رواية “نوميديا”.. سؤال الهوية وتنازع القيم

مفهوم الهوية

يجمع الكثير من الدارسين في حقل علم الاجتماع، بأن الهوية تتحدد وفق ثلاثة دوائر أساسية، وهي: ذات الفرد من خلال هويته الخاصة داخل المجتمع، ثم دائرة الجماعة في إطار الأمة، وأخيرا تمايز الأمة عن باقي الأمم. يعني ذلك، أن الهوية هي عبارة عن دوائر متداخلة فردية ومجتمعية وكونية، قاسمها المشترك هو التمايز والاختلاف في أفق تشكيل هوية ذوبانية انصهارية يمكن أن نطلق عليها بـ”الهوية المشتركة”. وقد اعتبر المفكر الفرنسي أليكس ميكشيللي أن الهوية عبارة عن “منظومة من المعطيات المعنوية والإجتماعية التي تنطوي على نسق من عمليات التكامل المعرفي، ولكن لا يمكن لمثل هذه المنظومة أن تكون في حيز الوجود ما لم يكن هناك شيء ما يعطيها وحدتها ومعناها، ويثمثل ذلك في الروح الداخلية التي تنطوي على خاصة الإحساس بالهوية والشعور بها، فالإحساس بالهوية مركب من المشاعر المادية، ومركب من مشاعر الانتماء، والتكامل، والإحساس بالاستمرارية الزمنية، والتنوع، والقيم، والاستقلال، والثقة بالنفس، والإحساس بالوجود”.

   يقول الناقد الفرنسي تزيفيتان تودروف في كتابه “تفاعل الثقافات” إن:”الهوية تولد من إدراك الاختلاف”، وهذا يقودنا إلى مسألة الوعي في تشكيل الهويات، فيحدث أن تشتق بعض الجماعات هويتها الخاصة عبر اختلاق واجتراح خصوصيات لها، في المقابل، هناك اشتقاقات سلبية للهوية من خلال “وعيها بخصوصياتها التي تتمثل فيما لا ينتمي إلى الآخرين. وهذا يستلزم القول بأن الهوية ليست حقيقة موضوعية وواقعية وثابتة. إن مفهوم الهوية يتخذ أبعادًا عديدة، وبالتالي يصعب الإحاطة بالمفهوم إحاطة دقيقة ومحددة، وهذه بعض أنواع الهويات نوردها على سبيل التمثيل لا الحصر: الهوية السردية، الهوية الثقافية، الهوية التفاضلية، الهوية المظهرية الشكلية، الهوية التجارية، الهوية المتخيلة، وغير ذلك.

   سؤال الهوية وتنازع القيم في رواية نوميديا

الروائي المغربي طارق بكاري

نوميديا” للروائي المغربي طارق بكاري، هي رواية تغوص عميقاً في بنية المجتمع المغربي في علاقته بالآخر، إما انغلاقًا أو انفتاحًا، واللافت في هذا المنجز الروائي هو سؤال الهوية الذي يعيشه البطل مراد [أوداد، الوعل بالأمازيغية]، في علاقته بالمكان، تلك القرية الصغيرة “إغرمْ”. يعني ذلك، أن رواية نوميديا تحتفي بالهامشي، بالمنسي، بتشظي الذاكرة حين تصير منفى أو قفصًا لتواتر الذكريات. يقول السارد في الصفحة 11:”كنت أعلم أنني أقترف بعودتي المجنونة إلى هذه القرية خطأ فادحًا، وأن هذه العودة لابد أن تحرك بسخط كل ذكرياتي الراسبة. أعود إلى إغرم مضرجًا بأوجاع جديدة، أعود لأوقظ تعبًا قد خلته إلى وقت قريب قد انطفأ نهائيًا… في إغرم – هذه القرية الغريبة والجميلة- سيشتعل فتيل الذاكرة، وسيحترق ذلك حبل النحيل شيئًا فشيئًا، وستنتهي ناره إلى الحزام الناسف الذي يطوق القلب المتعب”.

