تبقى الكتابة الشعرية فعل مكاشفة ومساءلة للذات، وحين تكون هذه المكاشفة مصحوبة بالدهشة والقلق والرؤيا، فإننا لا نتوقف عن التفكير في طرق عوالم جديدة، وصقل التجربة الشعرية من منطلق الوعي بالكتابة والتسلح بالمدارك المعرفية والقرائية، فكل تجريب جديد يحتاج إلى وعي والوعي تسبقه قراءة واطلاع وتشرب واقتناع بالفكرة، ثم تخرج هذه الفكرة في حالة اللاوعي الطبيعية أثناء الكتابة الشعرية وفي النهاية تشكل تيمة وصفة تسم كل تجربة شعرية.
إنها لحظة الولادة أو القبض على الإشراقة الأولى للمعنى الشعري قبل الدخول إلى فضاءات بنائية تحتضن شغبها وجنونها، فالتجربة الشعرية تتشكل من حالة شعورية أو قل هي شحنة وجدانية تندفع بقوة لتنزف على البياض، وهذه الشحنة الحسية تستقي مكوناتها وتجاربها من تعدد الروافد المقروئية والثقافية، وأيضا من رؤى الشاعر للأشياء، والمناخات والطقوس اليومية للكتابة. فالقصيدة كما يقال تنطلق من تجربة الشاعر ومنطلقاته الفكرية، لكنها في النهاية تؤسس للغة والرؤى والدهشة، وليس ثمة غرابة أن كل شاعر يطرح تجربته الشعرية بنفس مغاير ومختلف عن الآخرين، ويطرح اشتغالا آخر ونسقا آخر للكتابة، إذ لابد للشاعر من صوت خاص، ولغة خاصة، ورؤى خاصة حتى يستطيع تجاوز الأشكال الشعرية التي تلقي بظلالها في مناخ شعري متجدد، ومتغير باستمرار: إن الأساس في حركة الشاعر هو السعي لتقديم نصوص جديدة، مدهشة وثرية، نصوص تضيف ولا تكرر، نصوص تمتح من النبع الخلاق الموجود في أعماق البشر عموما، والشعراء بشكل خاص، لأن طبيعة عملهم تفرض عليهم الانفتاح على العالم: الداخلي والخارجي، والانشغال الدائم بالرصد والإصغاء والتأمل، وامتلاك المهارات التي تمكنهم من اصطياد لحظات الفيض الباطني والسيطرة على اللغة بهدف استغلال طاقاتها وترويض إيحاءاتها، والتمكن في النهاية من تقديم عمل إبداعي يفاجئ المتلقي ويدهشه، ويثري نظرته للعالم، وإحساسه بالوجود، وهذا الانشغال الدائم بالرصد والإصغاء يمنح التجربة الشعرية مزيدًا من النضج والاندفاع نحو تحرير القصيدة من طابعها الجامد، المستغلق إلى طابع رؤيوي آفَّاق، لأن الرؤيا هي جسد القصيدة، ولا يمكن للشاعر أن يكون بهذا القدر من التبصر والتوحد مع الأشياء وما يتيحه العالم من فرص اقتناص إشراقات القصيدة ومجاهلها دون ذوبانه وتوحده المطلق مع الرؤيا بمعناها الاستيهامي الحلمي.
التجربة الشعرية كفعل مكاشفة، وكرؤيا مجسدة تعبيريًا في منجز نصي، لابد لها من النضج الكافي، ومرورها بكثير من المنعطفات، حتى تحقق ذاك الترابط الخفي بينها وبين الشاعر
لذلك فإنّ شعر الرؤيا يرتقي بالذات ويتلذذ بكل ما هو جمالي، بقدر ما (يرفع النقاب من البداية عن كل شيء، عن كل ما نتناوله ونتداوله بعد ذلك في لغتنا اليومية الجارية. فالرؤيا الشعرية وما تمثله من قمم إبداعية تتصادى وتتنامى في حضن التجربة عبر فضاءات تكشف الثاوي والخفي في الدواخل، وهذه الرؤى توطد الصلة مع الشاعر وتعمق من نظرنه للأشياء المحيطة، بالعالم الخارجي، بالتحولات المجتمعية والشعرية، ولا يمكن لصلة الشاعر بعالمه أن تكون بهذا المستوى إلا إذا كان مسكونا برؤيا حقة، تتيح له تمثل العالم والانغمار فيه، والتفاعل معه تفاعلا داخليا وهاجا. من هنا،كانت الرؤيا أحد الروافد الأساسية في إغناء التجربة الشعرية، ومدها بالعمق الذي تسعى إليه، لا معنى للقصيدة دون أفق يكشف لها تلك المعاني الثاوية في الأعماق.
