقبيل النوم.

 لماذا ننسى؟

هل قابلت أحدًا من قبل فسألته عن اسمه، ثم قابلته بعد أيام قلائل فلم تتذكر اسمه؟ هل يصعب عليك تذكر أرقام هواتف أصدقائك؟ هل تجد عناءً في تذكر كلمة السر الخاصة ببريدك الالكتروني مثلًا؟ كثيرًا ما نتعرض لمثل هذه المواقف، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه: لماذا ننسى؟ الجواب ببساطة هو أننا عندما نحفظ معلومة حفظًا جيدًا فهذا يعني أننا اتبعنا طريقة حسنة لحفظها بينما يدلّ في الحالة المعاكسة أنً هذه الطريقة لم يتم إتباعها.

مع مرور الزمن وتقدم العمر تضعف الذاكرة تدريجيًا، مما يعرض المرء إلى بطء عملية التذكر أو الاستدعاء. وقد ثبت بأن الخبرات والمعلومات التي يتذكرها الإنسان بعد فترة من الزمن لا تبقى على حالها كما كانت عليه في السابق، بل تتعرض إلى التشويه أو ضياع التفاصيل وقد تتعرض إلى عمليات الحذف والإضافة. ويعتبر البعض النسيان غيابًا مؤقتًا أو تأملاً لبعض الأفكار التي مرّ بها الوعي. فالنسيان بالنسبة لهؤلاء هو مجرد فقدان أو غياب الذكريات، لكن هذا الفهم للنسيان والذي يجعل منه ظاهرة مرضية أصبح مرفوضًا في هذه الأيام. لذلك علينا أن نميز بين النسيان كظاهرة مرضية والنسيان كظاهرة عابرة. فالنسيان ليس دائمًا نقيض الذاكرة بل يبدو مكملاً لها.


مصادر يمكن الرجوع اليها

-كتاب : التفكير والتعليم في ضوء أبحاث الدماغ- د. إبراهيم بن أحمد مسلم الحارثي.

-كتاب: استخدم ذاكرتك- توني بوزان.

– مقتطفات من كتابات ستيفن كوفي .

– العديد من مواقع الشبكة العنكبوتية.