في هذا السفر السردي، يسعى طارق بكاري إلى استعادة الهوية عبر شراء الفندق الذي شُيِّدَ في قرية إغرم بعد أن تم عرضه في المزاد العلني، ثمة حبال سرية تربط مراد بالمكان، ونحن نعرف أن المكان له سلطة، وهو أيضًا حيِّزٌ نفسي قبل أـن يكونَ شكلاً معماريًا، وعلى هذا الأساس، فالمكان يسكن فينا على نحو ما، يُعشش بنوع من الألفة أو الوحشة في ذاكرتنا، ليصبح جزءًا منها يموتُ بموتها ويحيا بحياتها، وهذا ما حصل مع مراد رغم مُقامه في باريس، وتعرُّفهِ على جوليا تلك الفتاة الجامعية، الشقراء التي تُعدُّ دراسة حول الشرق، لكنه سرعان ما سيسقط في عشق جسدها، موقف كهذا، يذكرنا برواية الطيب صالح “موسم الهجرة إلى الشمال”، وجدلية الشرق/ الغرب التي ما فتئت تُضيء المحكيات الروائية العربية، ثمة صراع خفي حول الهوية، العودة إلى المهد، فالأشياء تعود إلى أصلها، والعودة إلى إغرم كان لابد منها كمحاولة للإجابة عن الأسئلة الشائكة. في هذا الصدد، يقول الناقد المغربي سعيد بوكرامي إن “مراد اختلق من العدم ويعود إلى العدم. ينتصر لتراجيديا الإنسان الذي بلا هوية ويرثي مصير الأقليات المتبددة بين ماض وأصل يتلاشى شيئًا فشيئًا وبين حاضر يستأصل عنوة المعالم الثقافية المتبقية”.

تنبني رواية نوميديا أيضا على الذاكرة الجريحة، وتتطبع بطابع مرآوي في تسريد الأحداث، حيث تخوض في أسئلتها الراهنة  من خلال لعودة المستمرة إلى الماضي كنوع من الهروب من واقع المرض اللعين، مراد لا يُحبُّ الوصفات الطبية، دواء الداء في هذه الألفة مع المكان الذي غادره، ثم عاد إليه مرة أخرى، إنها رواية مركبة في فضاءاتها التخييلية، غير معزولة عن سياقات المجتمع المغربي وتحولاته، واللافت أيضاً أنها رواية كُتبت بحرفية عالية، وبقدرة على التخييل والبناء السردي المحكم، بحيث يغمرك شعور بالتشويق وأنت في حضرتها قياسا للعديد من السرود الروائية، خصوصا أنها رواية تنتمي إلى “الروايات البدينة” بتوصيف الناقد المغربي سعيد يقطين، وهذا في حد ذاته تحدٍّ كبير من روائي شاب، فهو ليس في حاجة إلى وصايا امبرتو إيكو، بل وُلد ليكون روائياً سيكون له شأن كبير في عالم الرواية العربية، ثم هناك مسألة أخرى غاية في الأهمية، وهي أنها تُعتبر أول رواية في مسار طارق بكاري، وتتوفر فيها كل شروط النضج الروائي على كافة المستويات، فهي تحاول هدم ما علقَ في الذاكرة من ترسبات ماضوية، وطرح كل سرودها وإشكالاتها عبر التموجات النفسية، لا نقول، إنها رواية تمتح من الحقل النفسي- السلوكي، وإنما تدخلك في متاهات متشعبة من الحكي والعلائق المختلفة سواء مع الفضاءات المنغلقة أو المفتوحة، أو مع الشخصيات في اختلاف مرجعياتها الثقافية والعرقية، جوليا العاشقة والعشيقة، خولة المنتحرة، نوميديا العشق الكبير، ثمة مزيج من الأحداث والبؤر يُحاول طارق بكاري، كتابتها روائياً، دون التخلي على صوت السارد الذي يبدو متعالياً، متحكماً في لعبة السرد.

“نوميديا” رواية للذاكرة، للكتابة فوق الأنقاض، وسفر في المتخيل، لكنه سفر يحتاج إلى الكثير من المؤانسات السردية وما تفتحه من قنوات للتواصل مع القارئ، على اعتبار أنه مشارك في عملية الحكي، تحديداً في حاجة إلى قارئ مشاء بتعبير إيزر، قادر على اكتشاف هذه القارة من المتتاليات الحكائية، ولا شك، أن هذه الرواية صرخة ضد النسيان، هي رواية تحتفي بالإنسان في علاقاته المتعددة والمتشابكة، فضلاً على أنها مشتل لتجريب العديد من التقنيات السردية والاسترفاد من مرجعيات وتنظيرات أكبر النقاد والروائيين، يكفي أن نذكر الكرنفال الباختيني الذي يتخلق في كل أجزاء الرواية على سبيل المثال لا الحصر.

الإحالات:

1- أليكس ميكشيللي، الهوية، ترجمة: علي وظفة، دار الوسيم للخدمات الطباعية، دمشق، ط 1، 1993، ص 129.

2- تزيفيتان تودروف، تفاعل الثقافات، ترجمة: مجموعة من الباحثين –  مجلة فصول، العدد 2، المجلد 12، 1993-، ص 125.

3- نادر كاظم، تمثيلات الآخر، صورة السود في المتخيل العربي الوسيط، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط 1، 2004، ص 58-59.

4- طارق بكاري، نوميديا، دار الآداب للنشر والتوزيع، بيروت، ط 1، 2015.

5- ضمن مقال “نوميديا، رواية الهوية الضائعة”، سعيد بوكرامي، ملحق عكاظ الثقافي، 03 يوليوز 2016.