لاشك أن الشعرية العربية تمر بانعطافات وتحولات عسيرة في وقتنا الراهن، لأن الكثير من كتابها يفتقرون لأبسط شروط الممارسة الشعرية، والخلل واضح: فعل الإدهاش مغيب، أو نقول متحجب وراء ذائقة شعرية معطلة، وغياب مشروع شعري متكامل الرؤى. دعونا نتساءل: هل القصيدة العربية الراهنة تعيش أزمة تلقٍّ ونقد؟ إن كانت أزمة قراءة، فتلك معضلة لا تخص الإبداع الشعري وحده، بل كل الأجناس الإبداعية الأخرى، ألا نجد أنفسنا منجذبين لشعر المتنبي وطرفة بن العبد وأبي تمام وغيرهم رغم مرور كل هذه السنوات؟ ألا تغرينا غنائية محمود درويش، وغموض أدونيس، وعمق محمد بن طلحة وتفاصيل سعدي يوسف؟ إنها الرؤيا كفعل يعمق التجربة بما فيها من حالات قلق وإدهاش، وطاقات تفجيرية وسعي حثيث نحو اقتناص جوهر الأسئلة: أجل، إنّ أحدا لا يستطيع أن يلغي الشعر لأنه بذلك يلغي الإنسان، من يقول ذلك هو أشبه ما يكون بالقنبلة النيوترونية التي تبيد الناس، كما تبيد الحشرات، وتبقي الأشياء على قيد الحياة. والمتأمل للراهن الشعري العربي الآن قد يلحظ ذلك التكلس الذي يطبع الكثير من النماذج الشعرية، وفي اعتقادي أن التناصية السلبية والاجترار وغياب الرؤيا هي من الأسباب التي جعلت القصيدة تسقط في التهلهل والضعف، وقلما تجد شاعرا بفتوحات رؤيوية خلاقة إلا ما ندر أو سقط سهواً في بحر الأسئلة العميقة.
ما يجعلنا ننظر إلى الراهن الشعري بنوع من الابتهاج هو هذه الحركة التي تعرفها الساحة الثقافية، وتعدد التجارب الشعرية وكثرة الإصدارات.
إن افتقار الشاعر الحديث إلى رؤيا شعرية تميزه، وتجعله هو نفسه دون سواه، قد أدى إلى هذه النتيجة المدمرة: ضياع التفرد وفقدان النبرة الخاصة في معظم الشعر الذي تكتبه الأجيال المتأخرة، لقد تناثرت شظايا الأسيجة، وتداخل دخان القرى، وامتزجت الحقول ببعضها، فما عدنا نفرق بين قصيدة هذا الشاعر وقصيدة شاعر سواه، ما عاد في وسع القارئ كما كان سابقا، أن يميز ما يقرأ، وكان من الطبيعي أن تفشل هذه النماذج في ترجمة تلك الشحنات الانفعالية إلى رؤى تتحول إلى نهر متدفق من الجمال والإبداع، غير أن ما يجعلنا ننظر إلى الراهن الشعري بنوع من الابتهاج هو هذه الحركة التي تعرفها الساحة الثقافية، وتعدد التجارب الشعرية وكثرة الإصدارات. وإذاً، ينبغي أن يمشي الشعر في الظلمة ويعثر على قلب الإنسان، على عيون المرأة، على المنسيين في الطريق، هؤلاء في ساعة حالكة أو في عرض ليل تشغله النجوم- يحتاجون إلى الشعر، ولو كان بيتا واحدا. وبعد، فالتجربة الشعرية كفعل مكاشفة، وكرؤيا مجسدة تعبيريا في منجز نصي، لابد لها من النضج الكافي، ومرورها بكثير من المنعطفات، حتى تحقق ذاك الترابط الخفي بينها وبين الشاعر، ولتحقق ذلك لابد من اختمار التجربة والوعي المستمر، بقيمة فعل الإبداع عبر سلك طرق المكابدة والأناة والدربة، لأن صنعة الشعر ليست عارضا طارئا أو خاطرا عابرا- كما يعتقد البعض- بل لابد من العذاب المزدوج حسب تعبير علي جعفر العلاق، وهو معرفة المعاناة ومعاناة المعرفة، ثم لابد لهذه التجربة الشعرية من إحساس كامل بجدوى الكتابة والاحتراق والتوحد بالألم، ومن الطبيعي أن تكون هذه التجربة بحجم الفجيعة والأنين قبل القبض على الإشراقة المجنحة، ومحاولة هتك حجب النص الشعري بكل سعة صدر وقدرة على التخييل وضبط اللغة وبناء شامل للمعنى والعزف على وتر التحزن والتفجع.
