رمز التضحية والفداء

نستدعي أحرفًا تليق بوصف الأم وننادي الكلمات تبين ماهيتها، ونعصر الأفكار لترسم أمامنا صورتها وحنانها الكبير. ونبوح بما يجيش في قلوبنا من الحب كيف ما يمكننا، إنها هي رمز الحلم والصبر والرفق واللين، والشعاع الذي يمنحنا الأمن والأمان والعطف والحنان، تظهر كنور مضيئ في الظلمات لترشدنا إلى الطريق الصحيح، وهي مدرستنا الأولى، منها تعلمنا أن ننزل بتفكيرنا عندما نتحدث مع الصغار، وكيف نسمو ونرتقي بكلامنا حينما نناقش الكبار ولا نعارض حديثهم ونستمع إليهم بكل احتشام واحترام. ومنها تعلمنا الحلم والصبر والرفق والعطف وسائر الفضائل السلوكية، عندما نتحير في متاهات الحياة القاتلة نجد بجوارها الأنس والدفء.

مهما تمر بنا الأيام والسنون ومهما يغطي الشيب رؤوسنا ومهما استغرقنا في أشغالنا اللامتناهية، سنبقى في نشوة ذاك الحب اللامحدود وتلك العاطفة التي لا تموت. ونبقى أطفالا مدللين وتبقى تلك الكلمات الجميلة والنغمات اللذيذة تتموج في آذاننا وتتهيج في أذهاننا، وتبقى تلك اليدان المتعبتان علامة على أجسادنا لما أعطت من بذل مجاني كبير.فالأم هي عنوان الحياة. ومهما اشتدت بنا أحوال الحياة ومهما احتدمت بنا الأزمات والصعوبات سيبقى وجهها باب أمل لنا، وستبقى تلك العينان سراجًا لدربنا الطويل لكيلا نتعثر في مسيرة العيشة المتمايلة ونتورط في هوة الحياة المتهالكة، وإن وقعنا فستنتشلنا منها.

وتخفف عنا كل حمل ثقيل بكلمة منها حتى بتفكيرها الباطني، نبقى في كيونة حياتها لأننا الأعلى والأغلى بالنسبة إليها ولأننا جزء من ذاك الجسد النحيل الذي ينحني مع سنوات العمر الطويلة لنستقيم؛ فهي التي مكثت معنا من لحظة وجودنا في هذا العالم الواسع ترافق نمونا لحظة بلحظة إلى أن يشتد ساعدنا، تشاركنا في كل خطواتنا وحركاتنا وسكناتنا وأفراحنا وأحزاننا. وهي ملجأنا الحصين إذا حامت بنا هواجس الرعب.

وعندما نجتز مرحلة طفولتنا  تتلاطم في ذاكرتنا أمواج الذكريات الهائجة، وتتراكم في أعماق دماغنا ملامح المشاهد المتأججة. قطعنا  شوط الحياة معها وعشنا في كنفها نحبو ونركض وننمو ونكبر. وقد استفدنا منها كثيرا منذ أن تصوغ لنا شخصية  مترعة بالبر والإحسان وغرست في قلوبنا حبات المحاسن الخيرية. وأدت واجبها الديني والأخلاقي تجاهنا بأكمل الوجه. ومنحنا كل شيء من الممكن أن يقدمه الإنسان للإنسان في حياته، وأزالت العوائق في طريقنا وأقالت العثرات في دربنا وسددت خطانا ووجهتنا إلى سبيل الحق والصواب.

وكم خففت آلامنا وحققت آمالنا وأحلامنا وكم عانت من أجلنا وكم أتعبت من جسد وأرقت من جفن وذرفت من دمع لنهنأ ولنعيش في أمن، وكم تحملت صرخاتنا ونحن في المهد وكم اجتهدت لحل مشاكلنا ونحن صغار وكبار، وهي التي علمتنا ووهبتنا كل شيء وبذلت نفيسها وأنفاسها وفدت روحها وضحت جسدها وضخت أموالها في حياتها دون أن تنتظر أي مقابل منا، وهي روح الأسرة وتيارها الذي يشغلها ويحركها ويبث فيها الحياة ويحافظ على لحمتها وتماسكها وفاعليتها وتضامنها وتكاملها.

وكذلك من التجارب المتميزة التي أحسسنا بها معها والتي أبرزت لنا عمق حبها لنا أنه إذا انطلقنا من البيت إلى الخارج تتضاعفت نبضات، وإذا تأخرنا عن الموعد المعتاد نلتقيها تتلون ملامح وجهها تنتظرنا بقلق بالغ وتتساؤل عن تأخر رجوعنا بلهجة جدية ممتزجة باللين والرفق وتتأكد من عدم إصابتنا بمكروه. ولا يمكن أن ننسى تلك المشاهد فعندما ينزل ببيتنا الضيوف تستقبلهم بحفاوة ساخنة، وتحضر لهم ألوان الوجبات الغذائية المختلفة.

ولكن واأسفا كل الأسف، ففي الآونة الأخيرة قد انتشرت طفرة غريبة وظاهرة مروعة في المجتمع، وقد انفكت الأواصر بين الأم وأبناءها…

الأم هي روحنا والكنز الذي عشش في ذاكرتنا ومدرستنا الأولى في حياتنا..

يقول شاعر:

الأم مدرسة إذا أعددتها     أعددت شعبا طيب الأعراق