على النقد أن يراعي ما أمكن” خصوصية” النص الشعري العربي، ووضعه في سياق الحركة الثقافية، وفي صلب التحولات الكبرى التي تعرفها الشعرية العربية، ونعني هذا ضمنيًّا أن يكون النقد داعمًا للتجربة.
يؤسس النقد بوصفه عملية إبداع ثانية لخطاب ضاجّ بالصخب وبالاندفاع إلى الوراء، بدل النظر بعمق للنص الشعري والنفاذ إلى دواخل التجربة، وربما سيظل هذا الصخب النقدي فترة طويلة مشتعلا بالوعود تارة والانبهار بالمناهج الجديدة تارة أخرى. وندرك مسبقاً أن الجهاز النقدي منذ إواليته الأولى قد جَنَّد كل طاقاته من أجل الحفر في أعماق النص الشعري، وإن بدا (بدائيا)، لكن على الأقل كانت له الجرأة على مساءلة النص أمام ما نراه الآن من عجز على تمثل التجربة الشعرية، والغوص في ثناياها التعبيرية والجمالية. وإذا رجعنا إلى واقعنا الثقافي سرعان ما تبرز أمامنا مفارقة غريبة: أن هذا المفهوم شأنه شأن القصيدة التي أسند إليها ما يزال هو الآخر رجراجا يستعصي بدوره على التحديد والضبط، والواقع أن الممارسة النقدية مازالت لم تتخلص بعد من المقولات القديمة رغم التحول في الشعرية العربية سياقا ودلالة ومنجزا نصيا، وهنا تطرح إشكالية الأصل والامتداد في التعاطي مع النص الشعري ووضعه في مجهر النقد، وضرورة الخروج من تلك” الرقعة الضيقة” والنظر إلى المعنى الشعري بمرآة شفافة، بدل التعثر بالأهواء والنظريات الجوفاء، ثم إن هذه الرحلات المتوالية إلى المناهج الوافدة لن يخدم بتاتا النص الشعري، لأنه نقد مبني على حالة من الانبهار وليس حالة تفاعل وتلاقح. صحيح أن هذه التيارات الجديدة أضافت لجهازنا النقدي آليات اشتغال جديدة، لكنها أكدت فشلها الذريع – على الأقل- في تعاطيها مع التجربة الشعرية المعاصرة كتجربة في حاجة ماسة إلى أفق نقدي متصل بطقوسها وأهوائها ومنطلقاتها. ومع ذلك، فلسنا ضد هذه النظريات الوافدة من الغرب، فهي حق مشترك بين الآداب العالمية وتتصل بجذور الإنسانية، (فسنة الله اقتضت أن يكون لبعض الحضارات السؤدد الحضاري في مقابل خمود البعض الآخر، وذلك لفترات زمانية محددة، ثم تتبدل الأدوار … وهكذا، مع الآخذ بعين الاعتبار أن سنة الله – التدافعية- اقتضت أيضا – لكي تتحقق- أن تشكل الحضارة الإنسانية في مجملها سلسلة مشتركة الحلقات بين الأمم، بحيث تحمل كل حضارة بين طياتها مبدأ الأخذ من سابقتها، والعطاء للاحقتها. وبذلك تتحقق منظومة التكامل الإنسانية.
لكن على هذا النقد أن يراعي ما أمكن” خصوصية” النص الشعري العربي، ووضعه في سياق الحركة الثقافية، وفي صلب التحولات الكبرى التي تعرفها الشعرية العربية، ونعني هذا ضمنيًّا أن يكون النقد داعماً للتجربة، ومقيما في تربة النقد العربي، ومحددا لمسار النص الشعري دون إغراقه في بحر من النظريات، ومحاولة إلغاء ذاك التشوف الحدسي الذي يصبو إليه، وفي ذلك فاعلية أكثر دون احتفاء بوصفات منهجية آتية من تربة غير تربتنا العربية، وأفق مغاير للأفق العربي، وهذا يتيح لنا فرصة وضع النص في صميم الانشغال التأويلي النقدي، ففي التأويل تجاوز الظاهر المعلن إلى الباطن الثاوي في مجاهل النص، وكشكل من أشكال الحوارية مع التراث واشتراطات الحاضر.
وبهذا يمكن أن نخرج نقدنا من جموده ومن سجن النظريات الوافدة، وأن نسهم في تأصيل مذهب نقدي نعطي فيه أكثر مما نأخذ، متفاعل ومندمج مع ما ينتج هنا وهناك، بدون تحرج، ولا خوف من رهن مشهدنا النقدي في بوتقة النقل أو الرفض أو التوفيق.